72 عاما على النكبة: حملة "حيرام" 1948 (27/2)

الحلقة السادسة من الحملات الصهيونية الأخيرة لكسب الحرب 1948-1949

72 عاما على النكبة: حملة

لاجئون من شمالي فلسطين في طريقهم للبنان (أ ب)

الحلقة السادسة من الحملات الصهيونية الأخيرة لكسب الحرب 1948-1949

(أهدي هذه السلسلة لروح صديقي المرحوم هاشم حمدان، الذي كان له الدور الأكبر في تشجيعي على الاستمرار بكتابتها)


كانت سيطرة جيش الإنقاذ على مرتفع الشيخ عباد، الشرارةَ التي انتظرتها إسرائيل، منذ فترة، لتكون ذريعتها من أجل شن هجوم كبير على مواقع جيش الإنقاذ وانتزاع الجليل وضمه إليها. كانت إسرائيل تخطط منذ مدة لاحتلال الجليل، وفي نفس الوقت كانت تعرف أنّ خطوة جيش الإنقاذ في الهجوم على قواتها في مرتفع الشيخ عباد، لا تتلاءم مع موازين القوى على الأرض. وفي المجمل، هي خطوة غير منطقية من الناحية العسكرية، في ظل النقص الشديد في العتاد والذخيرة لدى جيش الإنقاذ من جهة، وعدم قدرة الجيوش العربية النظامية على مد يد العون له في أي معركة كبيرة مع الجيش الصهيوني، الذي أعلنت انتصاراته السابقة بين الهدنتين وفي حملة "يوآڤ" ضد الجيش المصري في الجنوب، أنّه أصبح الآن أقوى من أي جيش عربي سيحاول أن يتدخل لصالح جيش الإنقاذ.

التفكير، أو الخطة الصهيونية لاحتلال الجليل، بدآ منذ شهر أيار/مايو 1948، حيث كانت الخطة تقضي بأن يقوم لواء "يفتاح" - الذي احتل مدينة صفد في 10 أيار/مايو (انظر/ي الحلقة 15 بعنوان احتلال صفد)، واحتل قرية المالكية في 28-29 أيار/مايو 1948 (انظر/ي الحلقة الخامسة بعنوان سقوط المالكية) - بتنفيذ هجوم من الشرق إلى الغرب من أجل احتلال باقي الجليل، الذي كان وقتها خاليا من وجود أي جيش عربي فيه، وذلك بعد سقوط المنطقة الغربية منه، بأيدي الصهاينة في حملة "بن عامي" في منتصف أيار/مايو (انظر/ي الحلقة 17 بعنوان سقوط أسوار عكا)، والمنطقة الشرقية منه في حملة "يفتاح" التي توجت باحتلال مدينة صفد. تم إلغاء هذه الخطة من أجل نقل لواء "يفتاح" من الجليل إلى القدس وذلك للمشاركة في المعارك ضد الجيش الأردني ومحاولة احتلال اللطرون.

تخطيط مسبق، وحجة مباشرة لبدء الحملة

تجدد التفكير باحتلال ما يسمى بجيب الجليل، وهو ما تبقى تحت سيطرة جيش الإنقاذ بعد احتلال الجليل الأدنى في معارك الأيام العشرة بين الهدنتين، في بدايات شهر آب/أغسطس 1948، ولكن الخطة لم تنفذ بسبب أن القيادة العسكرية الصهيونية كانت تعتقد بأنّها غير قادرة على حسم معركة في الجنوب ضد الجيش المصري وفي الشمال ضد جيش الإنقاذ والجيش السوري، إذا تم تنفيذ هجوم على المنطقتين في آن واحد، كما كانت تخشى من تدخل الأمم المتحدة وفرضها هدنة على الأطراف المتحاربة إذا طالت فترة المعارك، ولذلك كان التخطيط العسكري الصهيوني يقضي بتنفيذ هجوم قوي وواسع من أجل التوصل إلى حسم سريع. الفكرة أو الخطة الأولى كانت تفيد بضرورة الهجوم على الجيش السوري. وفي الخامس من أيلول/سبتمبر 1948، أصدرت قيادة منطقة الشمال في الجيش الصهيوني الأمر الأول بخصوص حملة "حيرام"، على أن ينفّذه لواء "شيڤاع" (اللواء السابع). في ما بعد، وبعد منتصف نفس الشهر، تغيّرت الخطة بحيث تقرر أن ينفذ الهجوم على الجيش العراقي، وليس السوري، وأوكلت مهمة الهجوم على لواء "غولاني"، أما لواء "شيڤاع" فكان عليه، في نفس الحملة المخططة، أن يحتل المناطق التي يسيطر عليها جيش الإنقاذ. سميّت هذه الحملة أو الخطة آنذاك، بحملة "ستاڤ" أي الخريف باللغة العربية. وبالفعل بدأ تنفيذ الحملة في 16 أيلول/سبتمبر 1948، حيث نقلت قوات لواء "شيڤاع" بقيادة بن دونكلمان إلى منطقة صفد ليلًا من أجل تنفيذ الهجوم من هذه المنطقة التي لن يتوقع جيش الإنقاذ أنها ستكون نقطة الانطلاق، بل ساد الاعتقاد دائما بأن أي هجوم كبير عليه، سيتم حتما من الغرب بقصد احتلال ترشيحا أولا. بدأ لواءا "شيڤاع" و"غولاني" بتنفيذ التحضيرات للهجوم، ولكن الأوامر لم تأتِ في الوقت المحدد، ثم أُجّل الهجوم إلى أجل غير مسمى بسبب اغتيال الكونت برنادوتدت المندوب الأممي في المنطقة، خوفًا من غضب الدول الأعضاء في الأمم المتحدة من أي هجوم صهيوني ينفذ في تلك الأيام.

في 16 تشرين أول/اكتوبر 1948، صدر أمر حملة "ستاڤ ج" أي الخريف "ج" بالعربية، وكانت خطة الحملة تقضي بأن يهاجم لواء "غولاني" الجيش العراقي ويحتل وادي عارة، بينما يهاجم لواء "كرملي" الجيش السوري في الشمال لمنعه من التدخل في المعركة، ويقوم اللواء "شيڤاع"، معززا بكتيبتين من اللواء "تيشاع" (اللواء التاسع)، بتنفيذ حملة "حيرام" على أن يتم الهجوم من الجهة الغربية باتجاه الشرق من قبل لواء "شيڤاع" ويحتل الجش وسعسع، وتقوم كتيبة من لواء "تيشاع" باحتلال المغار، وكتيبة أخرى تحتل الرامة. هذه الحملة تأجلت، أيضًا، بسبب نقل اللواء "تيشاع" للمشاركة في معارك الجنوب ضد الجيش المصري في حملة "يوآڤ" وكان ذلك في ليلة 17 تشرين أول/أكتوبر 1948.

خلال هذه الفترة نوقش موضوع احتلال الجليل عدة مرات في جلسات الحكومة الإسرائيلية، ولكن لم يصوت عليه كما حدث لحملة "يوآڤ" ضد الجيش المصري. كان وزير الخارجية الصهيوني الأول، موشيه شاريت، يعتقد أنّ احتلال الجليل ليس خطوة جيدة وذلك بسبب كثرة سكانه العرب، ووجود الكثير من لاجئي المناطق الفلسطينية التي احتلت سابقًا فيه. كان شاريت يعتقد آنّ الكثير من اللاجئين سيقومون بالعودة إلى الجليل من لبنان وسورية بعد احتلاله، وهذا سيؤدي إلى أزمة سكانية ديموغرافية جدية. أما بن غوريون، فكان يتوق إلى احتلال جيب الجليل، مع الرغبة الشديدة بطرد سكانه والحصول عليه خاليا من القرى العربية، ولكنه لم يتعجل في الموافقة على بدء حملة "حيرام"، ثم غيّر رأيه بعد اقتراب انتهاء معارك الجنوب ضد الجيش المصري، خوفا من أن تطالب الأمم المتحدة إسرائيل بأن تقوم بتعويض العرب بالجليل بدلًا من النقب، الذي تم احتلاله في حملة "يوآڤ"، وكان ذلك في ليلة 24-25 تشرين أول/اكتوبر 1948. وبطبيعة الحال، كانت الحجة هي احتلال مرتفع الشيخ عبّاد من قبل جيش الإنقاذ، وفشل المفاوضات السريعة معه في محاولة لإقناعه بالانسحاب من المرتفع، بوساطة مراقبي الأمم المتحدة.

خطة حملة "حيرام"

كما تقدّم، خطة الحملة كانت معدة منذ أشهر، وغيّرت عدة مرات، حتى الخطة النهائية التي كانت تقضي بأن يتم الهجوم على الجليل المركزي من جهته الغربية وجهته الشرقية في آن واحد. هذه الخطة كانت تختلف عن سابقاتها بأنها تهدف إلى احتلال ما بقي من الجليل، وليس مهاجمة أي من الجيشين السوري أو العراقي، بل أن تقوم القوات الرئيسية بالهجوم على مواقع جيش الإنقاذ، بينما تقوم القوات الأخرى، وفي حالة حرب شاملة في الشمال بسبب الهجوم الصهيوني، بمنع الجيشين العربيين من التأثير على المعركة. كانت هذه وظيفة لواء "كرملي" مقابل الجيش السوري في الشمال، ووظيفة لواء "غولاني" في مواجهة الجيش العراقي المتواجد في جنين القريبة من مستعمرة العفولة.

تقرر أن تكون الساعة 19:30 هي ساعة الصفر للحملة في اليوم الموعود. على أن تبدأ الحملة، في ساعاتها الأربع الأولى، بقصف قوي بالطيران على الجش، وسعسع، والمالكية، وترشيحا، والرامة. ويستمر الطيران في القصف على سعسع وترشيحا والمالكية طوال الليل، إلا إذا تلقى رسالة من قوة المشاة بأن يتوقف. في الأيام التالية يستمر القصف حسب الأوامر المتلقّاة. كما تقوم المدفعية الصهيونية بقصف الجش وسعسع وترشيحا قبل تقدم المشاة إلى هذه القرى.

يقوم لواء "شيڤاع" معززا بكتيبة شركسية، بالهجوم من جهة صفد باتجاه الغرب، واحتلال الجش ومفرق ميرون وسعسع والمالكية. أما لواء "تيشاع"، معززًا بكتيبة درزية، فيهاجم من الجهة الغربية نحو الشرق فيحتل ترشيحا ثم يلتقي مع لواء "شيڤاع" في سعسع، ثم ينطلق فيحتل القرى الواقعة جنوبي ترشيحا وسعسع. كتيبة من لواء "غولاني" تنفذ هجوما على قرية عيلبون، على ان يستمر الهجوم طوال الليل. أما لواء "كرملي" فكان عليه أن ينفّذ هجمات تمويهية في منطقة النبي يوشع ومنارة. بينما يقوم الحرس الوطني الصهيوني في منطقة حيفا، بمهاجمة قرية مجد الكروم في منطقة الشاغور، وبذلك يمنع قوات جيش الإنقاذ المتواجدة فيها من التدخل في المعركة.

تقرر أن تنطلق الحملة في 28 تشرين أول/أكتوبر 1948.

القصف الجوي للقرى العربية خلال الحملة

في الساعة 16:45 بعد الظهر، يوم 28 تشرين أول/أكتوبر، حلقت أوّل طائرتين من نوع "أوستر"، وقامتا بقصف قرية المغار، كل واحدة منهما أسقطت أربع قذائف على القرية. بعدها بنصف ساعة تقريبا، انطلقت طائرتان من نوع "ربيد"، تحمل كل واحدة منهما، 15 قذيفة وزن كل واحدة منها 15 كيلوغرامًا، ووصلتا قرية سعسع عند الساعة 18:01، وقامتا بإسقاط قنابلهما على القرية، وقد أحدث عدد من القذائف إصابات مباشرة في القرية. ثم انطلقت طائرة من نوع "ديكوتا" وقامت بقصف قرية الجش في الساعة 18:15، وألقت عليها 16 قذيفة وزن كل واحدة منها 100 كيلوغرام. إحدى هذه القذائف كانت قد أصابت مخزن أسلحة لجيش الإنقاذ وأدت إلى انفجار كبير.

في نفس الوقت، قامت ثلاث طائرات من نوع "بي-17" بالتوجه إلى قرية ترشيحا من أجل قصفها، إلا أنهن أخطأن الهدف وقصفن قرية سحماتا، التي انطلقت منها الأسلحة المضادة للطائرات بشكل كثيف، إلا أنها لم تصب أي منها بأذى.

قبل شروق الشمس، وفي الساعة 04:45 من يوم 29 تشرين أول/أكتوبر، قامت طائرتان بإلقاء آلاف المناشير على سكان الجليل، تفيد جيش الإنقاذ سيخسر المعركة، ولذلك على المسلحين المحليين أن يلقوا أسلحتهم. وكذلك قامت طائرتان أخريان بإلقاء آلاف المناشير في الجنوب اللبناني وفي صور وبيروت، تحذّر الحكومة والجيش اللبناني من التدخل في الحرب الدائرة في الجليل ضد جيش الإنقاذ.

استمر القصف الصهيوني للقرى العربية، طوال أيام الحملة، ففي الساعة 07:00 صباحا من يوم 29 تشرين أول/أكتوبر، قامت طائرة من نوع "بي-17" بقصف قرية ترشيحا، وبعد ذلك بخمسة وأربعين دقيقة قامت طائرة أخرى من نفس النوع، بمعاودة قصف نفس القرية. وفي صباح نفس اليوم، أيضًا، ألقيت 16 قنبلة وزن كل واحدة منها 100 كيلوغرامات على ترشيحا، بواسطة طائرة من نوع "ديكوتا"، وكذلك كان نصيب قرية سحماتا بالتوازي لقصف ترشيحا. بعدها مباشرة عادت طائرة الديكوتا وقصفت ترشيحا مرة أخرى.

في الساعة 05:48 من صباح يوم 29 تشرين أول/اكتوبر 1948، انطلقت طائرة من نوع "رپيد" وقامت بقصف قرية عين إبل في جنوب لبنان، بواسطة 15 قنبلة وزن كل واحدة 20 كيلوغرامًا. ثم قامت طائرتان من نفس النوع بقصف قرية المالكية، بنفس نوع القنابل وعددهم. بعدها قصفت طائرتان من نوع "ديكوتا" قرية المالكية بـ32 قنبلة، وزن كل واحدة منها 100 كيلوغرامًا.

في اليوم التالي صباحا، تم قصف عين إبل مرة أخرى، وفي ساعات الظهر قصفت المالكية مرة أخرى بواسطة طائرتين من نوع "ديكوتا". وفي المساء قصفت قرية المالكية وعطرون بطائرتي "رپيد". في 31 تشرين أول/أكتوبر 1948 صباحا، تم قصف قرية بليدة شمال المالكية، بواسطة طائرتين من نوع "أوستر".

كان عدد الطلعات الجوية الصهيونية خلال حملة "حيرام"، 27 طلعة، لم يكن لجيش الإنقاذ أي إمكانية للرد على أي من هذه الطلعات.

هجوم متزامن من الشرق والغرب والجنوب

قبل موعد الهجوم بعدة أيام، تحضّرت القوات الصهيونية البرية للهجوم، وتوزعت على أماكن انطلاقها في الشرق والغرب، بدون أن تشعر قيادة جيش الإنقاذ بالتحركات الليلية التي كان يجريها الجيش الصهيوني، حيث تنطلق العشرات بل المئات من السيارات في الليل، وكانت تسير بدون أضواء، وتنقل الجنود في داخلها. في النهار كانت التحركات عادية بحيث لا يشعر أحد بأن هناك أمرًا كبيرًا على وشك الحدوث.

في الساعة 07:30 مساءً، يوم 28 تشرين أول/أكتوبر 1948، انطلقت قوات اللواء "شيڤاع" من صفد باتجاه الغرب، وانطلقت قوات اللواء "تيشاع/عوديد" من قرية الكابري شرقي مستعمرة نهاريا، باتجاه الغرب لتهاجم قرية ترشيحا. كان الخطة تقضي بأن يعتقد جيش الإنقاذ أنّ الهجوم الرئيسي يجري من الغرب، فيغفل عن إرسال قوات كبيرة لمواجهة لواء "شيفاع"، الذي يقوم بالهجوم المركزي.

كانت الطائرات قد بدأت قصفها قبل ذلك بساعتين، والآن انطلقت المدافع، بكل قوتها، باتجاه مراكز جيش الإنقاذ المركزية، ثم تقدمت القوات الراجلة للواءي "تيشاع" و"شيفاع".

أمّا لواء "غولاني" فقد قام بقصف قرية عيلبون بالمدفعية والمدافع الرشاشة، خلال كل ليلة 28-29 تشرين أول/أكتوبر ولكنه لم ينجح بالتقدم بسبب المقاومة الشديدة التي واجهها من قبل مقاتلي جيش الإنقاذ المتمركزين في القرية.

قوات ما تسمى بـ"الحرس الوطني" ("حيل همشمار") أطلقت المدفعية باتجاه منطقة سخنين ومنطقة مجد الكروم، لزيادة الضغط على جيش الإنقاذ من كل الجهات. بينما قامت قوات لواء "كرملي" يتنفيذ هجوم على قوات جيش الإنقاذ المتمركزة في مرتفع الشيخ عباد والنبي يوشع.

قدر حجم القوات المشاركة بالحملة بحوالي 15000 جندي.

الهجوم الغربي - لواء "تيشاع/عوديد"

كان على أحد اللواءين "تيشاع" أو "عوديد"، معززا بسرية درزية، ومقسم مصفحات من اللواء "شيفاع"، وبطاريتي مدفعية، أن يحتل قرية ترشيحا ثم قرية معليا، وبعدها يحتل قرية سحماتا وقرية حورفيش، ويستمر بالتقدم حتى الوصول إلى سعسع لملاقاة اللواء "شيفاع". في مقابل هذه القوة، تمركز لواء اليرموك الثالث من جيش الإنقاذ، وكان هذا اللواء صغيرا حيث أن عدد جنوده لم يتجاوز الـ500 جندي، موزعين على كتيبتين، وكل كتيبة مؤلفة من سريتين. يضاف إليهم 400-450 مجاهدًا محليًا. ولأن أغلب الجنود العرب تمركزوا غربي ترشيحا، تقرر أن يتم احتلالها من الجنوب الغربي. كان على الكتيبة الأولى/"تيشاع" أن تحتل المخافر التي تقع غربي ترشيحا، أما الكتيبة 11 فكانت وظيفتها إزالة العراقيل من الطريق، وبعد احتلال ترشيحا كان عليها أن تهاجم معليا وتحتلها. أما الكتيبة الأولى/"تيشاع"، فكان عليها أن تحتل المخافر الموجودة في الجنوب الغربي للقرية. بعدها يتم الهجوم الرئيسي على ترشيحا وتدخلها القوات الصهيونية.

كان على الكتيبة الثانية أن تحتل تلة الصخور وتلة الشجرة وتل مردة ومخفر آخر. تقدمت إحدى السرايا في الظلام نحو تلة الشجرة، ولكنها ووجهت بنيران شديدة من المدافعين ما اضطرها إلى التراجع. وكذلك كان مصير سرية أخرى حاولت الوصول إلى التلة من طريق أخرى غير مباشرة. بعدها فتحت نيران جيش الإنقاذ من تلة الصخور وتل مردة وتلة الشجرة، على القوات المهاجمة. ورغم القصف المدفعي الصهيوني الذي حاول القضاء على المقاومة، صمدت القوة العربية ما اضطر القوة المهاجمة إلى الانسحاب بدون أن تحقق أهدافها. كذلك، كان أمر الكتيبة 11، التي انطلقت من القرية العربية المحتلة نهر، وبدأت بإزالة العراقيل من شارع نهاريا - ترشيحا، إلا أنها ووجهت بنيران قوية من مدافعي ترشيحا، ما اضطرها إلى الانسحاب عند طلوع الفجر.

خلال الهجوم على مواقع جيش الإنقاذ، الآنفة الذكر، أبرق قائد جبهة ترشيحا، المقدم المهدي صالح، إلى قيادة الجيش، مطالبا أن تقوم المدفعية اللبنانية بقصف الكابري وشرقيها، مشيرا في برقيته إلى أن هناك قوات كبيرة تتدفق باتجاه ترشيحا، ولكن المدفعية اللبنانية لم تتدخل في المعركة، خوفا من هجوم صهيوني مستهدفا الأراضي اللبنانية. في هذه الأثناء كانت قيادة جيش الإنقاذ مقتنعة تمامًا بأن الهدف المركزي من الهجوم المنسق هو احتلال ترشيحا، بهدف قطع الطريق بينها وبين قرية الرامة.

مصير السرية الدرزية التي كانت قد انطلقت من قرية عمقا المحتلة للمشاركة في الحملة، كان أسوأ بكثير من مصير باقي القوات الصهيونية، إذ أنها دخلت قرية يانوح بعد تنسيق مع السكان المحليين وانسحاب جنود جيش الإنقاذ منها، وكان الاتصال بينها وبين قيادة اللواء "تيشاع" مقطوعًا، ولذلك لم تعرف أن باقي الكتائب قد فشلت في احتلال ترشيحا وانسحبت إلى الخلف، فبقيت وحيدة خلف خطوط جيش الإنقاذ.

في الصباح، عاد جنود جيش الإنقاذ، ودخلوا قرية يانوح مشتبكين مع السرية الدرزية الصهيونية، وانضم إليهم سكان القرية، وحدثت معركة كبيرة كان فيها النصر لجيش الإنقاذ، الذي أمطر السرية بوابل من الرصاص وأغلق عليها طريق الانسحاب، حتى قتل منها 12 جنديا درزيا وثلاثة يهود، اثنان منهم كانا قائدا السرية أما الثالث فهو طبيب. خلال المعركة تمكنت السرية من تجديد الاتصال بقيادة اللواء "تيشاع" طالبة النجدة، فأطلقت المدافع الصهيونية باتجاه القرية للتغطية على انسحاب السرية، ولولا ذلك، لقضي عليها وقتل جنودها أو جرحوا أَوْ أسروا.

الهجوم الشرقي - لواء "شيفاع"

في الساعة 19:30 من يوم 28 تشرين أول/أكتوبر 1948، تحرك اللواء "شيفاع" من مركزه في صفد على ثلاثة محاور: فصيل مدرع من الكتيبة التاسعة/"شيفاع"، وسرية شركسية، من أجل احتلال القرى الواقعة شمالي طريق صفد-ميرون، والتقدم حتى قرية الصفصاف. المحور أو القوة الثانية كانت مكونة من السرية ب من الكتيبة الثانية/"شيفاع"، وفصيل من الكتيبة الأولى/"كرملي"، وفصيل من الكتيبة التاسعة/"شيفاع"، وكانت وظيفة هذه القوة هو احتلال قرية ميرون الواقعة جنوبي طريق صفد-ميرون وتفجير جسر واقع جنوب القرية، لمنع قدوم نجدات إليها من قبل قوات جيش الإنقاذ المتواجدة في المغار والرامة. القوة الثالثة كانت الكتيبة التاسعة المدرعة للواء "شيفاع"، وتحركت باتجاه الشمال، وكانت أمامها وحدة هندسة لنسف الحواجز الموجودة على طريق صفد - ميرون، وإنشاء جسور تسير عليها المدرعات. وقد استمر عمل هذه وحدة الهندسة هذه، حتى الساعة 03:30، بعدها أصبحت الطريق سالكة من أجل احتلال قرية ميرون ثم الجش ومن ثم الوصول إلى سعسع واحتلالها حسب الخطة.

أما الكتيبة الشركسية، فقد قامت باحتلال قرية قديثا، وقرية طيطبا، وقرية راس الأحمر التي تقع بين قديثا وقرية الريحانية الشركسية. وقد تم احتلال القريتين بدون أي مقاومة تذكر، إذ أنّ القوة العربية كانت قد انسحبت من القريتين إلى الجش.

كانت المقاومة في قرية ميرون شديدة، واستمرت حتى الساعة 08:30 من صباح 29 تشرين أول/أكتوبر 1948، واستشهد خلالها 60-80 مقاتلًا من المدافعين عن القرية، حسب المصادر الصهيونية.

قائد لواء "شيفاع"، بن دنكلمان، أصدر أوامره لطابور المدرعات بالاستمرار في طريقه شمالًا من أجل احتلال قرية الصفصاف، والتي دخلها في ساعات الفجر الأولى، مع الكتيبة الثانية/"شيفاع" التي احتلت قرية ميرون، بعد أن استبدلتها الكتيبة الأولى من نفس اللواء. كانت معركة احتلال الصفصاف شرسة وقصيرة بسبب كثافة النيران وقوة المدرعات الصهيونية، وافتقار جيش الإنقاذ إلى الذخيرة والعتاد الكافي لإنقاذ القرية.

احتلال قرية الصفصاف وتنفيذ مجزرة

توقع أغلب المدافعين عن قرية الصفصاف، بأن الهجوم عليها سيكون من الشرق، وهناك اشتبكوا مع قسم من القوة المهاجمة في ما يسميه أهل الصفصاف بمعركة المرج، إلا أن الكتيبة الثانية/"شيفاع"، فاجأت المقاتلين من أهل القرية وجنود جيش الإنقاذ، ودخلت القرية بشكل مفاجئ من كروم الزيتون في الجهة الغربية، من جهة بيت جن وجبل الجرمق، وما أحس المدافعون وإلا بالجيش الصهيوني في داخل القرية، فانسحبوا منها إلى قرية الجش.

في الساعة 10:30 تقريبًا، قام الجنود الصهاينة بفصل الرجال عن النساء والشيوخ، ثم صاروا يحضرون منهم كل مرة 10-15 رجلًا، ويجبروهم على الوقوف في صف واحد، ثم يطلقون النار عليهم، على مرأى من نساء القرية، فسقط العشرات منهم شهداء، حيث يؤكد شهود العيان من القرية أن عدد الشهداء تجاوز السبعين شهيدا. بعد تنفيذ المجزرة قام الجنود الصهاينة بتحميل جثث الشهداء في سيارات عسكرية، ورموهم في "جورة العين الفوقا"، ثم أهالوا عليهم التراب. كذلك قام الجنود باغتصاب أربع نساء على الأقل، أصغرهن في الرابعة عشر من عمرها. كان الجنود قد أخذوا هؤلاء النسوة بحجة، أنهم يريدون أن يحضرن لهم الماء، ثم قاموا بفعلتهم الدنيئة.

حتى المصادر الصهيونية تعترف بهذه المجزرة، فقد دوّن السمسار يوسف نحماني - والذي كان يعمل لصالح شركة "پيكا" و"الكيرن كيميت ليسرائيل" في شراء الأراضي الفلسطينية لصالح الحركة الصهيونية - في مذكراته بتاريخ 6 تشرين ثان/نوفمبر 1948، بأن السكان العرب كانوا قد استسلموا ورفعوا العلم الأبيض، قام الجنود الصهاينة بتقييد 50 - 60 فلاحًا، ثم أطلقوا النيران عليهم ودفنوهم في جورة واحدة.

أما "يسرائيل چليلي" - أحد رجال حزب "مبام" المهمين خلال معارك النكب ة- فوصف ذلك في اجتماع حزبه قائلا: في الصفصاف، قيدوا 52 رجلًا بحبل، ثم رموهم في حفرة، وأطلقوا النار عليهم. مات 10 منهم، طلبت النساء الرحمة، ثلاث حالات اغتصاب، إحداهن بنت عمرها 14 عامًا. أربعة آخرون قتلوا".

إحدى الحوادث الفظيعة، والتي كان لها تأثير كبير على أهل القرية، ما حصل مع الشهيدة عزيزة شريدة (عزيزة محمد طه)، والتي كانت امرأة حسناء في الثلاثينات من عمرها. وكان الجنود الصهاينة قد دخلوا بيتها وأرادوا أخذها معهم ليغتصبوها فرفضت، ولما حاول ابنها، ابن السابعة عشر، أن يقف في طريقهم أردوه قتيلا، ولكن ذلك لم يثبط من عزيمتها ورفضها لطلبهم بأن تنزع ثيابها، فقتلوا زوجها ثم ابنتها الرضيعة. ولما بقيت على رفضها، قاموا ببقر بطنها بالسنجة وهي حامل.

على أثر هذه الأعمال الوحشية، هرب من تبقى من سكان القرية بعد قدوم المساء، حتى لا يكون مصيرهم كمصير الرجال الذين استشهدوا والنساء اللواتي اغتصبن.

احتلال قرية الجش ومئات الشهداء

قبل أن تتمركز القوة الصهيونية التي احتلت الصفصاف في مواقعها، شنّ جيش الإنقاذ هجومًا مضادًا من جهة قرية الجش بهدف استعادة السيطرة على القرية، ولكن الهجوم فشل بعد أن أمر قائد لواء "شيفاع" بنصب مدافع رشاشة لتطلق رصاصًا كثيفًا على جنود جيش الإنقاذ، وخلال ذلك تثبّت القوة الصهيونية قبضتها على قرية الصفصاف. انتهى الهجوم المضاد سريعا بدون أن يصيب بناره جنديًا صهيونيًا واحدًا.

بعد الهجوم تقدمت الكتيبة المدرعة التاسعة من اللواء "شيڤاع"، باتجاه قرية الجش، ولكنها واجهت مقاومة شديدة، من قبل لواء اليرموك الثاني لجيش الإنقاذ (الفوج العلوي)، بقيادة الرئيس غسان جديد، الذي لم يتجاوز عدد جنوده في القرية أكثر من 200 مقاتل. اضطرت القوة المدرعة الصهيونية إلى التراجع إلى الخلف بسبب شدة المقاومة، ولكنها سرعان ما نظمت صفوفها وتقدمت على الطريق الرئيسية، مدعومة بكتيبة المشاة الثانية/"شيڤاع" من أجل حسم المعركة بسرعة.

اندفعت القوات الصهيونية، والتي فاقت القوة العربية المتواجدة في القرية، من الجهة الشرقية والجنوبية للجش، واصطدمت مع جنود جيش الإنقاذ وجهًا لوجه، في معركة شرسة في شوارع القرية، تكبد خلالها جيش الإنقاذ خسائر فادحة قدرت بأكثر من 100 شهيد، سقطوا في شوارع القرية وأزقتها، وسقط في المعركة، أيضًا، أكثر من خمسين مدنيا من السكان.

في هذه الأثناء، وعندما شعر قائد جيش الإنقاذ، فوزي القاوقجي، بأنّ القوة الصهيونية سرعان ما ستحتل الجش وتتحول إلى قرية سعسع، وباحتلال هذه القرية يصبح مصير جيش الإنقاذ سيئًا إلى درجة كبيرة، ولذلك سحب سرية من الكتيبة البدوية من بليدة، وقذف به إلى سعسع للحفاظ عليها، وفي نفس الوقت توجّه لطلب النجدة من الجيش السوري، الذي أرسل له الكتيبة التاسعة السورية من مركزها في بنت جبيل. وصلت القوة السورية، البالغ عددها 400 جندي أكثرهم من المتطوعين الشمال أفريقيين تحت قيادة المقدم علم الدين القراص، إلى الجش في ساعات الظهر الأولى بواسطة حافلات لبنانية. لم يتوقع الجنود السوريون أن المعركة تدور داخل الجش، حيث أن وصولهم بالحافلات يشير إلى انهم اعتبروا القرية موقعًا للتمركز فيه والتحضير للهجوم على الجنود الصهاينة، حيث ظنوا أنهم لم يصلوا بعد إلى أرض المعركة.

قبل أن ينظّم الجند السوريون صفوفهم، وخلال خروجهم من الحافلات، تعرضوا لنيران كثيفة من جنود اللواء "شيفاع"، ما أدى إلى سقوط العشرات منهم بين قتيل وجريح، وعمّت بينهم الفوضى، حيث أنهم لا يعرفون المكان جيدا، ناهيك عن أنهم جاؤوا على عجلة من أمرهم بدون تنظيم ملائم ومعلومات كافية عما يدور في المنطقة، ولذلك لم يتمكنوا من صد الهجوم الصهيوني، فانسحبوا بعشوائية تامة، فسقط منهم أكثر من 150 شهيدًا، وأسر بعضهم.

سقطت الجش وانتهت المعركة في ساعات الظهر، بخسارة كبيرة للعرب، حيث قدر عدد القتلى الإجمالي في هذه المعركة بين 300-400 شهيد، من جيش الإنقاذ والجيش السوري والفلسطينيين المناضلين والمواطنين العزل.

استمرار الهجومين الشرقي والغربي

ما زال جيش الإنقاذ يسيطر على جبل ديدبة، الذي يمكن إطلاق النار منه على الجنود الصهاينة في الجش والصفصاف المحتلتين. وبالفعل، فتح جيش الإنقاذ نيران مدفعيته على مركز قيادة اللواء "شيفاع" في الصفصاف، في محاولة أخيرة لمنع تقدم اللواء المدرع إلى سعسع واحتلالها، وقع القصف وقعًا شديدًا على الجنود الصهاينة المتواجدين في الصفصاف، ولكن ذخيرة مدفعية جيش الإنقاذ نفذت بعد فترة قصيرة، وانتهى بذلك أي أمل بإيقاف زحف المدرعات الصهيونية بقيادة بن دنكلمان إلى سعسع.

في تلك اللحظة، بدأت المدافع الرشاشة الصهيونية بإطلاق نار شديد على المدافعين عن جبل ديدبة، وحتى لا يتنظم جنود جيش الإنقاذ المنسحبين من المناطق التي احتلت في الليلة السابقة ويتمركزون في سعسع، بدأت المدفعية الصهيونية بإطلاق قذائفها بكثافة نحو القرية. وعند قدوم ليل 29-30 تشرين أول/اكتوبر 1948، ابتدأت الكتيبة المدرعة التاسعة من لواء "شيفاع"، يتبعها المشاة، بالتقدم نحو قرية سعسع، وعندما وصلتها اندفعت القوة بشدة إلى داخل القرية، وصارت تطلق نيرانها بكثافة وعشوائية، ما أدى إلى استشهاد 15 شخصًا من سكان قرية سعسع، والتي كانت خالية من جيش الإنقاذ، الذي انسحب إلى داخل الحدود اللبنانية بسبب المعركة غير المتكافئة، وحتى لا يباد من بقي منه أو يقع في الأسر. بعدها قام جنود اللواء "شيفاع" بطرد كل السكان الذين بقوا في القرية إلى لبنان.

أما اللواء "تيشاع/عودد" فقد أعاد الكرّة في نفس هذه الليلة، أي ليلة 29-30 تشرين أول/أكتوبر 1948، بالهجوم على قرية ترشيحا واحتلالها في الصباح التالي. حيث تقدمت الكتيبة الأولى من اللواء، فاحتلت المخافر التي تقع غربي ترشيحا. السرية الثانية قامت باحتلال "تلة الشجرة" عند الساعة 22:30، ثم احتلت باقي المخافر ومن ثم دخلت قرية معليا. السرية الأولى وجدت كل المخافر التي أوكلت باحتلالها، خاصة تلة الصخور، خالية من الجنود، فتقدمت إلى داخل قرية ترشيحا، وانضمت إليها السرية الثانية. لم تواجه السريتان مقاومة تذكر، حيث أنّ جيش الإنقاذ كان قد انسحب من هذه القرية، أيضًا. في الساعة 08:45، سيطرت القوة الصهيونية على مركز الشرطة، الذي كان يستعمل كمقر كتيبة اليرموك الثالثة لجيش الإنقاذ، بعدها أعلن وجهاء القرية استسلامهم.

وبعد ذلك، تقدّمت قوات الكتيبة الأولى للواء "تيشاع/عوديد" فاحتلت قرية المنصورة، ثم طربيخا، ثم إقرث.

الكتيبة 11 لنفس اللواء، أزالت حقول الألغام التي تعترض الطريق إلى ترشيحا، ثم استمرت في سيرها نحو سعسع من أجل أن تلتقي مع قوات اللواء "شيفاع" حسب الخطة الأصلية للحملة. وفي طريقها احتلت قوة منها قرية سحماتا، بينما قامت قوة أخرى من نفس الكتيبة باحتلال قرية فسوطة عند الساعة 14:30، ثم احتلت حرفيش ودير القاسي، واستمرت في سيرها حتى سعسع، حيث وصلتها عند الساعة 16:30، وانضمت إلى قوات لواء "شيفاع"، ومن ثم سيطرت على مركز شرطة القرية عند الساعة 17:00.

أما الكتيبة الثانية من لواء "تيشاع/عوديد"، فقد تقدمت باتجاه البقيعة، وهناك حصلت معركة بينها وبين قوة جيش الإنقاذ المنسحبة من الرامة. وكانت الخسارة من نصيب جيش الإنقاذ في هذه المعركة، ثم استمرت الكتيبة باتجاه الرامة، وهناك التقت بقوة من لواء "غولاني"، كانت قد احتلت قرية عيلبون القريبة من سخنين في نفس اليوم، فعادت الكتيبة على أعقابها من اجل إكمال طرد الفلسطينيين من القرى القريبة.

هجوم "غولاني" على عيلبون وانسحاب جيش الإنقاذ منها

قام لواء "غولاني" في اليوم الأول لحملة "حيرام" بتنفيذ قصف مكثف بالمدفعية، على قرية عيلبون الواقعة جنوبي المنطقة التي يسيطر عليها جيش الإنقاذ، وذلك لمنع جيش الإنقاذ من نجدة القوات المتواجدة شمالا. في اليوم التالي، وبعد التأكد من تقدم الحملة في الشمال وسقوط الجش، تحركت قوات اللواء عن طريق سهل البطوف، في ساعات الظهر الأولى من يوم 29 تشرين أول/أكتوبر 1948، وذلك بهدف الصعود من هناك إلى التلال المحاذية لقرية عيلبون، وإجلاء جيش الإنقاذ من هذه التلال ومن ثم احتلال القرية. كانت القوة مكونة من سرية مدرعة، وقوات مشاة سارت خلفها مما جعلها تشعر بالثقة العالية بالنفس، وكأنها معصومة عن رصاص المقاتلين العرب، الذين سرعان ما أمطروا القوة بنيران شديدة، مما اضطر جنود "غولاني" للبحث عن ملاذ يقيهم من الرصاص.

في نفس الوقت، تقدمت المدرعات الصهيونية رغم إطلاق النار الغزير عليها، حتى أصيبت المدرعة التي تسير في المقدمة وتعطلت عن العمل، فتقدمت مدرعة أخرى لمساندتها فأصيبت هي الأخرى. في هذه الأثناء، بدأت كتيبة اليرموك الأولى المتواجدة في عيلبون باستعمال مدفعية 20 مم ضد القوة المهاجمة، ثم أطلقت عليها عدة قذائف مدفعية ثقيلة عيار 81 مم، حتى نفدت ذخيرتها من قذائف المدفعية. أصيبت، أيضًا، خلال القصف سيارتان عسكريتان بقذائف فتوقف الهجوم تماما، إذ لم يعد بإمكان جنود لواء "غولاني" أن يتقدموا أكثر، بل أصبحوا في وضع محرج كونهم يتواجدون في منطقة منخفضة عن المدافعين، الذين ما زالوا يمطرونهم بنيرانهم حتى قدوم المساء.

في الليل وعند تمام الساعة 22:00، بدأت القوة الصهيونية بالتقدم مرة أخرى، معتلية الجبل المواجه لعيلبون بدون أن تواجه مقاومة جدية، حتى وصلت إلى المخافر التي يتمركز فيها المدافعون عن القرية وذلك عند الساعة الثالثة صباحا من يوم 30 تشرين أول/أكتوبر 1948، واحتلتها بسهولة لم تتوقعها، إذ أنّ النيران التي تعرضت لها كانت ضعيفة ولم تحدث فيها إصابات.

كانت كتيبة اليرموك الأولى، تنفذ أمر الانسحاب الذي تلقته من القيادة في اليوم السابق، رغم أنها رفضت تنفيذه في البداية لاعتقادها بأنها قادرة على الصمود في وجه قوات "غولاني"، إلا أن الأوامر كانت لا تحتمل لبسًا: يجب الانسحاب خوفا من تطويق القوات والقضاء عليها. ولذلك، على كتيبة اليرموك الأولى أن تنسحب حالًا إلى سعسع، من أجل إعادة ترتيب الصفوف وشنّ هجوم مضاد على قوات لواء "شيفاع" الذي يتقدم بسرعة متناهية.

كان الانسحاب في ظل معركة مع قوات "غولاني" التي تتفوق بالعدة والعتاد ليس سهلا، وكذلك كان على قوة جيش الإنقاذ أن تبعد "جولاني" عنها مسافة تسمح لها بالانسحاب بدون أن تتعرض للإبادة. كان الأمر يشمل كل القطاع الجنوبي لجيب الجليل، وكان تحرك القوة على طريق الرامة - سعسع شمالًا، وخلال الانسحاب كان على القوى المنسحبة، أن تنفذ عدة هجمات معاكسة حتى الوصول إلى الحدود الجنوبية للبنان. فقد شنت هجوما معاكسا على مفرق سحماتا - ترشيحا وذلك لمنع تقدم القوات الصهيونية إلى الشرق، وهجوما مضادا على حرفيش لوقف تقدم القوات الصهيونية نحو الغرب، وهجوما أخيرا بالمدرعات على سعسع لمنع القوات الصهيونية من الوصول إلى دير القاسي-الرميش، وذلك لتأمين طريق المدرعات العربية إلى لبنان.

احتلال عيلبون و"غولاني" تتقدم نحو مجد الكروم

عندما وصل جنود لواء "غولاني" إلى مخافر جيش الإنقاذ والمطلة على قرية عيلبون، شاهدوا حركة سيارات عسكرية منسحبة باتجاه الشمال مرورا بقرية المغار، ففهموا أن المقاومة الضعيفة في اليوم الثاني، إنما تعود إلى هذا الانسحاب المفاجئ. ما عليهم الآن إلا أن يدخلوا إلى القرية ويعلنوا سيطرتهم عليها، وهذا ما تم فعلا، إذ تقدمت القوة الصهيونية ودخلت القرية بدون أن تطلق عليها رصاصة واحدة. كان قسم كبير من الناس، قد لجأ إلى الكنيسة الكاثوليكية اعتقادًا منهم أنها مكان حصين ضد عمليات القتل التي يمارسها الجنود الصهاينة في القرى التي يحتلونها. كذلك استقبل رجال الدين المسيحيون من الطائفتين الأرثوذكسية والكاثوليكية جنود "غولاني" بالترحاب والسلام، تعبيرًا عن استسلام القرية، حيث أن الكثير من سكان عيلبون كانوا قد رفعوا الأعلام البيضاء على بيوتهم، في إشارة إلى للجنود أن القرية أصبحت في أيديهم بدون مقاومة من أهلها.

أخرج الجنود الناس من الكنيسة وأمروهم بالتجمع في ساحة القرية، ثم فصلوا النساء عن الرجال، وقاموا بإطلاق النار تسريعًا لعملية الفصل، ما أدّى إلى استشهاد أحد الشباب، وجرح اثنين آخرين. أمر الجنود الناس بأن يهجروا القرية ويذهبوا شمالًا إلى لبنان سيرًا على الأقدام، وأبقوا 17 شابًا، وبعد ابتعاد أهالي عيلبون عن قريتهم، قام الجنود بقتل 12 من الشباب الذين أبقوهم، وأخذوا الخمسة الآخرين من أجل استعمالهم دروعًا بشرية، تسير أمام المركبات العسكرية إلى مجد الكروم، وكان أحد هؤلاء الشباب يجيد قيادة السيارة، فأمروه بأن يقود السيارة الأولى التي من الممكن أن تدوس على أحد الألغام التي في الطريق. من الجدير ذكره هنا، أن قسمًا كبيرًا من أهالي عيلبون كان قد عاد بعد عدة أيام إلى القرية، وذلك بعد أن غيّر القائد الصهيوني رأيه، وأمر المسيحيين من المهجرين بالعودة عبر نفس الطريق الشاقة والمؤلمة، التي مر بها أهل القرية في مسيرتهم التهجيرية إلى جنوب لبنان.

في الساعة 8:00 صباحا، يوم 30 تشرين أول/أكتوبر 1948، دخلت قوة "غولاني" قرية المغار بدون مقاومة، واستمرت في تقدمها فدخلت قرية الرامة ومن ثم البقيعة بدون أن تواجه أي مقاومة على الطريق حتى قرية مجد الكروم، والتي كانت مركزا لجيش الإنقاذ، ولما وصلتها "غولاني" كانت خالية تماما من المقاومين، بعد انسحاب جيش الإنقاذ من فلسطين، هذا الأمر لم يردع الجنود من شنّ عمليات في القرية بعد عدة أيام من أجل "إقناع" سكانها بالرحيل عنها، ورغم نجاح خطتهم في البداية، إلا أن قسمًا كبيرًا من أهل القرية عاد إليها أو بقي فيها سرًا حتى هدأت الأحوال.

عمليات أخيرة وسيطرة على قرى لبنانية

عمليًا، كان التقاء قوات الهجوم الغربي بقوات الهجوم الشرقي في سعسع هو بمثابة نهاية المعارك، ولكن الحملة بقيت مستمرة، حيث قامت سرية من الكتيبة الثانية/"كرملي" بالهجوم على مرتفع الشيخ عباد في ساعات بعد الظهر من يوم 30 تشرين أول/أكتوبر 1948، واحتلته بدون مقاومة، إذ إنّ المدافعين عنه كانوا قد انسحبوا من المرتفع بعد سقوط قرى المنطقة. وفي منتصف نفس الليلة، قامت نفس السرية باحتلال المخافر التي تطل على مستعمرة المنارة والشارع المؤدي إلى لبنان، وكان أحد هذه المخافر يقع داخل الحدود اللبنانية. وفي الساعة 06:00 صباحًا من صباح اليوم التالي، احتلت السرية مخفرا آخرَ يقع على بعد خمسة كيلومترات داخل الحدود اللبنانية.

في الساعة 08:30، احتلت قوة "كرملي" قرية حولا في لبنان، وكانت هذه هي القرية الأولى التي احتلت خارج فلسطين، وقد ارتكبت فيها سرية "كرملي" مجزرة راح ضحيتها 94 شخصا من سكان القرية التي استسلمت بدون مقاومة. في الساعة 11:00 احتلت نفس السرية قلعة دبل جنوب حولا، ثم احتلت قرية مركبا عند الساعة 17:00.

وحدات أخرى من لواء "كرملي" من الكتيبة الثالثة والرابعة، دخلت في نفس اليوم إلى لبنان واحتلت قرية ميس الجبل وقرى لبنانية أخرى. حتى الظهر سقطت 15 قرية لبنانية بيد وحدات "كرملي"، نذكر منها: طلوسة، ورب ثلاثين، وبني حيان، ودير سيريان وغيرها. وبذلك، سيطر لواء "كرملي" على منطقة في لبنان تقع بين الحدود الغربية لما يسمى إصبع الجليل وبين وادي دوبا، ومن قرية دير سيريان على حدود الليطاني في الشمال حتى قنطرة والقصير في الغرب، وميس الجبل وبليدة في الجنوب. أما الجيش اللبناني فلم يطلق رصاصة واحدة باتجاه القوات الغازية، حتى انسحابها في شهر آذار/مارس 1949، إثرَ توقيع اتفاقات وقف إطلاق النار في رودوس.

بعد ظهر يوم 31 تشرين أول/أكتوبر 1948، احتلت الكتيبة الأولى/"كرملي" بالتعاون مع مدرعات من لواء "شيڤاع" قرية بليدة وقدس والمالكية بدون أي مقاومة. كانت هذه هي العملية الاحتلالية الأخيرة لحملة "حيرام" التي انتهت رسميا عند الساعة 11:00 من نفس اليوم، وإعلان وقف لإطلاق النار.

انتهاء الحملة بنجاح منقطع النظير

حقّقت الحملة خلال يومين فقط هدفها الرئيس، باحتلال الجليل كاملًا والتخلص من جيش الإنقاذ تمامًا. كان الهجوم الصهيوني المخطط جيدا، بمشاركة قوات ضخمة وسلاح مدرعات كبير، واستعمال الطيران الحربي والمدفعية بشكل واسع، أكبر من أن يتحمله جيش الإنقاذ الذي يفتقد إلى الذخيرة الحية الكافية، والانضباط الحربي والتدريب الكافي، ما تسبب بانهيار لواء اليرموك الثاني في وجه هجوم لواء "شيڤاع" بسرعة، وكذلك خسارة لواء اليرموك الثالث المعركة ضد لواء "تيشاع/عوديد"، وإن كان قد صمد أكثر قليلا من اللواء الثاني. هذا الانهيار في الجبهة الشمالية أدّى إلى أمر الانسحاب على عجل، والذي أصدره القاوقجي، خوفا من تطويق جيش الإنقاذ وإبادته. وهذا الأمر كان قد رفض في البداية، من قبل لواء اليرموك الأول، والذي يرابط في الجهة الجنوبية للجبهة، وكان هذا اللواء أكثر الألوية تجهيزا وجاهزية، واعتقد قائده، الرئيس وصفي التل، بأنّ الانسحاب كان خاطئا، حيث لم تعط لوحداته فرصة خوض المعركة المصيرية ضد الجيش الصهيوني، وكان هذا اللواء قد خرج من فلسطين بوحداته وهي كاملة العدة والعتاد تقريبا، ما عدا سقوط عدد قليل من الشهداء يقدر بـ30 جنديًا فقط.

كانت الميزة الرئيسية لهذه الحملة، ما عدا نجاحها السريع والحاسم، بخسائر قليلة جدا من الجانب الصهيوني (24 قتيلا فقط مقابل مئات من قتلى جيش الإنقاذ)، هي عدد المجازر الكبير الذي شنّتها القوات الصهيونية، وكان أبرزها: مذبحة قرية حولا اللبنانية حيث قامت وحدة من لواء "كرملي" بتفجير بيت على رؤوس السكان الذين أجبرتهم على الدخول إلى هذا البيت، ما تسبّب بسقوط 94 شهيدًا على الأقل، وفي قرية صالحة حيث فُجّر جامع على من فيه فسقط أكثر من 80 شهيدًا، وفي قرية الجش تم إطلاق النار على أكثر من 12 أسيرًا مغربيًا وسوريًا، وفي عرب المواسي قتل 14 شخصًا بدم بارد، ومجزرة عيلبون والصفصاف وسعسع اللواتي ذكرن سابقا في هذه المقالة. وقد استغلت هذه المجازر في إخافة الناس وحثهم على الهجرة إلى لبنان، ونجحت فعليًا في تهجير أكثر من 50٪؜ من سكان جيب الجليل الفلسطينيين.

أما على الصعيد العربي، فأظهرت الحملة، مرّة أخرى، خلال حرب 1948، هشاشة وضعف الجيوش العربية، وافتقارها إلى التخطيط العسكري السليم، وعدم التنسيق في ما بينها، بحيث استطاعت إسرائيل أن تستفرد بجيشين عربيين، كل على حدة، خلال شهر تشرين أول/أكتوبر في حملة "يوآڤ" ضد الجيش المصري في الجنوب، وفي حملة "حيرام" ضد جيش الإنقاذ في الشمال، بدون أن تحرك الجيوش العربية الأخرى ساكنًا من أجل نصرة أيٍّ من الجيشين.

نهاية هذه الحملة، كانت تنذر بنهاية المعارك في شمال فلسطين عام 1948، بنصر صهيوني ساحق، ولم يبقَ الآن إلا بعض فلول الجيش المصري في جنوب البلاد، والتي كانت في وضع صعب ومحرج من الناحية العسكرية، وأما إخراجها من فلسطين وحسم المعركة نهائيا في الجنوب، فيحتاج من الناحية الصهيونية، إلى حملة كبيرة أخرى، سنأتي على ذكرها في حلقات قادمة.


المصادر:

1. "بيني موريس"، تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى 1948.

2. حملة "حيرام"، قصة المعركة، مجلة "معرخوت" عدد 149، كانون ثانٍ/يناير 1963.

3. "بن دونكلمان"، وفاء مزدوج.

4. خطة حملة "حيرام"، مجلة "معرخوت" عدد 145، تموز/يوليو 1962.

5. مرحلة الحسم، مجلة "معرخوت" عدد 263-4، حزيران/يونيو 1978.

6. "آڤي كوهن"، سيرة سلاح الجو في الحرب للاستقلال، الجزء الثالث.

7. "موشي كرمل"، معارك الشمال.

8. "تسادوك إيشل"، لواء "كرملي" في حرب "الاستقلال".

9. "بنيامين چشور"، أوراق زيتون وسيف ("علي زايت ڤِحيرڤ) - مصادر وابحاث في أرشيف الهاچانا ، اللواء "تيشاع" في حرب الاستقلال.

10. قيس ماضي فرّو، دروز في زمن الغفلة، من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية.

11. "نتائيل لوراخ"، سيرة حرب الاستقلال.

12. احمد خليفة (مترجم)، حرب فلسطين 1947-1948، الرواية الإسرائيلية الرسمية.

13. د.مصطفى عباسي، أوراق زيتون وسيف ("علي زايت ڤِحيرڤ) - مصادر وابحاث في أرشيف الهاچانا ، قرية الجش خلال حملة "حيرام".

14. الدكتورة خيرية قاسمية، (معدة)، فلسطين في مذكرات القاوقجي.

15. "بيني موريس"، ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947-1949.

16. مقابلة شفوية مع محمد دغيم في موقع PalestineRemembered.com

17. عادل مناع، نكبة وبقاء- حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل.

18. "بنيامين عتسيوني"، طريق معارك لواء "غولاني".

19. ناهض حتر (أعداد)، وصفي التل في مجابهة الغزو الصهيوني.

20. "إيلان پاپه"، التطهير العرقي في فلسطين.

21. "ابراهام سيلع"، جيش الإنقاذ في الجليل خلال حرب 48، حرب "الاستقلال" 1948-1949، تحرير ألون كديش".

التعليقات