72 عاما على النكبة: صمود رجال القلعة 1948 (28/2)

أصدر قائد الكتيبة الثالثة من غفعاتي أوامره بضرورة احتلال مركز شرطة عراق سويدان، بما يسمى حملة "كيبوش" أي احتلال، وكان ذلك في 18 أيار/مايو 1948، على أن يتم التنفيذ فورًا.

72 عاما على النكبة: صمود رجال القلعة 1948 (28/2)

من معارك عراق سويدان

الحلقة الثانية من قصة احتلال مركز شرطة عراق سويدان 1948

(أهدي هذه السلسلة لروح صديقي المرحوم هاشم حمدان، الذي كان له الدور الأكبر في تشجيعي على الاستمرار بكتابتها)


يصف يتسحاك ساديه، أحد مؤسسي "الپلماح" وقائده الأول، وأحد قادة الهاغاناة، الموقف بعد سيطرة الجيش المصري على مركز شرطة عراق سويدان هكذا: "اهتم البريطانيون أن يتم تسليم مركز الشرطة لقوة عربية، وهؤلاء سلّموها للجيش المصري، الذي تمركز وتحصّن داخلها، ورفع علمه على البرج الأعلى وهو البرج الذي يقع في الناحية الجنوبية الشرقية. البرج العالي والسارية، رفعا العلم لأعلى وأعلى حتى يخيفنا. هذا العلم أغضبنا وحرك فينا مشاعر الكراهية، وفي بعض الأحيان جلب لنا الاكتئاب، ولكنه لم يزرع الخوف فينا. برج العلم والمركز نفسه كانا مرتفعين جدًا. رأينا العمارة العريضة وأبراجها، من مسافات النقب البعيدة، وعرفنا أن عين العدو تراقب كل حركة نقوم بها من بعد عدة كيلومترات".

من ناحية أخرى، كان مركز الشرطة يبعد 1700 مترٍ فقط من مستعمرة نيغبا، التي كانت من الأهمية بمكان بالنسبة للمشروع الصهيوني، فهذه المستعمرة شكلت حلقة الوصل بين مستعمرات النقب والمستعمرات الشمالية، حيث أنّها تقع بجانب الطريق الداخلي المؤدي إلى النقب، والذي مرّت منه القوافل إلى المستعمرات الجنوبية. كذلك كانت مستعمرة نيغبا مركزًا مهمًا للواء غفعاتي، ومنها انطلقت هذه القوات لتهاجم القرى العربية الواقعة في المنطقة.

كذلك، كان مركز شرطة عراق سويدان يبعد المسافة ذاتها عن المفرق الهامّ في منطقته، وكذلك كان يطل على قرية جولس من الشمال الغربي، وقرية عراق سويدان من الجنوب الشرقي، وبيت عفة من الشرق، وعبديس من الشمال الشرقي. وبذلك، يشكّل المركز نقطة مهمة في الدفاع عن هذه القرى، ولذلك اعتبرت قيادة لواء غفعاتي وجود المصريين في مركز شرطة عراق سويدان، أشدّ سوءًا من تعرض مستعمرة نيغبا لقصف الطيران المصري في 18 أيار/مايو 1948، ووقع القرار بضرورة احتلال المركز مهما كلف الأمر، وأن لا يؤثر الفشل الأول في السيطرة على مركز الشرطة على الخطط الحربية الصهيونية، فالمعركة مع الجيش المصري بدأت الآن، واحتلال المركز من شأنه أن يؤثر بشكل جذري على مجريات الحرب، ولذلك يجب ان يكون التنفيذ فوريًا.

من ناحيته، عرف الجيش المصري ما هي أهمية مركز شرطة عراق سويدان، وأنّ الجيش الصهيوني لن يهدأ له بال حتى يحتله، ولذلك عزّز تواجده داخل الحصن وأعد العدة لصد أي هجوم عليه، فكان للمركز شأن كبير في الحرب، ولم تخلُ مرحلة من مراحل حرب 48 في الجنوب، إلا وكانت المعارك حول مركز الشرطة جزءًا أساسيًا منها. (لمزيد من المعلومات عن معارك الجيش المصري قبل الهدنة الأولى، انظر الحلقة 19/4).

غفعاتي تهزم في هجومها الثاني

أصدر قائد الكتيبة الثالثة من غفعاتي أوامره بضرورة احتلال مركز شرطة عراق سويدان، بما يسمى حملة "كيبوش" أي احتلال، وكان ذلك في 18 أيار/مايو 1948، على أن يتم التنفيذ فورًا.

في نفس الليلة، أي ليلة 18-19 أيار/مايو، انطلقت القوات من مستعمرة نيغبا، من أجل تنفيذ المهمة. وكانت القوة المعدة لاحتلال مركز الشرطة، مكونة من السرية الأولى من الكتيبة الثالثة/غفعاتي معزّزة بسرية من الكتيبة الرابعة لنفس اللواء، وكانت وظيفة هذه السرية أن تتمركز على التلة المطلة على مفرق عراق سويدان، من أجل صد أي نجدة مصرية قادمة من المجدل عند بدء الهجوم على مركز الشرطة. أمّا السرية من الكتيبة الثالثة، فتقدمت من نيغبا حتى موقع التحضير للهجوم في منطقة تقع شمالي مركز الشرطة، وهناك انفصلت السرية إلى قسمين، حيث توجه فصيلان منها من أجل صد أي نجدة من قرية عراق سويدان أو قرية بيت عفة. أما الفصيل الثالث فكانت مهمته اقتحام مركز الشرطة بعد قصفه بالمدفعية.

في الساعة 01:30، بدأ الصهاينة بقصف مركز الشرطة بقوة نارية كبيرة، اشترك فيها مدفع رشاش وثلاث راجمات عيار 81 ملم، منصوبة بين مستعمرة نيغبا ومركز الشرطة، الذي كان مضاءً، ولذلك كان من السهل على القوة المهاجمة أن تصيبه بالقذائف الصاروخية والرصاص، وقد عزا المهاجمون أمر إضاءة المركز إلى الثقة الزائدة التي كانت لدى القوة المصرية بسبب حصانة المركز أمام هجمات خارجية.

سقطت القذائف على القوة المصرية، ولكن هذه لم تحرك ساكنًا، في انتظار تقدم القوة المهاجمة لتصبح في مرمى نيرانها، حيث أن هذا القصف قضى عمليًا على عنصر المفاجأة، ولم يعد باستطاعة أي قوة أن تقترب من جدران مركز الشرطة بدون أن تتعرض للنيران المصرية. وبالفعل، وبعد انتهاء القصف، تقدّمت القوة الصهيونية الراجلة نحو مركز الشرطة مستعملة المدافع الرشاشة المتوسطة والقنابل اليدوية ورصاص البنادق.

عندما أصبحت القوة الصهيونية في مرمى النيران المصرية، أطلق عليها المدافعون قذائفهم ورشاشاتهم، ما فاجأها واضطرّها إلى التقدم بحذر وببطء شديدين، وانطلقت أسلحة القوة المهاجمة باتجاه المدافعين، عسى أن يحدّ هذا من كثافة نيرانهم، إلا أن الأمر لم يفلح، بل أنّ النيران ازدادت قوة وشدة، ما أوقف الزحف نحو المركز. ليس هذا فحسب، بل أن القوة المهاجمة وصلت إلى حقل ألغام حول الأسلاك الشائكة التي تحيط بمركز الشرطة، وهنا بدأ المصريون بتشغيل هذه الألغام، ما تسبب في أن يدب الرعب في قلوب المهاجمين. ناهيك عن قدوم نجدة مصرية من جهة المجدل، ولم تلقِ هذه القوة بالًا للفصيل الصهيوني الذي يحرس التلة المطلة على مفرق عراق سويدان، حيث أنّ هذه القوّة، وعند تقدمها نحو مركز الشرطة، أحسّت بوجود قوة صهيونية مختبئة في العتمة عند المفرق ففتحت عليها النيران، وأبقتها في مواقعها، بدون أن تجرؤ هذه على الرد على النيران المصرية، وفي نفس الوقت أصبحت عديمة الفائدة.

بعد تبادل شديد لإطلاق النار عند مركز الشرطة، وقبل أن يبزغ الفجر، خافت القوة الصهيونية من شروق الشمس، فتصبح عندها مكشوفة تماما للقوة المصرية، التي تدافع عن الحصن، ولذلك صدرت الأوامر بالانسحاب الفوري، لجميع الفصائل المشاركة في الهجوم. وبهذا، انتهى الهجوم الثاني على مركز شرطة عراق سويدان بهزيمة ثانية للكتيبة الثالثة من لواء غفعاتي.

غفعاتي تحاول مرة أخرى وتفشل

عندما فشل الهجوم الثاني على مركز شرطة عراق سويدان، تقرر في نفس اليوم أنّه يجب العمل على تنفيذ هجوم ثالث سريع. هذه المرة تقرر أن ترسل وحدات استطلاع من مستعمرة نيغبا لتعرف حجم القوة المصرية داخل مركز الشرطة وقوة نيرانها، وفي مساء يوم 19 أيار/مايو 1948، صدرت الأوامر من قائد الكتيبة الثالثة غفعاتي بتنفيذ الهجوم في ليلة 21-22 أيار/مايو، على أن تقوم بتنفيذه سرية من الكتيبة الثالثة/غفعاتي، وفصيل من الكتيبة الرابعة/غفعاتي، وفصيلان من رجال المستعمرات، وفصيل مدرع، وحظيرة مدفع رشاش متوسط، وطاقم راجمة "دويدكا". كانت التقديرات الصهيونية تفيد بوجود 80 جنديًا مصريًا على الأكثر داخل الحصن.

كانت الخطة تقضي يكون الاقتحام بواسطة فصيل من رجال المستعمرات، عليه أن يحاول شق طريق بين الأسلاك الشائكة، بدون أن يحدث أي ضجيج أو يطلق النار، وإن لم ينجح، فعليه أن يستعمل أسلحته النارية، مستعينًا بباقي القوات، التي عليها جميعًا أن تلهي المدافعين عن القوة المقتحمة. وكان ترتيب القوات على النحو التالي: يتمركز فصيل أول على بعد 150 مترًا شمال غرب الشرطة؛ قوّة المصفّحات تتحرك من مستعمرة نيغبا بعد الساعة 21:30 بدون أضواء حتى مفرق عراق سويدان، وتكون مهمتها أن تهاجم الحصن بهدف تحويل الأنظار عن القوة المقتحمة، وكذلك كانت مهمة طاقم الرشاش والراجمات من الجهة الشمالية الغربية. فصيل من المشاة كانت مهمته إغلاق الطريق بين مركز الشرطة وقرية عراق سويدان، وسرية مشاة تقوم بسد الطريق الموصلة بين المجدل وبيت جبرين في منطقة المفرق.

وفي حالة فشل الفصيل المقتحم في مهمته، يبقى في مكانه ويتحول إلى قوة إلهاء، بينما يتقدم الفصيل المتمركز شمال غرب المركز، ويجرّب هو اقتحام الشرطة من الجهة الغربية. في نفس الوقت تتقدم القوة المصفحة حتى المدخل الجنوبي للمركز، وتحاول اقتحام المبنى من هناك.

تحركت القوات من نيغبا، عند الساعة 21:30 وأخذت كل قوة موقعها حسب الخطة. تقدّمت القوة المقتحمة حتى الأسلاك الشائكة بدون أن يشعر بها المصريون، الذين كانوا على أهبة الاستعداد للدفاع عن المركز حيث الأضواء مطفأة هذه المرة. عندما بدأت القوة المقتحمة بقطع الحاجز الأول من الأسلاك الشائكة، أحست بهم القوة المصرية ففتحت نيران بنادقها ومدافعها الرشاشة باتجاه المهاجمين الذين ردوا بالمثل، وفتحت باقي القوات الصهيونية النار من جميع الاتجاهات على المدافعين.

تحت ستار النيران الشديدة، تقدم خبراء المتفجرات من قوة غفعاتي إلى الأسلاك الشائكة، وبدأوا بزرع الألغام لتفجيرها من أجل فتح ثغرة تمكن الجنود من الاقتحام، ولكن النيران المصرية أصابت خبير المتفجرات الأول إصابة قاتلة، قبل أن ينجح بتفعيل جهاز "الطربيدو بونغالور"، المعدّ خصّيصًا لإحداث الثغرات في الأسلاك الشائكة. ثم أصيب آخر وآخر، وكل من حاول التقدم من الأسلاك الشائكة.

بعد عدّة محاولات وخسائر في الأرواح، تقرّر استعمال الخطة البديلة للهجوم، فتقدّمت القوة المدرعة لتقتحم المركز من بوابته الجنوبية وتقدمت كذلك القوة المتمركزة في الجهة الغربية للاقتحام من الغرب. انطلقت النيران المصرية المضادة للمصفّحات واستطاعت أن تُعطبَ المدرعة الأولى وتجرح كل ركابها. جمّدت المصفحات في مكانها ولم تستطع التقدم أكثر، أما القوة الغربيّة، فتقدّمت حتى مسافة 100 مترٍ من الأسلاك الشائكة، إلا أنّ مصيرها كان كسابقاتها من القوات، بل أن النيران المصرية أصبحت أكثر قوة وكثافة، فأصيب قائد الفصيل المقتحم ثم توفي في المستشفى.

ازداد عدد الجرحى والقتلى من القوات المهاجمة، وبسبب استمرار المعركة لفترة أكثر من المتوقع وخوف قوات غفعاتي أن يبزغ الفجر عليها فيصبح وضعُها حرجًا في وضح النهار، تقرّر تنفيذ انسحاب شامل بدون أن تنجح القوات في تحقيق مأربها في احتلال مركز شرطة عراق سويدان.

لواء هنيغيف يجرب حظّه في احتلال الحصن، ويفشل

بعد أن فشلت غفعاتي ثلاث مرات في احتلال مركز شرطة عراق سويدان، طالب قائد لواء هنيغيف من قيادة الجيش في 22 أيار/مايو 1948، أي في نفس يوم فشل الهجوم الأخير، بأن تتخذ كل الوسائل من أجل احتلال المركز، "إن لم نفعل ذلك الآن، سنصبح معزولين عن شمالي البلاد". بناء عليه، تقرّر أن يقوم لواء هنيغيف بتنفيذ الهجوم القادم، عندما تسنح الفرصة لذلك.

مع اقتراب موعد الهدنة الأولى في 11 حزيران/يونيو 1948، تقرر أن تقوم قوات غفعاتي وقوات هنيغيف بتغيير في المساحات المحتلة في اللحظات الأخيرة قبل دخول الهدنة، من أجل إحداث أمر واقع جديد على أرض المعركة. مركز شرطة عراق سويدان كان في قلب هذه الخطط، حيث أن احتلال مركز الشرطة من شأنه أن يؤدي إلى فتح الطريق إلى مستعمرات النقب الجنوبية، كذلك فإنّ سقوط المركز سيفضي إلى انسحاب مصري من منطقة المفرق والقرى المجاورة له.

أوكل تنفيذ الهجوم لستة فصائل مشاة من الكتيبة السابعة/هنيغيف، وثلاثة فصائل سيارات جيب من الكتيبة التاسعة/هنيغيف، مع نصف مجنزرتين، واحدة منهما مزودة بمدفع 20 ملم، وثلاثة مدافع عيار 65 مم. كانت خطة الهجوم تقضي بأن يتم الاقتحام بواسطة فصيلين من الكتيبة السابعة/هنيغيف، بحيث تنقسم هذه القوة إلى أربعة أقسام، كل قسم لديه ثلاثة خبراء متفجرات من أجل اقتحام الأسلاك الشائكة، بحيث يقوم كل قسم باقتحام جدار أو اثنين، وبعد عبور كل الأسلاك الشائكة، تقوم إحدى القوى بتفجير المدخل الرئيسي للمبنى، ويتم الاقتحام إلى الداخل. بالإضافة إلى القوة المقتحمة كانت هناك قوّتان من أجل قصف مبنى الشرطة والتغطية على المقتحمين، القوة الأولى تتمركز في الجنوب الشرقي للمبنى وتتألف من فصيل مشاة ومدفعين رشاشين وراجمتين. من الناحية الجنوب غربية كانت هناك خمسة مدافع "فيات" ومدفعان رشاشان. كذلك أوكلت مهمة إغلاق طرق النجدة على فصيل من سيارات الجيب، ونصف مجنزرة مع مدفع عيار 20 ملم، وفصيل سيارات جيب استعمل من أجل التغطية من الجهة الشمالية. أما مدافع عيار 65 مم فكان عليها أن تقصف عمارة مركز الشرطة بصورة مباشرة.

انطلقت القوات المهاجمة مشيا على الأقدام من قرية كوكبة المحتلة، التي تقع على بعد 5 كم جنوب الحصن، وذلك في تمام الساعة 23:25 من يوم 10 حزيران/يونيو 1948، وتقدمت ببطء نحو مركز الشرطة، حتى وصلته بعد أربع ساعات. تقدّمت القوة المقتحمة نحو الأسلاك الشائكة، وبدأت المدفعية بقصف المبنى بكل قوة عند السّاعة 04:45، واستمر القصف لمدة عشر دقائق، ثم وُجّهت المدفعية باتجاه قرية عراق سويدان، بينما بدأت المدافع الرشاشة بصلي المبنى بنيرانها القاتلة. تحت ستار كثيف من النيران، استطاعت القوة المقتحمة أن تعبر جدار الأسلاك الشائكة الأول، وقبل أن تصل إلى الجدار الثاني كان المدافعون قد اكتشفوا أمرهم، وبدأوا بتوجيه نيران بنادقهم باتجاههم، ثم أطلقوا قنابل مضيئة فصار المقتحمون مكشوفين، ما صعب عليهم الأمر.

استمر القصف من الطرفين، وحاول المصريون الذين لم يتجاوز عددهم الستين جنديًا، أن يوقفوا زحف خبراء المتفجرات، إلّا أن الغطاء الذي وفره القصف المكثف للمبنى، أعطى الفرصة للقوة المقتحمة بعبور الجدار الأول والثاني والوصول إلى الثالث. في تلك اللحظات، أصبحت النيران المصرية أشد قوة، ما تسبب بمقتل وإصابة بعض المهاجمين، ولكنهم استمروا باقتحام الجدار الثالث، ثم اقتحموا الجدار الرابع والأخير كما كانوا يظنون، وهنا أيضًا تعرضت القوة المهاجمة إلى إصابات في الأرواح، وفي المقابل صارت النيران المصرية أكثر كثافة وقوة، ناهيك عن أنّ خبراء المتفجرات وجدوا جدارًا خامسًا، أضافه المصريون بعد الهجمات السابقة، يمنعهم من الوصول إلى البوابة الرئيسية كما اقتضت الخطة. كان اقتحام هذا الجدار أصعب بكثير من سابقيه، حيث أنه كان محميًا من مدفع رشاش مركب على البرج القريب من هذا الجدار.

استمر القتال الشديد، وحاول المهاجمون اقتحام الجدار الخامس، لكنّهم لم يفلحوا في ذلك، بسبب كثافة النيران المصرية. وعند الساعة الخامسة والنصف صباحًا، صدرت الأوامر الصهيونية بالانسحاب، ليس قبل أن تصل أربع طائرات مصرية وتقوم بقصف المهاجمين المنسحبين وتوقع بينهم القتلى والجرحى.

لواء هنيغيف يعاود الكرّة بعد الهدنة ويفشل

كان موعد نهاية الهدنة الأولى هو التاسع من تموز/يوليو 1948، وكانت القيادة العسكرية الصهيونية قد وضعت خطة شاملة للهجوم على الجيش المصري حال انتهاء الهدنة، واحتلال قرى ومواقع يتمركز فيها هذا الجيش. كان اسم الحملة "أنفار"، وكان احتلال مركز شرطة عراق سويدان إحدى المهام، التي ألقيت على لواء هنيغيف في هذه الحملة، وبذلك يكمل لواء هنيغيف مشروعه في احتلال مركز شرطة عراق سويدان، من المكان الذي توقف عنده قبل الهدنة. (لمزيد من المعلومات عن الهدنة الأولى، انظر الحلقة 20، والحلقتين 21/1 و 21/2 عن معارك الجيش المصري بين الهدنة الأولى والثانية).

خُصصت لهذه المهمة ثلاث سرايا مشاة من الكتيبة السابعة/هنيغيف، وفصيل مشاة من الكتيبة الثانية/هنيغيف، وفصيل نصف مجنزرات وفصيل سيارات الجيب من الكتيبة التاسعة/هنيغيف. كانت الخطة شبيهة بخطة الهجوم السابق، والفرق الوحيد أنّ الاختراق لن يسبقه قصف مدفعي، بل على القوة المقتحمة، والمكونة من فصيلين، أن تقطع أسلاك الجدار الأول بدون أن تنتبه إليها القوات المصرية، وبعدها تقوم بتفجير الأسلاك الأخرى بواسطة استعمال جهاز "بونجولور تورنيدو"، وهو عبارة عن متفجرات داخل أنابيب، وعند انفجارها تحدث ثغرة في الأسلاك الشائكة يصل عرضها إلى أربعة أمتار وأكثر. وعند حدوث التفجيرات تشكل باقي القوات المهاجمة غطاءً ناريًا كثيفًا، يعطي خبيري المتفجرات الإمكانية بالوصول إلى بوابة مركز الشرطة وتفجيرها.

انطلقت الشاحنات المحملة بالقوات المهاجمة من موقعها عند الساعة 21:45، واضطرت القوة إلى النزول من الشاحنات عند قرية البرير، بسبب أن الجيش المصري كان قد احتل كوكبة والحليقات في ساعات النهار الأولى من نفس اليوم. واستمرت القوة الصهيونية في تقدمها مشيًا على الأقدام مسافة خمسة كيلومترات، ووصلت إلى مسافة 200 مترٍ من جدار الأسلاك الأول عند الساعة 02:30، وبعدها وصلت قوات التغطية النارية، والتي كانت مزوّدة بمدفعين رشاشين، وراجمتين من الجهة الغربية، ومدفعين رشاشين وخمس مدافع "فيات" من الناحية الشرقية.

تمكنت القوة المقتحمة من تخطي جدار الأسلاك الشائكة الأول دون أن يشعر بها المصريون، ولكن بعض جنودها أصدر ضجيجًا بعدها ما أثار انتباه جنود الحصن، فأطلقوا وابلًا من رصاصهم على القوة المهاجمة، ثم أطلقوا القنابل المضيئة، ولكن القوة المهاجمة استمرت في التقدم بفضل نيران التغطية النارية الكثيفة.

استطاع القسم الأول من القوة المهاجمة أن يقتحم الجدار الثاني من الأسلاك بواسطة "البرنجولور"، أما القسم الثاني من القوة فأحدث ثغرة في الجدارين الثالث والرابع، وتم ذلك رغم وقوع خسائر فادحة في الأرواح. النيران المصرية الكثيفة لم تفلح في وقف الهجوم، إذ استطاع قسم من القوة المهاجمة اختراق جدار الأسلاك الشائكة الخامس، وصار الجند قريبين من بوابة العمارة، ولم يبق ما يمنعهم عنها، الا استبسال الجنود المصريين في الدفاع عن الحصن، فصاروا يصلون القوة الصهيونية بنيران رشاشاتهم، ثم صاروا يلقون بالقنابل اليدوية، ما تسبّب بإصابات كثيرة في صفوف المهاجمين.

اشتدّت النيران المصرية كلما اقترب الجند المهاجمون، الذين لم يعتقدوا أن المعركة ستستمر هكذا، فكان عليهم الانسحاب عند الساعة 05:45 قبل طلوع النهار، وإلا سيكون مصيرهم سيئًا بما لا يقاس عندما يصبحون في مرمى القوات المصرية، وهم مكشوفون تمامًا، وبذلك استطاعت القوة المصرية المتمركزة في الحصن بمنع احتلاله للمرة الخامسة وان تحافظ على مواقعها، وتمنع احتلال مركز شرطة عراق سويدان، وفتح الطريق إلى مستعمرات النقب الجنوبية.

(يتبع)


المصادر:

أبراهام أيلون، لواء غفعاتي في حرب "الاستقلال".

أبراهام أيلون، لواء غفعاتي في مواجهة الغازي المصري.

أردون وميخئيل كوهن، لواء "هنيغيف" في حرب "الاستقلال".

موشي غفعاتي، في طريق الصحراء والنار، سيرة الكتيبة التاسعة.

صحيفة "عل همشمار"، 30 أيلول/سبتمبر 1949.

أرييه حشڤياه، محرّر، إلى الدفة، قصة كتيبة 53/غفعاتي 1948.

التعليقات