70 عاما على النكبة: معارك الجيش المصري بين الهدنتين 1948 (2/21)

امتاز جنود الجيش المصري بالشجاعة والتضحيات الجسام، وسقط منهم المئات من الشهداء، بينما كانت إدارة وتنظيم المعارك من السوء بمكان، بحيث أن الجيش خسر معارك كثيرة، كان باستطاعته الانتصار فيها، لو توفرت الخطة الصحيحة والكفيلة بتحقيق الغلبة

70 عاما على النكبة: معارك الجيش المصري بين الهدنتين 1948 (2/21)

صورة توضيحية

الجزء الثاني من معارك الأيام العشرة في النقب والساحل الجنوبي 1948- حتى دخول الهدنة الثانية


كانت هزيمة المصريين في معركة "نچبا" كبيرة جدا، إذ كانت الكتيبة التاسعة مشاة، والتي تولت مهمة إخضاع المستعمرة الصهيونية، تعتبر كتيبة النخبة المصرية، واعتقد البعض أنها لن تهزم، أو على الأقل لا يمكن هزمها من قبل العصابات الصهيونية. كذلك سقط المئات من الشهداء والجرحى، وخسر الجيش المصري كميات كبيرة من المعدات، إلى درجة أن اللواء أحمد المواوي، قائد القوات المصرية في فلسطين، لم يصدق اللواء محمد نجيب (الذي أصبح الرئيس المصري الأول بعد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢) عندما طلب تعزيزات للقوات التي يقودها، بعد المعركة بأيام، حيث أن اللواء المواوي اعتقد أن نجيب يبالغ، ونعته بالكذاب، ونشب بينهما خلاف شديد بسبب هذا الأمر.

كان المواوي قد رفض خطة نجيب للهجوم على مستعمرة "نچبا"، وأصر على تنفيذ خطته هو، والتي يشوبها الكثير من الأخطاء، حسب رأي محمد نجيب، ولما رفض هذا أن ينفذ خطة المواوي، قام بإعفائه من قيادة المعركة، ولكنه عاد وطالبه بأن يقود عملية الانسحاب المعقدة، في ظل القصف الصهيوني الشديد للمنسحبين.

أما الصهاينة، فقد كان هذا بالنسبة لهم إنجازا لا يقاس، بل إنه تحوُّل في مجرى المعارك، فمستعمرة "نچبا" بالنسبة لهم هي مركز العمليات العسكرية في هذه المنطقة، وطالما كان لديهم الخوف من أن يهاجم المصريون المستعمرة وبذلك يحققون إنجازا كبيرا في الحرب، من شأنه القضاء على أحلامهم، أي الصهاينة، في الإبقاء على مستعمرات النقب، بل إن ذلك سيشكل هزيمة كبيرة لهم، ولربما يؤدي إلى تركهم النقب كليا للعرب، كما في خطة الوسيط الأممي برنادوت الذي كان جزء من اقتراحه أن يعطى النقب للعرب.  

يستطيع الصهاينة إذا، أن يكثفوا من هجماتهم ضد القوات المصرية، بل وصاروا يعتقدون أنهم سيحسمون المعركة لصالحهم. لم تعد هذه معركة دفاعية بالنسبة لهم، ولذلك سيهاجمون المصريين قدر استطاعتهم، قبل حلول هدنة ثانية عليهم في الأيام القريبة.

الهجوم الصهيوني يبدأ فورا

تحضيرا للهجوم على مستعمرة "نچبا"، قام الجيش المصري بالسيطرة على تلة رقم ١٠٥، والتي تقع شمال شرقي المستعمرة. ولما لم ينجح في مهمته باحتلالها، أي المستعمرة، قرر أن يتمركز على هذه التلة من أجل يستعملها في أي هجوم مستقبلي على "نچبا"، وأوكلت مهمة تحصين التلة لكتيبة سودانية قدمت إلى ارض المعركة، وابتدأت هذه في تنفيذ مهمتها فورا بعد انتهاء القتال في ١٢ تموز/ يوليو ١٩٤٨.

صدرت الأوامر العسكرية الصهيونية للكتيبة الرابعة من لواء "چڤعاتي" أن تهاجم التلة رقم ١٠٥، وتمنع القوات المصرية من التمركز عليها، ولذلك كان على الكتيبة تنفيذ الهجوم في نفس الليلة بعد الهجوم على "نچبا"، أي ليلة ١٢-١٣ تموز / يوليو ١٩٤٨، على أن يبدأ الهجوم عند الساعة ٢٣:٠٠. استمرارا لهذه الحملة وفِي الليلة التي تليها على الكتيبة الثالثة إحضار قافلة إمدادات إلى مستعمرة "نچبا"، إذ أن احتلال التلة ١٠٥، يؤدي إلى فتح الطريق أمام القوات الصهيونية الأخرى إليها.

انتقل مقاتلو الكتيبة الرابعة من "چڤعاتي" إلى قرية جولس بواسطة سيارات عسكرية، ومن هناك انطلقوا باتجاه التلة ١٠٥. كان هناك تلتان وليس تلة واحدة فقط، الجنوبية منهم أكبر وأعلى من الشمالية، ولذلك انقسمت القوة الصهيونية إلى قسمين، كل واحد منهما كان عليه أن يحتل إحدى هذه التلال. أما القسم الذي هاجم الناحية الشمالية فلم يجد جيشا مصريا عليها، ولذلك عاد فيما بعد لمساعدة القسم الآخر الذي كان قد بدأ هجومه عند الساعة الواحدة ليلا، ووصل إلى التلة، واخترق الأسلاك الشائكة، والتي كانت بعيدة عن تمركز الجيش المصري، حيث فتح هذا النار بقوة، موقعا عددا من القتلى في الجانب الصهيوني. لم يستطع الصهاينة التقدم نحو القوة المصرية والتي فتحت نيران رشاشاتها الكثيفة. وحتى قدوم القوة التي هاجمت التلة الأخرى، لم يساعد في شيء، إذ أن المدافع الرشاشة المصرية، لم تترك للقوات الصهيونية أية فرصة للتقدم بدون خسائر فادحة.

استدعى القائد الصهيوني النجدة عند الساعة الثالثة صباحا، فقدمت لنجدته قوة سيارات "الجيب" المكونة من اثنتي عشرة قطعة نصب على كل واحدة منها مدفع رشاش.

انطلقت السيارات الاثنتي عشرة لنجدة القوة الصهيونية المهاجمة، وعندما اقتربت من التلة، فتحت نيران كل مدافعها الرشاشة باتجاه القوة المصرية على التلة. كانت النيران قوية جدا، إلى درجة أنها غيرت مجرى المعركة، وأصبحت القوة المصرية تتعرض لوابل من رصاص الرشاشات بحيث أن جنودها لم يستطيعوا رفع رؤوسهم، ولكن رغم ذلك صمدت القوة لساعات، ورغم الخسائر الفادحة بالأرواح إلا أنها لم تتلق أوامر بالانسحاب، حتى تدخل البكباشي جمال عبد الناصر، الذي كان مصابا، ووضع خطة الانسحاب، وعرضها على قائد الكتيبة، والذي حولها بدوره إلى قيادة اللواء الرابع، وحصل على إذن بالانسحاب في الساعة ١٣:٠٠، بعد أن تكبدت القوة المصرية خسائر فادحة جدا، قدرت بأكثر من مئة شهيد. انتهت المعركة بعد الظهر، بعد انسحاب القوة المصرية، ثم تلاه انسحاب للقوة الصهيونية بعد أن حققت مرادها في منع المصريين من التمركز على هذه التلة الإستراتيجية، ولكن القوة عادت ليلا، وتمركزت هناك وبنت تحصينات عسكرية من أجل البقاء في المكان وإيصال التموينات لمستعمرة "نچبا".

حصار الدنجور ومعركة "چلؤون"

صدرت الأوامر للكتيبة المصرية الأولى احتياط، والتي كانت متمركزة في العريش، ما عدا سرية واحدة كانت متمركزة بالعوجا، بمهاجمة مستعمرة الدنجور (كيبوتس "نيريم") والتي هاجمتها القوات المصرية في أيار/ مايو ١٩٤٨، ولكنها لم تستطع إسقاطها. كان على الكتيبة الأولى أن تهاجم، ومن ثم تحاصر مستعمرة الدنجور حتى حصول الهدنة، وتعين الهجوم ليوم ١٣ تموز/ يوليو ١٩٤٨، بعد تدعيم الكتيبة بفرقة مدفعية ميدان خفيف عيار ٣.٧ إنش، وفصيلة رشاش من نوع "فيكرز" على سيارات مدرعة.

ابتدأت العملية بقصف مدفعي لفترة قصيرة، استهلك فيها أكثر من عشرين قذيفة فقط، ثم تقدمت سريتان تابعتان للكتيبة الأولى، سرية تقدمت من ناحية الشمال الغربي، والسرية الثانية من الجهة الشمالية الشرقية، حتى أصبحت كل منهما على بعد ١٣٠٠ متر من المستعمرة. شكلت القوة المصرية طوقا حول المستعمرة وحاصرتها حتى ١٧ تموز/ يوليو ١٩٤٨، وحتى ذلك التاريخ كانت الكتيبة المصرية تشتبك مع الدوريات التي تخرج من الدنجور أو تقترب منها، واستمر ضرب المدفعية للمستعمرة حتى ١٧ تموز/ يوليو ١٩٤٨، عندما دعيت الكتيبة الأولى إلى معركة استرداد قرية العسلوج.

في الساعة ٠٧:٣٠ صباحا من يوم ١٤ تموز/ يوليو ١٩٤٨، ابتدأت قوة مصرية صغيرة، خرجت من مركز شرطة عراق سويدان، معززة ببضع مئات من المناضلين الفلسطينيين من المنطقة، بالتحرك باتجاه مستعمرة "چلؤون". كانت القوة المصرية مجهزة بعدة سيارات مدرعة، ومدافع ٢٥ رطلا، وراجمات من عيار ٤،٢ انش و ٣ إنش، ومدافع مضادة للدبابات من أجل تدمير تحصينات المستعمرة.

ابتدأ الهجوم المصري الفلسطيني عند الساعة ٠٩:٣٠ بقصف مدفعي عنيف، وبعدها بساعتين تقريبا بدأ المشاة/ المناضلون بالتقدم من جهات عدة، من جهة الجنوب والجنوب الشرقي باتجاه بئر مياه جنوب المستعمرة، وتقدمت قوة أخرى من الجهة الشرقية بهدف اقتحام المستعمرة من هذه الجهة. فتح المدافعون الصهاينة نيران مدافعهم الرشاشة على القوات المهاجمة عندما كانت على بعد ٢٠٠٠ متر من جدار المستعمرة، ولكن هذه النيران لم تثنِ المهاجمين عن التقدم تحت غطاء المدفعية المصرية. عند الساعة ١٤:٣٠ كانت القوة المهاجمة من الجنوب الشرقي، قد صارت على بعد ٣٠٠ متر من البئر و ٨٠٠ متر من سياج المستعمرة، وهنا ابتدأ الصهاينة بقصف القوة بمدافع الهاون، مما تسبب في عدة إصابات مباشرة واستشهاد عدد كبير من المهاجمين، واضطرارهم، أي المهاجمين، بسبب تجنب القصف لأن يكونوا مكشوفين لنيران المدافع الرشاشة.

قامت المدفعية المصرية بقصف القوة المدافعة عند البئر قصفا شديدا، وخلال القصف نظم المشاة صفوفهم وهاجموا المستعمرة، حتى وصلوا إلى مسافة ٣٠ مترا من المستعمرة، ولكنهم تكبدوا خسائر فادحة اضطرتهم إلى التراجع.

في الجهة الشمالية الشرقية، دخل المهاجمون إلى حقل ألغام وتعرضوا إلى قصف القوات الصهيونية مما أدى إلى سقوط الكثير من الشهداء، مما اضطرهم إلى الانسحاب. أما باقي المهاجمين من الجهة الجنوبية الشرقية فتعرضوا لنيران الأسلحة الرشاشة فانسحبوا أيضا بعد أن تكبدوا خسائر جمة. 

انتهى الهجوم الفاشل، والذي يرجح أن هدفه الأساسي كان لإلهاء الصهاينة عن منطقة "نچبا" بسبب الخسائر الفادحة للواء الرابع المصري، وحاجته إلى تنظيم صفوفه من جديد. استشهد في هذا الهجوم أكثر من خمسين فلسطينيا ومصريا، ولكن القصف المدفعي استمر حتى المساء، وعندما توقف كان قد دمر كل بيوت ومباني المستعمرة.

الهجوم الصهيوني على بيت عفة

وضعت قوات "چڤعاتي" خطة لمهاجمة القوات المصرية في بيت عفة وحتا، واحتلال هاتين القريتين، وتنفيذ هجوم على قرية كراتيا، حيث أن الصهاينة اعتقدوا أن مركز العمليات العسكرية المصرية موجود في كراتيا، وأن هناك قوة مصرية كبيرة في هذه القرية، ولكن هذه المعلومة كانت خاطئة حيث تواجدت هناك قوة مصرية قليلة العدد.

في المقابل كانت قرية بيت عفة محصنة جيدا، وتتمركز فيها السرية الثانية والثالثة من الكتيبة الثانية مشاة، بالإضافة إلى سرية سودانية، وجماعة مدافع ماكينة، وجماعة هاون عيار ٣ إنش، وجماعة مدفعية عيار ٦ أرطال. أما قرية حتا فتواجدت فيها قوة صغيرة لا تكفي لتنفيذ الدفاع عنها.

انطلقت القوة الصهيونية في الساعة ٢٢:٣٠ من يوم ١٤ تموز/ يوليو ١٩٤٨ بواسطة السيارات العسكرية، وعندما وصلت إلى مفرق جولس - "نچبا" ترجلت القوة وتوجهت مشيا على الأقدام، وعندما وصلت إلى بعد ١٠٠ متر من الجهة الشمالية الشرقية للقرية، أعطيت الأوامر بالهجوم بالرشاشات والقنابل اليدوية، مما فاجأ تماما القوة السودانية المتواجدة في هذه المنطقة، لذلك تمكنت القوات المهاجمة من الدخول إلى القرية واحتلال بعض البيوت، والبدء في القضاء على المقاومة فيها.

استمر التقدم الصهيوني، حتى وصل جنوده إلى مركز قرية بيت عفة، حيث وجدت القوة نفسها في داخل ساحة كبيرة، يقع مركز القيادة المصرية في أحد البيوت المشرفة عليها، عندها أعلن قائد القوة المهاجمة لقيادته أن القرية أصبحت في أيديهم، ولكنه بحاجة إلى دعم حتى يستطيع الثبات في مواقعه، وكان ذلك بعد ساعة من بدء الهجوم.

أما الجانب المصري فقد أعاد تنظيم صفوفه، ونفذ هجوما مضادا عند الساعة ٠٣:٣٠، وابتدأ بقصف القوة المهاجمة بمدافع الهاون من داخل القرية وخارجها، واستمر القصف حتى الساعة ٠٥:٢٥ عندما ابتدأت القوة الصهيونية بالانسحاب، خوفا من طلوع الشمس وتعرضها لخسائر فادحة في معركة مكشوفة. استمر الانسحاب حتى الساعة ١٣:٠٠، عندما استعاد الجيش المصري السيطرة الكاملة على قرية بيت عفة.

في نفس الليلة نفذ الجزء الثاني من الخطة، إذ هاجمت السرية الثانية من الكتيبة الرابعة للواء "چڤعاتي" قرية حتا، واستطاعت احتلال جزء منها، ولكن المصريين أمطروا القوة المهاجمة بنيران مدافعهم الرشاشة مما اضطرهم إلى الانسحاب عند طلوع الفجر.

الهجوم المصري على مستعمرة "بيرون يتسحاك"

تقع مستعمرة "بيرون يتسحاك" جنوب غربي مدينة غزة على ربوة عالية، مما يعرض غزة وميناءها للخطر، ولذلك تلقت الكتيبة الثالثة مشاة المصرية أوامر بالهجوم والسيطرة على المستعمرة، وكان الأمر في ٩ تموز/ يوليو ١٩٤٨، على أن يتم الهجوم في ١٥ من نفس الشهر، بعد استتمام استكشافات القوة الصهيونية داخل المستعمرة وتجهيز الهجوم.

كان على الكتيبة الثالثة أن تهاجم المستعمرة، مدعمة بالسريتين الخامسة والسادسة السعوديتين، مع بطارية مدفعية عيار ٣،٧ إنش، وسرية سيارات مدرعة، وفصيلة مدافع ماكينة خفيفة، وسريتي دبابات خفيفة، ومجموعة مدفعية ميدان ٢٥ رطلا، ومجموعة مدفعية ميدان متوسط ٦ إنش. بالإضافة إلى سرب مقاتلات وسرب قاذفات قنابل من القوات الجوية المصرية.

كانت خطة الهجوم كالآتي: يكون الهجوم الرئيسي من الجهة الجنوبية للمستعمرة، بواسطة الكتيبة الثالثة وسرية دبابات، وفِي نفس الوقت تقوم السريتان السعوديتان بمهاجمة المستعمرة من جهة الغرب، بحيث تتقدمها سرية دبابات حتى تصل إلى بعد ٤٠-٤٥ مترا من سياح المستعمرة، عندها يقتحم المشاة الأسلاك الشائكة. أما سرية السيارات المدرعة فتهاجم التلال الموجودة شمال شرقي المستعمرة، بينما تقوم المدفعية والطائرات بقصف المستعمرة تمهيدا للهجوم.

ابتدأ الهجوم عند الساعة الخامسة صباحا يوم ١٥ تموز/ يوليو ١٩٤٨، بقصف جوي بالقذائف والقنابل الحارقة، بعدها بساعة ابتدأت المدفعية بقصف المستعمرة بوابل من القذائف. عند الساعة ٠٧:٣٠ بدأت القوات الأرضيّة بالتحرك باتجاه المستعمرة، وتمكنت سرية من الكتيبة الثالثة المصرية وسرية سعودية من اقتحام الأسلاك الشائكة، وهرعت إلى تطهير بيوت المستعمرة من المقاومين، وسيطرت على نصف المستعمرة قريبا. باقي السرايا لم تستطع أن تصل إلى داخل المستعمرة بسبب المقاومة الشديدة، ووجود الألغام وتعرضها لنيران كثيفة من المدافع الرشاشة من داخل التحصينات في المستعمرة.

رغم أن باقي القوات المصرية تحولت إلى الثغرة التي نجح السعوديون في فتحها، إلا أن المقاومة الشديدة من قبل الجنود الصهاينة، استمرت حتى الساعة ١٧:٠٠، حيث اضطر الجيش المصري إلى الانسحاب باتجاه غزة، إذ أن الجنود المصريين أصابهم الإرهاق الشديد، وذلك لعدم وصول قوات احتياط لتبديلهم في الوقت المناسب، كما أن قائد الهجوم طالب بأن تبدل كتيبتا احتياط القوات المهاجمة عند الساعة ١٦:٠٠، وكان طلبه متأخرا، حيث أن قوات الاحتياط لم تستطع أن تتجهز خلال ساعة واحدة.

معركة العسلوج

أصدر اللواء أحمد المواوي، قائد القوات المصرية في فلسطين، أمرا بالهجوم واقتحام واسترداد قرية العسلوج الواقعة على بعد خمسة كيلومترات إلى الجنوب من بئر السبع، وكان الصهاينة قد احتلوها في بداية الهدنة الأولى، إذ أن أهميتها الإستراتيجية تكمن في أنها تشرف على طريق العوجة - بئر السبع.

كانت الخطة المصرية تقضي بأن تقوم الكتيبة الأولى احتياط، والتي تحاصر مستعمرة الدنجور (كيبوتس "نيريم") بتنفيذ الهجوم، ولهذا الغرض تم تعزيزها بقوة من المتطوعين الليبيين المتمركزين في جبل الشريعة جنوب بئر السبع، وقوة أخرى من المتطوعين الليبيين كانت تتمركز في قرية بني غزي، الواقعة على بعد ١٥ كم إلى الجنوب من قرية العسلوج. كذلك دعمت القوة بفرقة مدفعية ميدان عيار ٣،٧ إنش، وفرقة مدفعية ٦ أرطال، وفصيلة رشاشات من نوع "فيكرز"، وفصيلة مدافع هاون ٣ إنش، وسرية من الكتيبة الخامسة بنادق.

تحركت القوة المصرية عند الساعة ١٩:٠٠ يوم ١٧ تموز/ يوليو ١٩٤٨، من رفح جنوبا إلى العوجة، وعسكرت هناك حتى الصباح تحت حراسة السرية الثالثة من الكتيبة الأولى. في الصباح الباكر من يوم ١٨ تموز/ يوليو ١٩٤٨ عند الساعة ٠٤:٣٠ انطلقت القوة شمالا إلى العسلوج، ووصلت إلى نقطة التجمع لبدء الهجوم في الساعة ٠٧:٣٠، ابتدأ الهجوم بقصف جوي كثيف، أوقع خسائر فادحة بالقوة الصهيونية من لواء "هنيچڤ"، التي تفاجأت بالهجوم، حيث أن تحرك الجيش المصري ليلا من رفح إلى العوجة إلى العسلوج تم تحت جنح الظلام، ولَم تحس القوات الصهيونية في القرية باقتراب الجيش المصري منها.

كانت سرية من لواء "هنيچڤ" تحتل موقعا دفاعيا فوق تلة أمام قرية عسلوج، تتحكم من خلالها هذه القوة بالطريق الرئيسي من العوجة إلى بئر السبع. ولذلك تركز الهجوم على هذه القوة من الجهات الأربع، فقد قام الليبيون بمهاجمة القوة من الشمال، والسرية الأولى من الكتيبة الأولى هاجمت من الجنوب، والسرية الثالثة من الكتيبة الخامسة من الشرق، وكان معها فرقة لفتح ثغرة في الأسلاك الشائكة، أما السرية الثانية من الكتيبة الأولى فهاجمت الموقع من الغرب، وبقيت السرية الرابعة كقوة احتياط في حالة الحاجة إليها.

قبل تقدم قوات المشاة قامت المدفعية المصرية بقصف مواقع القوة الصهيونية حتى الساعة ٠٨:١٥، ثم تقدم المشاة من كافة الاتجاهات، ووصلوا إلى بعد مائة وعشرين مترا من الأسلاك الشائكة عند الساعة التاسعة صباحا. أما القوة الليبية من المتطوعين، فقد استطاعت صد القوة الصهيونية، واحتلت التلة من الناحية الشمالية الشرقية، ثم دخلت إلى قرية العسلوج وبدأت بتطهير البيوت من الصهاينة.

في هذه الأثناء بدأت مجموعة من المهندسين بفتح ثغرة في الأسلاك الشائكة، ولكن العملية استغرقت وقتا أكثر من المتوقع، ولَم تنجح في ذلك حتى المساء، حيث توقف القتال نهائيا.

بعد توقف القتال، اتخذت السرية الثالثة موقعا دفاعيا على إحدى التلال، ودخلت سرية من الكتيبة الخامسة ومعها فصيلان من الكتيبة الأولى إلى البلدة وتسلمت التلال الشمالية من المتطوعين. وبذلك سيطر الجيش المصري على الطريق بين العوجة وبئر السبع، وتمت محاصرة مستعمرة "رڤيڤيم" القريبة من العسلوج.

حملة "الموت للغازي" الصهيونية

أرسلت القيادة العسكرية الصهيونية تعزيزات عسكرية لمنطقة النقب، من أجل القيام بهجوم كبير على الجيش المصري بهدف فكّ حصاره على مستعمرات النقب العشرين. كانت التعزيزات مؤلفة من مجندين من القادمين الجدد، وكتيبة من القوات البحرية، وكتيبة مغاوير (كوماندو) بقيادة "موشي ديان" من اللواء الثامن، بعد أن ساهمت في احتلال مدينة اللد. كذلك تم بناء ثلاث كتائب من القوات الخاصة في منطقة النقب، بهدف دعم كتائب "چڤعاتي" في معركتها المقبلة مع الجيش المصري.

تعين موعد الهجوم ليكون في ليلة ١٧-١٨ تموز/ يوليو ١٩٤٨، وسمي بحملة "الموت للغازي". كان التخطيط على النحو التالي: يقوم لواء "چڤعاتي" بالهجوم واحتلال قرية بيت عفة وحتة وكراتيا من الجيش المصري، بينما يقوم لواء "هنيچڤ" بهجوم من الجنوب على كوكبة والحليقات واحتلالهما. كان على الكتيبة الرابعة من "چڤعاتي" أن تهاجم بيت عفة، ووحدة المغاوير والكتيبة الثالثة تحتلان كراتيا، بينما تقوم الكتيبة الثانية باحتلال حتا وإغلاق الطرق في وجه الجيش المصري.

فشل لواء "هنيچڤ" فشلا ذريعا في هجومه على كوكبة وحليقات، حيث أن القوات المصرية شعرت باقتراب القوة من الجنوب، فقامت بقصفها قصفا شديدا بمدافع عيار ٢٥ رطلا، مما أدى إلى قتل العشرات من القوة المهاجمة، مما تسبب بانسحابها ووقف الهجوم.

هزيمة صهيونية في  بيت عفة

بعد الهجوم على بيت عفة في ١٤ تموز/ يوليو ١٩٤٨، تم تدعيم القوة المصرية المدافعة عن القرية، تحسبًا لهجوم صهيوني آخر، ولذلك تم تغيير السرية السودانية بالسرية الثالثة من الكتيبة الثانية، وتمت إضافة فصيل مدافع ماكينة، وجماعتي هاون ٣ إنش، وجماعتي مدافع مضادة للدبابات عيار ٦ أرطال. كذلك أقامت الكتيبة الثانية نطاقا من الأسلاك والألغام حول مواقعها الدفاعية.

ابتدأ الهجوم الصهيوني بقصف مدفعي كثيف على بيت عفة، من صباح يوم ١٧ تموز/ يوليو ١٩٤٨، واستمر القصف حتى الساعة ١٩:٣٠، ثم هاجمت الكتيبة الرابعة من لواء "چفعاتي" القرية من  الناحية التي تتمركز فيها السرية الثالثة من الكتيبة الثانية المصرية، أي من الناحية الشمالية الغربية، بمشاركة كتيبة من القوات البحرية الصهيونية المتشكلة حديثا. من الناحية الجنوبية الغربية للقرية، هاجمت قوة "چڤعاتي" السرية الثانية المصرية من الكتيبة الثانية. في الناحية الشمالية الغربية حققت القوة المهاجمة نجاحا، إذ استعملت قاذفات اللهب لأول مرة في المعارك، مما فاجأ القوة المصرية، فتراجعت مواقع المدفعية المضادة للدبابات، وكذلك قوة المشاة القريبة منها، فتسللت القوة الصهيونية إلى داخل القرية، ولكنها هوجمت من سرية مصرية أخرى وظيفتها سد الاختراق، فتمكنت هذه السرية من إيقاف قوة "چڤعاتي"، وقوات البحرية ثم فتحت عليها المدفعية المصرية النيران بكثافة، وصلتها بنيران المدافع الرشاشة، فاضطرتها إلى الانسحاب بعد أن تكبدت خسائر فادحة في الأرواح.

في الساعة ٢٢:٥٠ هاجمت القوة الصهيونية من الناحية الجنوبية الغربية، ولكن الدفاعات المصرية ردتها على أعقابها، بعد أن كبدتها خسائر فادحة. وقد قدرت الخسائر الصهيونية في هذه المعركة بأربع وثلاثين قتيلا، اثنان وعشرون منهم من قوة البحرية، كما تم أسر أربعة جنود، وغنم الجيش المصري ٥٥ بندقية، وأربعة مدافع  من نوع "بيات"، و ١٢ مدفعا. عند الساعة الثامنة صباحا كانت القرية تحت السيطرة المصرية الكاملة.

احتلال كراتيا وحتّا

كانت كراتيا قرية صغيرة تقع إلى الشمال الغربي من الفالوجا، وتشرف على الطريق الرئيسي المجدل-الفالوجا-بيت جبرين-الخليل، وكان فيها ٨٠ متطوعا مصريا، ومناضلون مسلحون من أهالي القرية، ولَم يكن في حوزتهم إلا مدفع رشاش واحد، ومدفع واحد مضاد للدبابات.

أما حتا فهي أيضا قرية صغيرة تقع على بعد كيلومترين شمال شرق كراتيا، وكان فيها أكثر من ثمانين مسلحا مصريا وفلسطينيا من أهالي المنطقة، وكان بحوزتهم مدفعان رشاشان فقط، ومدفع هاون واحد، ومدفع واحد مضاد للدبابات.

في الساعة ٢١:٣٠ من يوم ١٧ تموز/ يوليو ١٩٤٨، هاجمت الكتيبة الثانية من "چڤعاتي" قرية حتا، بعد قصف مدفعي عنيف، ولَم يستطع المدافعون الصمود أمام الهجمة الصهيونية المنظمة لقلة عددهم، فانسحبوا بعد فترة قصيرة إلى كراتيا.

أما قرية كراتيا فتعرضت لهجوم قوة الكوماندو ٨٩ بقيادة "موشي ديان"، وهي وحدة سيارات مصفحة. رغم تعرض هذه القوة لقصف مدفعي شديد من القوات المصرية بواسطة مدافع الهاون والماكينة، إلا أنها استطاعت أن تقتحم القرية عند الساعة الرابعة صباحا من يوم ١٨ تموز/ يوليو ١٩٤٨، حيث أن سيل المهجرين من حتا إلى كراتيا شكل عائقا أمام المدافعين، حيث أنهم لم يستطيعوا إطلاق النار باتجاه الناحية التي قدموا منها، كما أن قسما من المناضلين المدافعين عن القرية تركوا مواقعهم الدفاعية من أجل محاصرة بعض المصفحات الصهيونية، مما أدى إلى فتح ثغرة في دفاعات القرية، فسقطت بيد القوة الصهيونية المهاجمة، والتي قامت بتهجير كل سكانها وسكان حتا إلى غزة.

الجيش المصري يخفق في استرداد كراتيا

كان احتلال كراتيا يقطع الطريق الموصل من المجدل إلى الفالوجا، وبذلك يتم فصل الذراع الشرقي للجيش المصري عن خطوط التموين والإمدادات، ولذلك قررت القوات المصرية استعادة القرية مهما كلّف الثمن.

في الثامنة والنصف صباحا من يوم ١٨ تموز/ يوليو ١٩٤٨، فتحت المدفعية المصرية نيرانها على القوات الصهيونية المتمركزة في كراتيا، وفِي التاسعة ابتدأت قوة مصرية بالتحرك من مركز شرطة عراق سويدان باتجاه كراتيا، وقوة أخرى تحركت من بيت عفة مع أربع مصفحات. بعدها أصبح القصف المصري أكثر شدة، للتغطية على تقدم القوة الراجلة من الجهة الغربية للقرية. عندما وصل المهاجمون على بعد ٤٠٠-٥٠٠ متر من المدافعين، تعرضوا لوابل من رصاصات المدافع الرشاشة، فتكبدوا خسائر فادحة، مما اضطرهم إلى الانسحاب.

في الساعة ١٥:٠٠، هاجمت كتيبتان مصريتان القرية من الغرب والجنوب الغربي، بمشاركة ١٥ سيارة مدرعة، وأربع دبابات، وقصف مدفعي مكثف من مدفعية عيار ٢٥ رطلا، ومدافع الهاون. تقدمت القوة المصرية الراجلة مع دبابتين من جهة اليسار ودبابتين من جهة اليمين، وسيارات مصفحة تتقدم صفوف المشاة.

تقدمت القوة المصرية حتى مسافة ٣٠٠ متر من المستعمرة، وعندها فتح المدافعون النار عليهم، وأطلقوا قذائف من مدافع الهاون، ولكنها لم تصب الهدف، واستمرت الدبابات بالتقدم ومن خلفها المشاة، وكادت أن تقتحم الدفاعات الصهيونية، ولكن استعمال مدفع "بيات" من قبل المدافعين، أصاب الدبابة التي في المقدمة إصابة مباشرة، مما كان له أكبر الأثر على القوة المصرية التي ابتدأت بالانسحاب بعد هذه الإصابة، حيث أن موعد دخول الهدنة الثانية قد اقترب، ويظهر أن المعركة ستتعقد، ولن يكون باستطاعة الجيش المصري استرداد القرية ليديه قبل دخول الهدنة والمقرر عند الساعة ١٧:٠٠.

خاتمة

بعد دخول الهدنة، قام الجيش المصري بالسيطرة على تلال إلى الجنوب من كراتيا، وبذلك أعاد فتح خط إمدادات للجيش المصري بين عراق سويدان والفلوجة، وأفشل الخطة الصهيونية بمحاصرة الذراع الشرقي للجيش، وكذلك أبقى على حصار مستعمرات النقب عن باقي أجزاء الكيان الصهيوني.

وهكذا خاض الجيش المصري خلال الأيام التي تلت الهدنة الأولى، معارك شديدة ضد لوائي "چفعاتي" و"هنيچڤ" من الجيش الصهيوني، بدون أن يتم حسم المعركة لصالح أي من الطرفين، ولكن الوضع العسكري بعد عشرة أيّام من المعارك أصبح يميل لصالح الجيش الصهيوني الذي استطاع أن يحقق هدفين مركزيين، أولهما منع الجيش المصري من توسيع رقعة نفوذه وسيطرته، وثانيهما تثبيت نفسه كقوة ردع قادرة على التحول من الدفاع للهجوم، تحضيرا للمعارك الحاسمة المقبلة. أما الجيش المصري فامتاز جنوده بالشجاعة والتضحيات الجسام، وسقط منهم المئات من الشهداء، بينما كانت إدارة وتنظيم المعارك من السوء بمكان، بحيث أن الجيش خسر معارك كثيرة، كان باستطاعته الانتصار فيها، لو توفرت الخطة الصحيحة والكفيلة بتحقيق الغلبة.


المصادر:

1. "ابراهام إيلون"، لواء "چڤعاتي" في مواجهة الغازي المصري، إصدار الجيش الإسرائيلي؛
2. لواء دكتور ابراهيم شكيب، حرب فلسطين ١٩٤٨، رؤية مصرية؛
3. أحمد خليفة، حرب فلسطين ١٩٤٧-١٩٤٨، الرواية الإسرائيلية الرسمية، مترجم عن تاريخ الهاغاناه؛
4.  "بيني موريس"، ١٩٤٨ تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى؛
5. مجلة "معرخوت"، العدد ٢٦٣-٤، حزيران / يونيو ١٩٧٨، معارك الأيام العشرة؛
6. محمد نجيب، مذكرات، كنت رئيسا لمصر؛
7. "إليعيزر تال"، حملات البحرية الإسرائيلية في حرب "الاستقلال"؛
8. د. رفعت سيد أحمد، وثائق حرب فلسطين - الملفات السرية للجنرالات العرب؛
10. عارف العارف، نكبة فلسطين والفردوس المفقود، ١٩٤٧-١٩٥٢؛
10. لواء "هنيچڤ" في المعركة، إصدار "معرخوت" - الجيش الإسرائيلي؛
11. ٢٣ معركة في حرب "الاستقلال"، إصدار "معرخوت" - الجيش الإسرائيلي.   

التعليقات