هذه حكايتي: من يقرأ عن الفيروس ليس كمن يصاب به ولو كان طبيبا

الإصابة بالمرض ليست كدراسته، هذا ما يؤكّده ما حدث لمسؤول ملفّ كورونا في مجلس أبو سنان المحلّي، واختصاصي التخدير ووحدة العناية المكثّفة، الطبيب يوسف إمطانس، الذي انتقل من الإشراف على مواجهة المرض، إلى المعاناة منه وصولا إلى الغيبوبة وكتابة الوصيّة.

هذه حكايتي: من يقرأ عن الفيروس ليس كمن يصاب به ولو كان طبيبا

د. إمطانس

الإصابة بالمرض ليست كدراسته، هذا ما يؤكّده ما حدث لمسؤول ملفّ كورونا في مجلس أبو سنان المحلّي، واختصاصي التخدير ووحدة العناية المكثّفة، الطبيب يوسف إمطانس، الذي انتقل من الإشراف على مواجهة المرض، إلى المعاناة منه وصولا إلى الغيبوبة وكتابة الوصيّة.

أوشك د. إمطانس على الموت، وحين لم يعد يقوى على تحمّل المعاناة طلب من زملائه الأطباء إدخاله في غيبوبة وربطه بجهاز التنفس الاصطناعي لإنهاء معاناته. وأضاف "في هذه اللحظات، كان لي لقاء مع الموت وكانت تلك المرة الأولى التي أفكر فيها بأنني قد لا أعود إلى الحياة، ولذلك طلبت من زملائي الأطباء أن يحضروا لي ورقة وقلما لأدون فيها ما يشبه الوصية وما لي وما عليّ في هذه الدنيا".

عرب ٤٨: كيف أصبت بالعدوى؟

د. إمطانس: كنت أكثر الناس حرصًا على صحتي وعلى سلامة المحيطين بي، بحكم مهنتي طبيبًا مخضرمًا وقائمًا بأعمال رئيس المجلس المحلي في أبو سنان. وتسلّمت مسؤولية مكافحة كورونا في البلدة، نظرًا لاهتمامي بصحة أهالي بلدتي ومجتمعي، وبالتالي لم أكن أسمح لأحد، سواءً من المنتخبين أو الموظفين أو من زوار المجلس المحلي بأن يدخلوا دون وقاية ودون الالتزام بالتعليمات ووضع الكمامة وقياس الحرارة والتعقيم. وكنا، نحن المسؤولين، في المجلس المحلي نعقد اجتماعا صباحيا يوميا بمشاركة ضابط الأمن المحلي وعناصر الجبهة الداخلية لتقييم الوضع. وكما ذكرت، كنت محافظا وصارما جدا بشأن الالتزام والمحافظة على التعليمات.

في الأول من أيلول/سبتمبر الماضي، أي في اليوم الأوّل لافتتاح السنة الدراسية، شاركتُ في جولة في مدارس البلدة مع رئيس المجلس المحلي وعدد من المسؤولين لتفقّد الأوضاع، وكنت أنا بطبيعة الحال أضع الكمامة، بينما كان البعض غير ملتزمٍ، وكان من الصعب السيطرة على الوضع في ظل وجود مئات الطلاب وعشرات المعلمين.

بعد يومين، بدأت أشعر بأعراضٍ غير مريحة في الحلق وانبحَّ صوتي، فتوجّهت لإجراء الفحص، وبعد يومٍ واحدٍ حصلتُ على نتيجة موجبة. وبالفعل، اتخذت كل وسائل الحذر ودخلت إلى العزل الصحي وأبلغت زملائي في العمل وتواصلت مع أصدقائي من الأطباء المتخصصين في مستشفى "رمبام"، الذي عملت فيه لسنوات طويلة، ومن بينهم مديرة وحدة علاج كورونا في المستشفى، الطبيبة ختام حسين، وحصلت على استشارة منها وكنت على أتم الاستعداد لمواجهة الفيروس وتزوّدت بالمعدات الطبية اللازمة وبالأكسجين.

عرب ٤٨: هل شعرت بالخوف نظرًا لكونك في السبعينيّات من العمر، وربّما تصنّف في دائرة الخطر؟

د. إمطانس: في الواقع لا، لم يكن لدي خوف، أوّلًا لأنّني لم أكن أفكر في يوم من الأيام أن أصاب بالمرض، ثم أنّ جسمي سليم ومعافى بوجه عام، ولا أتوقّف عن العمل والنشاط البدني. لذلك لم يخطر على بالي المرض. عزلت نفسي وبدأت أواجه المرض لوحدي، اعتقادًا منّي بأنّني قادر على مواجهته، إلّا أنّ حالتي الصحية أخذت بالتراجع يوما بعد يوم، ودخلت في حالة ضغط. وأصبحت في حيرة من أمري، عندما صرت أشعر بضيق التنفس، وهنا راودني خوف معين. الأسبوع الأول انتهى دون أن أشعر بأي تحسن، وإنّما كان هنالك تدهور متواصل وتراجع صحتي مع العلاج.

في اليوم السابع أو الثامن على ما أذكر، لم أعد أحتمل المرض، اتصلت بمستشفى "رمبام" وطلبت منهم أن يعدّوا لي سريرًا وقلت لهم إنّني سأصل عمّا قريب بواسطة سيارة الإسعاف. عندما وصلت، كنت أشعر بالضيق والتعب وارتفاع الحرارة والسعال الشديد. رقدت في القسم المعدّ لمرضى كورونا، وقد ضاعفوا لي كمية الدواء والعلاجات.

عرب ٤٨: هل احتجت في مرحلة معينة إلى الأكسجين الداعم لمساعدتك على التنفس؟

د. إمطانس: نعم، بالتأكيد. حتى وأنا في البيت كنت أحصل على الأكسجين الداعم، وبعد سلسلة العلاجات بالعقاقير المضادة للفيروسات والستيروئيدات، لم يطرأ أي تحسن يذكر على حالتي الصحية، فضلًا عن الوحدة والعزلة القسرية التي كنت أعيش فيها داخل غرفة لا أرى فيها سوى ممرّضة تدخل لدقيقة واحدة وتخرج وكذلك عاملة النظافة.

بعد ثلاثة أيام من الضيق والمعاناة، طلبت نقلي إلى غرفة العناية المكثفة، وهناك جُرّبت عليّ العديد من الأجهزة القديمة التي أعرفها، وأجهزة حديثة لا تزال في طور التجارب، دون أية نتيجة. وهنا، أدركت أنني متّجه نحو المزيد من التدهور، عندها استدعيت اثنين من الأطباء – أحدهما ابن أخي وآخر اختصاصي العلاج المكثف وهو من تلاميذي – وقلت لهما "أعتقد أن الوقت حان لأن تدخلاني في غيبوبة، وأن تقوما بربطي بجهاز التنفس لأرتاح وتتوقف معاناتي!!". في هذه اللحظات، شعرتُ لأوّل مرّة بأنه قد لا تكون هنالك عودة إلى الحياة، واستخدمت عبارة كنت معتادًا على تكرارها وأنا أعالج المرضى، وقلت "نصف ساعة قبل، أفضل من ساعة بعد!!"، لاستباق تدهور الوضع وتدارك الأخطار التي قد تنجم عن التأخير. وطلبت أن أشاهد طاولة المعدات الطبية، لكي تكون مجهّزة تماما قبل تنويمي تحسّبا لحدوث أي طارئ، وذلك نظرًا إلى أنّ هذه المرحلة هي الأخطر في مسيرة العلاجات الطبية. وأخيرًا، عندما انتابني شعور بأن القادم قد يكون هو الأسوأ، طلبت ورقة وقلما (قالها بتأثر بالغ) لكي أدوّن فيها بعض الأشياء.

عرب ٤٨: هل كتبت وصيتك؟

(لحظات من الصمت تمالك د. إمطانس نفسه)، تبعتها كلماته: أبنائي ليسوا بحاجة إلى وصيّة، فكل واحد منهم يعرف مكانه ومكانته في العائلة. ولكن، مع ذلك، كتبت ما يشبه الوصية ما لي وما عليّ في هذه الدنيا، التي أنا موشك على مغادرتها، وكانت أصابعي غير قادرة حمل القلم بسبب المرض واستغرق معي وقتا طويلا (ما يقارب الساعة) لكتابة 20 جُملة، وبعدها قلت لهم تفضلوا أنا جاهز.

عرب ٤٨: كم من الوقت كنت في غيبوبة؟ وهل يشعر الغائب عن الوعي بأشياء غريبة تحدث من حوله؟

د. إمطانس: أدخلت في غيبوبة لمدة ثمانية أيام، كنت فيها تحت تأثير الأدوية المنوّمة. في هذه المرحلة، داهمتني أحلام مزعجة جدًّا، لا أدري في أي مرحلة تحديدًا، لكنّها كانت لحظات صعبة للغاية وأحلام ورؤىً غريبة عجيبة لا زلت أذكر تفاصيلها حتى اليوم، وكأنها في الواقع.. أذكر أنني كنت أنادي خلال الحلم وأقول "أتوسّل إليكم أعيدوني إلى بلادي!!"، كنت أشعر أنني أحلّق في طائرة فوق بلاد بعيدة أعتقد أنّها اليونان، لا أدري، أجد صعوبة في وصف المكان لكنه كان أشبه بملهى مقرف للغاية.

عرب ٤٨: هل شعرت بأنك بخير فور إيقاظك من التخدير؟

د. إمطانس: لا على العكس، فقد فوجئت بعد إيقاظي بأن جسمي كان مشلولا بالكامل رغم عودة وعيي وإدراكي.. وهنا، ربّما كانت قمّة المعاناة والصعوبة مع هذا الفيروس المجرم، فهذا المرض الفتاك صعب لدرجة أنه جعلني مدركًا بما يدور حولي، لكنّني لا أقوى على الحركة، فقد كانت حالة شلل كامل لا أستطيع معها أن أغيّر وضعية جسمي في السرير. كانت أعضائي مشلولة تماما، لا أقوى على تحريك إصبعي أو حمل كأس ماء، هذا الأمر أدخلني في حالة من الذهول!!

وبعد ثلاثة أيام من إيقاظي، أجريت لي فحوصات من ضمنها فحص كورونا، وجاءت النتيجة سلبية. في نهاية شهر أيلول/سبتمبر، نقلت من غرفة العناية المكثفة إلى قسم الأمراض الباطنية، بدأت أتعافى تدريجيا بعد أن استجابوا لطلبي بمغادرة المستشفى لأتعافى في البيت، وبعد شهر ونصف الشهر، عدت إلى مزاولة عملي بشكل تدريجي، ولا زلت حتى اليوم أشعر بالتعب عندما أقوم بجهد كصعود الدرج. وخلال الشهر الذي كنت فيه أتلقى العلاج، خسرت حوالي 18 كيلوغرامًا من وزني، وفقدت معظم شعر رأسي، وهي واحدة من الأعراض التي ترافق الإصابة بفيروس كورونا. وأخيرا أقول إنّني عدت إلى عملي كطبيب وما زلت حريصا على المحافظة على تعليمات الوقاية من المرض.

التعليقات