01/06/2019 - 19:32

كيف تؤثر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على ارتفاع العنف؟

حاج يحيى: العنف في مجتمعنا هو حصيلة 70 عاما من القهر والفقر والتهميش والإقصاء| تدني جودة الحياة هو ما يخلق حالة عامة من التوتر والإجهاد النفسي والغليان والإحباط| سقف أحلام العربي الفلسطيني منخفض جدًا والدولة هي من يحدد تطلعاته

كيف تؤثر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على ارتفاع العنف؟

بروفيسور حاج يحيى

  • حاج يحيى: العنف في مجتمعنا هو حصيلة 70 عاما من القهر والفقر والتهميش والإقصاء
  • تدني جودة الحياة هو ما يخلق حالة عامة من التوتر والإجهاد النفسي والغليان والإحباط
  • سقف أحلام العربي الفلسطيني منخفض جدًا والدولة هي من يحدد تطلعاته
  • العمل يجب أن يكون أمام الدولة لرفع جودة الحياة، وداخليًا لتجنيد رأس المال الاجتماعي

عندما يتحول العنف والجريمة إلى ظاهرة تطيح برؤوس أبناء المجتمع العربي من نساء ورجال من مختلف الأعمار وفي جميع أماكن سكناهم الممتددة من النقب وحتى الجليل، وعندما يستبيح القتل الحواري والشوارع والبيوت التي كانت وادعة ليقوض الشعور بالأمان الشخصي والجماعي، عندها يفترض أن يستنفرَ المجتمعُ جميعَ قدراته وطاقاته، ليس في استصراخ ضميره الجماعي وترميم قيمه الاجتماعية المتآكلة وتوظيفها في المعركة فقط، ولا بالاستنجاد بالشرطة ومؤسسات إنفاذ القانون لوضعها أمام مسؤولياتها فقط، بل للخوض، أيضًا، في أعماق الظاهرة وفهم أسبابها التاريخية والاجتماعية- السياسية وتداعياتها المستقبلية بغرض معالجة هذه الأسباب ودرء تلك التداعيات.

حول هذا الموضوع كان هذا اللقاء مع الباحث في المجال الاجتماعي وأستاذ الخدمة الاجتماعية في الجامعة العبرية، بروفيسور محمد حاج يحيى:

عرب 48: لماذا مجتمعنا بالذات، ونحن نعرف أن إحدى الميادين الأكثر نجاحا للتعايش العربي- اليهودي هو مجال الجريمة، وحريّ بالشرطة تطبيق مقولة "دولة كل مجرميها" وتطبق القانون بالتساوي على العرب واليهود، ولماذا الآن؟

حاج يحيى: باعتقادي أنّ مشكلة العنف في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل ليست هي المشكلة الأساسية، ولا أقصد بذلك أنْ أُهمّشها أو أُقزّمها أو أن لا أعطيها الحق والحجم اللذين تستحقهما، كما لا أقصد إغفال الأبعاد والآثار الهدّامة التي تتركها على كل فرد وأسرة في مجتمعنا، من ضحايا مباشرين وغير مباشرين، بل أقول هذا لأنني أهدف إلى البحث في الخلفيات والأسباب والعوامل التي أدت إلى وجودها، والتي هي المشكلة الأساسية التي يعاني منها مجتمعنا، فإذا عالجنا تلك الخلفيات والأسباب، حينها سنخطو خطوات نافعة لعلاج مشكلة العنف والجريمة بمجتمعنا.

وبرأيي، فإنّ مشكلة العنف هي حصيلة تاريخ طويل لا يقل عمره عن 70 سنة من الاضطهاد والقمع والتهميش والإقصاء والعنصرية والتمييز العنصري والإجحاف بحق مجتمعنا بالعيش بكرامة بكافة مناحي ومجالات الحياة، والتي تركت، مجتمعةً، آثارًا صعبة جدًا على مجتمعنا، أبرزها تدنّي جودة الحياة بسبب الفقر والبطالة ومصادرة الأراضي وانخفاض مستوى الخدمات في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والصحية، وإهمال تصنيع وتطوير البلدة العربية وجودة البيئة فيها، إلى جانب قضية الإسكان والأرض والمسطحات وغيرها من المجالات والمشكلات الحياتية التي يعاني منها مجتمعنا.

عدد ضحايا العنف وصل إلى 25 منذ بداية العام (عرب ٤٨)
عدد ضحايا العنف وصل إلى 25 منذ بداية العام (عرب ٤٨)

تدنّي جودة الحياة، إلى جانب استمرارية القمع والاضطهاد والتهميش والتقزيم، الذي عانى منه مجتمعنا منذ إقامة الدولة، ولا زال يعاني منه، يخلق حالة عامة من التوتر والإجهاد النفسي والغليان والإحباط، على المستويات الفردية وكذلك الجماعية والجماهيرية، حيث يرى الكثيرون أنّ سقف إمكانيّاتهم لتحقيق أحلامهم وطموحاتهم متدنٍ جدًا. بعد تاريخ طويل من معاناة أهلهم وأقربائهم وبيئتهم وأصحابهم، لقد لاحظوا هذه المعاناة ووصلتهم الرسالة التي تفيد بأن سقف أحلام العربي الفلسطيني منخفض والدولة هي من يحدّد سقف تطلعاته والإمكانيّات الشحيحة لتحقيقها، كما أن فرص اتّكاله على السوق والاقتصاد الإسرائيلي عالية جدًا، وبالتالي هو ليس حرًا في أن يقرر لنفسه ماذا يتعلم وماذا يعمل وكيف يعيش.

هذا التاريخ الطويل من الاضطهاد والمعاناة خلق لدينا حالة من الغليان والإحباط، وكثيرًا من تدني الثقة بالمؤسسة الإسرائيلية، إضافة إلى تدني الثقة بالذات الفردية والجماعية، أيضًا، بمعنى أنّ تدنّي الثقة لم ينحصر في الذات الخاصة بل بواقعنا الجماهيري، القانوني والوطني الجمعي، وبالتالي، فإنّ هذا الوضع يرافقه، إضافة إلى الإحباط والإجهاد النفسي والتوتر وتدني الخدمات، مستوى عال جدًا من تصرفات دالة على صراع البقاء. ومن المعروف أنّ الإنسان الذي يصارع على البقاء يكون على الأغلب منسلخًا عن المصلحة العامة وعن المجتمع ومتمركزًا في ذاته، وهو، في الغالب، يكون يغلي ومتوترا وسريع الصدام مع الآخرين، وهناك بعض ممّن يمرّ في مثل هذه الظروف قد ينزلق إلى الانحراف والقيام بتصرفات عنيفة والتورط بالجريمة.

عرب 48: كأنّك تقول إنّ المجتمع، أو الفرد المنتمي لهذا المجتمع، الذي مرّ وما زال يمر مثل هذه الظروف "فتيلته قصيرة وهو قابل للانفجار بسرعة"، الأمر الذي يؤدي إلى تنامي أعمال العنف وانتشارها؟

حاج يحيى: يجب أنْ نُفرّق بين نوعين من العنف والجريمة، العنف الذي يحصل نتيجة مواقف وظروف معينة دون سابق تخطيط، مثل نزاعات شخصية أو عائلية وخلافات بين الجيران وما شابه، كخلاف على حق أولوية في الشارع أو على موقف سيارة وبدافع كرامات شخصية ومماحكات وعنتريات فارغة.

هذا النوع هو عنف "موقفي"، حصيلة اللحظة أو حصيلة تراكم التوتر والغليان الناتج عن نزاع أو خلاف سابق ومستمر، ناتج عن ردود فعل على موقف معين أو نزاع معين، لا يلجأ فيه كل الناس إلى العنف. ولكنّ الناس الموجودين في ظروف من "الغليان" والتوتر والإجهاد النفسي يتدهور وضعهم سلوكيًا وأخلاقيًا، ولا تتسم ردود فعلهم، أحيانًا، بالتروي والحلم والصبر والمسامحة، بل تتّسم، بدايةً، بالعنف اللفظي والكلامي والنفسي، ومن ثمّ يتفاقم الموقف ويرافقه، أحيانًا، عنف ضد الممتلكات والعنف الجسدي وحتى القتل.

كل الظروف التي ذكرتها من قبل هي أرض خصبة جدًا لخلق الكثير من النزاعات المتوترة أو الصراعات التي تتدهور وتنزلق إلى استعمال العنف، فالكثير من النزاعات بين الجيران أو في الشارع الفلسطيني في الداخل هي حصيلة مواقف عابرة لم يخطط لها أحد ولا كان يتوقع لها أن تحدث أصلا، ومجرد صدام بين اثنين متوترين أو اثنين لا يتمتعان بالحلم والصبر والتسامح أو واحد منهما على الأقل. أمّا النوع الثاني من العنف، الآخذ بالتزايد في مجتمعنا، فهو الانحراف السلوكي بأشكاله المختلفة وأصعبها الجريمة التي تكون أحيانًا منظمة، بالإضافة إلى الابتزاز الاقتصادي أو ما يسمى بـ"الخاوة".

عرب 48: في كثير من الأحيان تكون مفاهيم خاطئة هي ما يقود إلى العنف؟

حاج يحيى: علينا أنْ ننظُرَ إلى أنفسنا بالمرآة جيدًا، ونعترف أنّ الكثير من أعمال العنف في مجتمعنا هي حصيلة مفهوم خاطئ للرجولة، من الصعب أن نعترفَ أن تراكمات أجيال وعشرات السنين نشأنا فيها على التربية "الفارقية" حول معنى الرجولة ومعنى الأنوثة، فالرجل نتوقع منه أن يكون "مهيمنًا"، "عدائيًا"، "متسلطًا"، "لا تنزل كلمته الأرض"، كما يقولون، "ولا تصير كلمته اثنتين"، بينما نتوقع من المرأة أن تكون "خنوعة"، "مستكينة"، "متنازلة ومتسامحة".

فأقسى إهانة ممكن أن توجهها لإنسان عربي أثناء نزاع أو صدام معه على أتفه الأسباب والمواقف، هي أن تقول له "أنت لست رجلًا". وكثير من المشاكل في الشارع الفلسطيني في الداخل، كما هو الحال في الكثير من المجتمعات البطريركية، تحدث على أرضية مفهوم خاطئ للرجولة، والكثير من الشجارات تقع لأن كرامة كل من طرفي النزاع أو الخلاف لا تسمح للواحد منهما التنازل للآخر بدافع "الرجولة" الكاذبة والمزيفة، الأمر الذي يؤدي إلى مناكفة وتراشق الشتائم، التي سرعان ما تتحول إلى شجار عنيف يصل، للأسف، حتى القتل.

لكن، باعتقادي، مثل هذه الحالات يمكن معالجتها إذا ما تحركنا بسرعة كمؤسسات محلية، رسمية وغير رسمية، وجهات سياسية، ودينية وجماهيرية لها اعتبارها في المجتمع وحاولنا احتواءَها بأسرع وقت ممكن قبل تفاقم النزاع والخلاف.

عرب 48: كيف يمكن التخفيف من حدة هذه التوترات التي تحدثت عنها؟

حاج يحيى: لا توجد عصا سحرية لعلاج هذه القضية. ولكن يجب، أولًا، وضع خطة قريبة المدى وأخرى بعيدة المدى، لعشرات السنين كان يجب أن نبدأها قبل 20-30 سنة، مع بداية تفاقم العنف في مجتمعنا. تتمحور هذه الخطة، بدايةً، حول تحسين مستوى جودة الحياة في المجتمع، والتي، بالتالي، نأمل أن تؤدي إلى التخفيف من الإحباطات والإجهادات النفسية،على المستويين الفردي والجمعي.

يترافق ذلك مع تطوير الخدمات التربوية والاجتماعية والنفسية الموجهة للأسرة العربية وبالأخص تنجيع الوالدية والعلاقات الزوجية، نحن بأمسّ الحاجة لمؤسسات تقدم الإرشاد للأهالي في كيفية التعامل مع أولادهم من جيل مبكر وخلق أجواء من الألفة في الأسرة. أجواء من المودة والتربية المتشابهة للولد والبنت والرجل والمرأة، بعيدًا عن المفهوم الخاطئ للرجولة والأنوثة.

ثانيًا، لا مفر من السعي الدؤوب لحل مشكلة الفقر والبطالة في المجتمع العربي، فكلنا يعرف أنّه لا يقل عن 50- 55% من العائلات العربية تعيش تحت خط الفقر، حتى أنّ الغالبية العظمى من هذه العائلات تعاني من الفقر، رغم أن فردًا واحدًا من أفرادها، على الأقل، يعمل بانتظام، بمعنى أنّ العمل وحده لا يحل مشكلة الفقر، وحل مشكلة البطالة لوحده لا يحل مشكلة الفقر، بل يجب رفع مستوى الحياة من خلال جسر الهوة القائمة بين أجر المواطن العربي مقابل اليهودي ومكان عمل العربي مقابل اليهودي، وكذلك من خلال توفير دعم اقتصادي عبر مخصصات اقتصادية رسميّة، تقدّم للأسر الفقيرة، بشكل خاصّ.

من تظاهرة المتابعة أمام مقرّ الشر طة في تل أبيب (عرب ٤٨)
من تظاهرة المتابعة أمام مقرّ الشر طة في تل أبيب (عرب ٤٨)

وكلنا يعرف أن أماكن العمل المتوفرة بانتظام للمرأة وللرجل العربي في البلدة العربية تقترب من الصفر، وبالتالي، فإنّ اعتمادنا على السوق "اليهودي" واعتمادنا على الخدمات المختلفة في البلدات اليهودية هو اعتماد كبير جدًا، وهو ما يشكّل مصدرًا لاستغلال اقتصادي رهيب يكدّس ويكرّس ظروف الفقر في العائلة العربية.

ونحن، كاختصاصيّين، نعرف أن للفقر أبعادًا سلبية جمّة على الفرد والأسرة والمجتمع، ومن أهمّ تلك الأبعاد والآثار: الإحباط والتوتر والإجهاد النفسي، الفردي والجمعي. وبالطبع هذه الأبعاد لها صلة مباشرة بمشاكل العنف والجريمة بمجتمعنا.

وإلى جانب الفقر والبطالة، علينا أن لا ننسى مشاكل صعبة أخرى يعاني منها المجتمع الفلسطيني بالبلاد، تلعب دورًا في تفاقم تلك الآثار، وعلى رأس تلك المشاكل مشكلة الإسكان واستمراريّة مصادرة الأراضي.

عرب 48: من الواضح أنَّ الأوضاعَ الاجتماعية والاقتصادية الصعبة هي أرضية خصبة لنشوء هذه الآفات وغيرها؟

حاج يحيى: نعم، لذلك فإنّ أحد الحلول التي أقترحها من أجل الخوض بجدية بمكافحة العنف والجريمة بمجتمعنا هي السعي لمكافحة مشاكل الفقر والبطالة في العائلات العربية، إلى جانب معالجة مشاكل ملحّة أخرى، ترهق كاهل الأسرة اقتصاديًا، وأخصّ بالذكر مشكلة الإسكان.

ونحن نعرف أنّ الكثير من العائلات فيها معيل واحد أو معيلان أو ثلاثة لكنّ ذلك لا يكفي لتوفير لقمة العيش، فكلما ازداد الفقر كلما ازداد ابتعاد المربون (الأب والأم) عن الأسرة وقلّت متابعتهم لظروف أبنائهم عن كثب، لأنهما منغمسان في البحث عن لقمة العيش لأولادهم، وكلما ضعفت التربية والمتابعة والمحاسبة، كلما ازدادت إمكانية تدنّي نجاحات الأولاد في المدارس وازدادت إمكانية تسربهم من المدارس.

كما أنّه كلما ازدادت إمكانية تسرب الأولاد من المدارس، انخفض الأفق المهني والاقتصادي الخاص بهم، ما يشكّل أرضية خصبة لتدهورهم نحو الانحراف والجريمة إلى جانب تصرفات غير حميدة أخرى، كتعاطي المخدرات وغيرها.

لذلك، نحن بأمسّ الحاجة لأطر مثل نوادي للأحداث والشبيبة والمراكز الجماهيرية، التي ترعاهم وترعى فئات أخرى في المجتمع من ناحية ثقافية وتربوية وترفيهية ورياضيّة، وبنفس الوقت تسعى إلى صقل هويتهم الشخصية والاجتماعية والوطنية والدينية والقومية والسياسية.

وفي هذا الإطار، أثبتت الدراسات في الكثير من دول العالم أن مثل هذا الصقل يحدّ من التخبطات والتوترات الشخصية، وبالتالي يحدّ من تدهورهم لممارسة العنف والتورط بالانحراف والجريمة، فالطالب الذي يترك المدرسة من صف تاسع- عاشر تكون إمكانية استيعابه في العمل متدنية جدا ولا تتوفر له أطر بديلة تسعى لتعليمه مهنة بديلة عن تعليمه الأكاديمي والمدرسي، وبالتالي، من السهل اختراقه واستغلاله من قبل مجموعات متورطة بالانحراف وعصابات الجريمة، وهكذا تكون إمكانيّات انحرافه عاليةً جدا.

لذلك، بدأت كلامي بالقول إنّ العنف ليس هو المشكلة الأساسية بل يجب النظر إلى ما يقف من وراء وفي صميم تلك المشكلة، وبالتالي علينا معالجة الظروف التي ذكرتها والتي تؤدي إلى العنف والانحراف والجريمة.

عرب 48: السؤال كيف نعالج هذه المشاكل؟

حاج يحيى: هناك حاجة، أيضًا، لإغناء جودة الخدمات الاجتماعية والنفسية والتربوية والصحية في البلدات العربية عامة، والجهات التي تعالج القضايا التي ذكرتها سابقا، بشكل خاص، وفي مقدمتها رفع المستوى الاقتصادي للأسرة العربية، وهذا يتطلب رفع مستوى وجودة خدمات الشؤون الاجتماعية، عامة، وتلك المقدمة للعائلات بضائقة، على وجه التحديد.

كما أنّه من المهم أن تقوم مكاتب الشؤون الاجتماعية، بالتعاون مع مراكز الإرشاد للأزواج الشابة التي في طريقها للزواج أو الإباء والأمهات الذين لديهم أولاد صغار وأحداث وشبيبة، بدورها، بتوعية هذه الأزواج بالمعرفة والمهارات عن الوالدية السليمة وسبل توفير الرعاية السليمة لأبناء وبنات الأسرة بمراحل تطورهم المختلفة.

فرغم تمتع الزملاء العاملون في هذه المجالات الخدماتية بلياقة مهنية عالية، إلّا أن ما توفره الدولة من خدمات وملاكات مهنية وموارد اقتصادية ومؤسساتية لهذه المؤسسات والعاملين بها هو فقير جدًا جدًا، وبالتالي الدولة تكثّف وتكدّس الفقر المهني والفقر المؤسساتي في مجتمعنا.

ونحن لسنا أمام عائلات فقيرة فقط بل مؤسسات فقيرة، أيضًا، ومعالجة العنف يجب أن تشمل إغناء الأسر، بمعنى انتشالها من حافة الفقر وإغناؤها "نفسيا وتربويا وثقافيا"، من جهة، وإغناء مؤسساتنا في كافة الميادين الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والتربوية من جهة أخرى.

الشرطة قاتلة (عرب ٤٨)
الشرطة قاتلة (عرب ٤٨)

عرب 48: وماذا مع دور المجتمع في تحصين وحماية نفسه؟

حاج يحيى: كل ما تحدثت عنه مطلوب من الدولة. لكن، بالمقابل (ولكن دون أن يفهم من كلامي أنّني أعفي الدولة من واجبها) فأنني أوكد على أهمية استغلال الذخر الاجتماعي أو رأس المال الاجتماعي في مختلف الميادين، من حرفيين ومهنيين وطلاب جامعات وغيرهم من ذوي رؤيا جماهيرية واستعداد للانخراط في العمل الجماهيري.

بمعنى رفع مستوى العمل التطوعي ورفع مستوى تجنيد وتفعيل الكوادر والخبرات الكامنة في مجتمعنا، كي تشارك في عملية رفع مستوى جودة الحياة والرفاه الاجتماعي والتربوية والاقتصادية وغيرها، على ألّا يكون ذلك على حساب نضالنا لأجل قيام الدولة بواجبها نحونا.

ومن المثبت علميا ومهنيا أن مثل هذا الحراك، أي استغلال رأس المال الاجتماعي، من شأنه ليس فقط توفير الخدمات للمحتاجين إليها ومن ثم إغناء جودة الحياة، بل يساهم، أيضًا، في رفع مستوى التكافل الاجتماعي والتضامن الاجتماعي والحرص على المصلحة العامة، من جهة، وتقليل التوتر والإحباط والإجهاد النفسي وانعدام الأمل واللامبالاة على المستويات الفردية والأسريّة وكذلك الجماهيرية، من جهة أخرى.

فعلينا العمل بخطين متوازيين، الخط الأول يتسم بنضالنا أمام الدولة لدفعها للقيام بواجباتها، والخط الثاني يهتم بالعمل داخل المجتمع لتجنيد واستغلال وتفعيل رأس المال الاجتماعي في البلدات العربية، ونحن نعرف أن هناك مستوى عاليًا من اللامبالاة وانعدام الأمل في مجتمعنا حصيلة تاريخ طويل من القمع والإبادة العرقية والثقافية والوطنية التي مررنا بها، والتي غرست فينا تدني الثقة بالذات الخاصة والذات الجماهيرية والوطنية، إلى جانب ذلك، هناك جانب الوضع الاقتصادي الصعب.

ولكن، بالمقابل، علينا أن لا نفقد الأمل، حيث نلاحظ أن هنالك استعدادية عالية عند قطاعات عديدة من مجتمعنا للانخراط في دعم المجتمع، إذا ما أتيحت لهم الفرصة من خلال أعمال تطوعية أو بناء مؤسسات جماهيرية مختلفة تسعى لتحقيق رفع مستوى الحياة وجودتها.

عرب 48: وماذا مع الجريمة المنظمة؟

حاج يحيى: الكل يقرّ أن هناك جريمة منظّمة بمجتمعنا وعلينا الإسراع بمكافحتها، بإمكان المجتمع أن يلعب دورًا قد يكون محدودًا لمكافحة الجريمة بمجتمعنا، مثلًا بإمكان المجتمع أن يدفّع العصابات والأشخاص المتورطين بالجريمة الثمن، وذلك عن طريق المقاطعة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الإجراءات الاجتماعية، إلا أن هذا لا يحدث لأسباب مختلفة، وعلى رأسها الخوف من المنحرفين، إلى جانب أسباب أخرى، ومنها غياب التضامن والتكافل الاجتماعي، وما ذكرته من قبل عن ظروف اللامبالاة وانعدام الأمل السائدة بمجتمعنا.

ولكن بإمكان مجتمعنا ممارسة الضغط المستمر على كافة مؤسسات الدولة، وبالأخص مؤسسات تطبيق القانون وفي مقدمتها الشرطة لتقوم بدورها في مكافحة الجريمة والعنف بمجتمعنا، إلّا أن الشرطة غائبة في هذا السياق، وهي موجودة فقط في سياق القمع والاضطهاد وملاحقتنا في مخالفات هنا وهناك.

وحتى عندما تسمع الشرطة عن جريمة قتل في بلدة عربية، تأتي وتبدأ بتحرير المخالفات لتكرّس حالة الغليان، ولذلك، يشعر المجتمع أنّه بدون ظهر قانوني يحميه، وادّعاء الشرطة أنّ المجتمع العربي لا يتعاون معها هدفُه التهرب من مسؤولياتها، فهل مكافحة الجريمة في المجتمع الإسرائيلي تمت بفضل تعاون المجتمع أم بفعل عمل الشرطة؟

عرب 48: عندما تتسامح الشرطة مع مظاهر الجريمة المنظمة في مجتمعنا هي تعطيها ضوءًا أخضر؟

حلج يحيى: الجريمة المنظمة ستتفاقم أكثر في مجتمعنا ليس لأنني متشائم، بل بسبب اتساع الشريحة الاجتماعية من الذين تركوا المدرسة في جيل مبكر ولم يكن هناك من يتلقفهم ويمنعهم من التدهور إلى وضع الانخراط في الجريمة المنظمة، لذا علينا الإسراع في اكتشاف حالات التسرب ومحاولة منعها، مرورًا باحتضان المتسربين في حال وقوع التسرب، فكلما ازداد عدد المتسربين من المدارس كلما ازدادت الطاقة الكامنة لتفاقم العنف والجريمة في المجتمع.

من جانب آخر، كلّنا يعرف ما هي أسباب الجريمة المنظمة ومن المتورّطون فيها، كل قضايا الخاوة والابتزاز والسرقة، وما شابه هذه الظواهر لا يستطيع المجتمع معالجتها لوحده، علينا أن نكون واقعيين ونعترف بقدراتنا، هذه الجرائم من اختصاص الشرطة، فهي تعرف أين يوجد السلاح وتستطيع جمعه إذا أرادت، فلماذا تقوم بفرض حظر التجول على بلدات فلسطينية كاملة وتفتشها من بيت إلى بيت وتعتدي على ممتلكات وتنتهك حرمات لكي تعثر على قطعة سلاح نفذت بواسطتها عملية، ولا تستطيع القبض على السلاح والمجرم عندما يستهدف حياة العربي ولو كان بأيدي عربي آخر.

هذا ناهيك عن أنّ الشرطة تعرف مصادر السلاح وتستطيع تجفيف منابعه إذا أرادت. ولكن، إلى جانب ما ذكرته من قبل عن دورنا كمجتمع لمكافحة العنف والجريمة، أظن أن دورنا، أيضًا، يجب أن يكون في إخراج من دفعوا ثمن فعلتهم ودخلوا السجن من دائرة الجريمة بعد تسريحهم من السجن، وذلك عبر توفير خدمات التأهيل وتوفير مصادر العمل ومصادر الدعم الاقتصادي والنفسي والاجتماعي، لهم ولأسرهم، إلى حين تأهيلهم مهنيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وضمان انخراطهم الناجح بالمجتمع.

وأخيرًا، يجب أن نسأل أنفسنا في هذا السياق، لماذا نتظاهر فقط أمام مراكز الشرطة لتقوم بدورها في مكافحة الجريمة بمجتمعنا ولا نتظاهر أمام كل الوزارات التي من مسؤوليتها حل مشاكل مجتمعنا ورفع مستوى جودة الحياة كما ذكرت من قبل، وأخصّ بالذكر وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الصحة ووزارة المالية ووزارة الاقتصاد ووزارة الصناعة ووزارة التربية والتعليم وغيرها من الوزارات والمؤسسات الشريكة في تكديس الفقر والبطالة وتدني جودة الخدمات بمجتمعنا، فالتظاهر وممارسة الضغط الجماهيري يجب أن يشمل كافة الوزارات التي تقع عليها مسؤولية رعاية مشاكلنا المختلفة ذات العلاقة بالعنف والجريمة في قرانا ومدننا.


بروفسور محمد حاج يحيى: محاضر في مدرسة الخدمة الاجتماعية والرفاه الاجتماعي في الجامعة العبرية بالقدس، حاصل على دكتوراه في الخدمة الاجتماعية والدراسات العائلية، مختص بدراسة العنف الأسري والعنف المجتمعي والعنف العسكري وآثاره على الأطفال والأسرة.

التعليقات