ظاهر: "أن تكون لاجئا في وطنك أشد قسوة من التهجير"

لم يكن الأديب والكاتب ناجي ظاهر شاهدا على أحداث النكبة عام 1948، لكنه عاش أثر النكبة بعد أن هُجّرت عائلته من قريتها، سيرين، وهُدّمت بالكامل وشُرّد أهلها بغالبيتهم إلى الأردن نظرا لقربها من الحدود، بينما رُحّلت بعض العائلات إلى الناصرة

ظاهر:

ناجي ظاهر (عرب 48)

لم يكن الأديب والكاتب ناجي ظاهر شاهدا على أحداث النكبة عام 1948، لكنه عاش أثر النكبة بعد أن هُجّرت عائلته من قريتها، سيرين، وهُدّمت بالكامل وشُرّد أهلها بغالبيتهم إلى الأردن نظرا لقربها من الحدود، بينما رُحّلت بعض العائلات إلى الناصرة وبعض المناطق المجاورة بحثا عن المأوى والأمان.

والتقى "عرب 48" الأديب والكاتب ناجي ظاهر، الذي لم تخل مؤلفاته التي تجاوز عددها الستين كتابا في القصة والرواية والأدب من الحديث عن قريته المهجرة، سيرين.

"عرب 48": ماذا تعني لك قرية سيرين، أنت لم تعش فيها، لكنها تأبى إلا أن تعيش فيك وبكل جوارحك، أليس هذا ما يستشف من كتاباتك؟

ظاهر: أولا، أنا قلت في أكثر من مناسبة وحديث إن النكبة أكبر مني بسنوات. أنا من مواليد مدينة الناصرة، تضرب جذوري في قرية اسمها سيرين، وهي واحدة من القرى العديدة التي هدمت عن بكرة أبيها. كانت سيرين التي هدمت بالكامل تتبع لمدينة بيسان، وهي أقرب ما يكون على قرى السجرة وغولم والحدثة ومعذر، وكفر كما هي أقرب البلدات العامرة من القرى التي أتحدث عنها. وسيرين مأخوذة من كلمة سورونا اليونانية وتعني حورية البحر الأسطورية (نصفها امرأة ونصفها الآخر سمكة) وفي القرية عين ماء عذب، كان يمر عليها الرعاة للراحة والانتعاش. وسيرين هي كسائر القرى التي دمّرت عام 1948، ومعظم عائلتي هاجرت إلى غور الأردن، بينما أسرتي كانت واحدة من العائلات القليلة جدا التي تشردت في داخل البلاد وذاقت مرارة الغربة وتنقلت بين عدة بلدات منها كفر مصر ودبورية حتى استقر بهم المقام في مدينة الناصرة، وكما روى لي أهلي فإنهم وصلوا إلى منطقة الكراج القريبة من مركز الناصرة، فقراء بسطاء مطرودون من بلدهم دون مأوى، حتى مرّت امرأة من المكان تدعى نظلي ملحم أو نازلي (وهو اسم تركي)، وسألتهم عن سبب وجودهم هناك، فقالوا لها إنهم طردوا من بيتهم ومن قريتهم سيرين، ولم يتبق لهم سقف يحميهم ولا يدرون ما يفعلون. كانت العائلة مؤلفة من أبي وأمي وأخي الأكبر وأختي الكبيرة، أما أنا وشقيقتي الصغرى وشقيقي الأصغر فقد ولدنا لاحقا في الناصرة. فقالت لهم نظلي ملحم إنها تملك بيتا من غرفتين وتكتفي بغرفة واحدة على أن تمنحهم الأخرى حتى يتدبروا أمورهم.

"عرب 48": هل استقرت أسرتك في تلك الغرفة حتى ولادتك؟

ظاهر: لا، في الواقع أهلي كانوا يشعرون بأنهم يشكلون عبئا على العائلة التي منحتهم الغرفة، فخرج والدي يبحث عن مأوى للأسرة، في ظل حالة الفقر المدقع والتشرد فعثر في جبل سيخ (نوف هجليل) على كشّاف أو ما يسمى منطرة وهي غرفة مبنية من الباطون ولها باب (مدخل) وفوقها منارة استخدمها الإنجليز لمراقبة المناطق المحيطة، وقام والدي بتنظيف المكان واتخذ منه مأوى للعائلة، وفي هذه المنطرة جئت أنا إلى هذا العالم. وكانت طفولتي قاسية جدا، تنقلنا خلالها بين عدة أحياء في المدينة وفي بيوت مستأجرة في حي النبعة والحارة الشرقية وغادرنا المدينة إلى دبورية، وبعد سنة عدنا إلى الناصرة. مسيرة كفاح رهيبة مرّ بها أهلي حتى تمكن والديّ من شراء قطعة أرض نائية بالقرب من مزرعة للخنازير في حي الصفافرة، وكانت تفوح في المكان رائحة كريهة جدا، وهناك أقامت عائلتي بيتا من الصفيح وهنا بدأت حياتنا تنتعش تدريجيا.

"عرب 48": كونك ابن قرية مهجرة ولاجئ في بلدة أخرى، كيف أثر ذلك عليك، وكيف انعكس هذا الأمر في كتاباتك؟

ظاهر: بالطبع كان لذلك بالغ الأثر، ويهمني في هذا السياق أن أتحدث عن طفولتي القاسية كجزء من آثار التهجير، ففي طفولتي كانوا يطلقون علينا صفة "لاجئين" وكنت أنزعج جدا من كلمة "لاجئ" فأنا في وطني وأُسمى لاجئ، وهذه الكلمة فيها تقليل من قيمة الإنسان فالذي يقول عنك لاجئ يشعرك بأن هناك فجوة بينك وبينه بمعنى أنه هو صاحب البيت وأن اللاجئ أدنى درجة ولا يتم التعامل معه بندّية.

من صور الطفولة القاسية جدا التي عشتها هي محبة الحكاية الشعبية، ففي تلك الفترة لم يكن هناك وسيلة للترفيه والتسلية سوى كانون النار والحكاية الشعبية، وفي الحي الشرقي كانت تعيش امرأة اسمها "آدو" وبعد أن قمت بتحليل اسمها اكتشفت أن المرأة كان اسمها "قادرية" وكان اسمها يُختزل بـ"قادو" أو آدو كنوع من الدلال. وكانت هذه المرأة تجمع الأولاد وتروي لهم القصص وهنا صرت أتمنى أن أجيد طلاقة الحديث مثلها وبدأت الحكاية الشعبية تدخل إلى روحي وقلبي، وحين سمعت قصة "الشاطر حسن" اشتعل فتيل الإبداع وفتيل الحياة في روحي وقلت في نفسي إنه كما أن الشاطر حسن نجح بتخليص حبيبته فإنني قادر على تخليص أهلي ووطني وبلدي وبدأت مسيرة البحث عن العدالة وعن الحرية وأنا طفل صغير، وصارت أمنية حياتي أن أتحدث وأن أكتب الرواية مثل تلك المرأة. في تلك الفترة بدأت تتوطد علاقتي بالكتاب، وأبهرتني كتب أبو حيان التوحيدي التي أشعلت نارا بداخلي، لدرجة أنني أصدرت ديوان شعر عام 1981 "قصائدي إلى أبو حيان التوحيدي".. كيف لا وهو صاحب أجمل تعبير عن مأساتنا نحن المهجرين حين قال إن "أشد أنواع الغربة قسوة هي الغربة في الوطن وبين الأهل".

"عرب 48": كيف أثرت النكبة على كتاباتك؟

ظاهر: أنا عشت النكبة بكل أحاسيسي وبكل مشاعري، ولم أكتب القصة السياسية بل كتبت الأدب بتأثر من قراءتي الواسعة للأدب العالمي أو الكتب الأجنبية المترجمة، وكنت أقرأ هذه الكتب على شكل حمّى، وكنت أقرأ بمعدل كتابين أو روايتين في اليوم، فنسيت الدنيا ورافقت وكنت أتصور الجنة مكتبة كبيرة. هذه القراءات جعلت الحس الإنساني ينمو في داخلي ويتغلب على الحس السياسي، لذلك حين كتبت أول قصصي ورواياتي كنت أكتب عن أمي والناصرة وحبي لقريتي المهجرة بالبعد الإنساني وليس السياسي.

"عرب 48": الآن الناصرة هي وطنك ومولدك وذكرياتك، فما هي مكانة قريتك سيرين المهجرة عندك؟

ظاهر: قرية سيرين هي الحلم، أنا شاهدت القرية بعيون والدي، وافتقاده للمكان جعلني أكثر تشبثا في المكان، لذلك صرت أرى الناصرة أجمل نقطة في الكون، وأنا شخص لم يغادر بلاده ولم أسافر في حياتي إلى خارج البلاد، وأنا أسافر على طريقة الفلاسفة "السفر إلى الداخل" وليس إلى الخارج، وكل كتاب أقرأه هو عالم جديد يضاف إلى عالمي وكما قال الجاحظ "القراءة هي عقل غيرك يضاف إلى عقلك".. لذلك أنا أجد في كل كتاب تجربة وحياة ومن خلال الكتب أنا أعيش آلاف السنين. لذلك صحيح أنني مهجر وعشت جرح النكبة بشكل جنوني، لكن حين كتبت اخترت الكتابة كتبت أدبا إنسانيا يتحدث عن العائلة والأسرة والمكان والحب والمشاعر الإنسانية نحو الأشياء. وقد دخلت قرية سيرين حياتي وبكل كتاباتي وهو ما جعل زملائي النقاد والأصدقاء يعتقدون بأنني متقوقع في داخل أحاسيسي ومشاعري في حين أنا كنت أعيش التجربة بكل عمقها وبعدها الإنساني. وأنا أعتبر نفسي استمرارا لوالدي الراحل فالإنسان يموت، لكن القضية لا تموت وتستمر وتنتقل من جيل إلى جيل.

"عرب 48": هل لديك حلم بالعودة إلى قرية سيرين؟

ظاهر: في الواقع، الاحلام تبدو أكثر حدّة ووضوحا مع مرور الزمن، وأنا حلمي أن يعود أهلي إلى قرية سيرين لأنهم مشردون وغرباء في بلاد أخرى. بالنسبة لي ولدت في الناصرة وأصبحت الناصرة جزءا من روحي. وأنا قلت عبارة منذ زمن "كبّرتُ الناصرة حتى أصبحت العالم.. وصغرّتُ العالم حتى أصبح الناصرة" فهذه تجربة حياة والناصرة بالنسبة لي هي مركز الأرض، وهي تعيش بي أكثر مما أعيش فيها. ويظهر في كتاباتي أيضا من أثر النكبة مسألة البحث عن بيت والبحث عن الاستقرار هذا الهاجس رافقني سنين طويلة ويظهر بوضوح في كتاباتي، ولا شك أنه من أثر النكبة وقسوة الطفولة.

"عرب 48": هل زرت قرية سيرين المهجرة، وهل وقفت على أنقاضها وآثارها؟

ظاهر: نعم، بالتأكيد كانت لي أكثر من زيارة، توجهت مع الشاعر والأخ سعود الأسدي، ونزلنا في ضيافة شخص كان يرعى المواشي في المكان، وتلقيت شرحا عن تفاصيل القرية وشربت من عين الماء العذب. أما المرة الثانية فكانت برفقة بعض الأهل والأقارب ممن جاؤوا من الأردن، وكانت هذه الزيارة المؤثرة فعلا، وهناك سألت أبي عن بيتنا فأشار إلى مكان البيت الذي يخلو من أي أثر له ولا يوجد سوى ركام. كان هناك بعض المعالم من شوارع القرية التي كانت ستكون ملعبي ومرتعي لو أننا لم نهجّر منها.

شاهدت الحزن والألم وشاهدت ما لا يمكن أنساه حين ترجّل والدي من السيارة وركع على الأرض وأخذ حفنتي تراب بيديه وهو يصيح ويردد كلمة "حبيبتي" وكأن الأرض عشيقته، حتى أقدم عليه الأهل ورفعوه عن الأرض وأخذوا يهدؤوا من ثورته. أذكر حين كنا نقترب من القرية وأنا أشاهد عيونهم تلمع من شدة الشوق والحنين فبعضهم يقول يتذكر منطقة القصيبة والآخر يقول هذه الربيضة، فقد أمضيت طفولتي هنا. ولي ابن عم انفصل عن المجموعة وشرد وابتعد وهو يتلمس آثار القرية، وحين عاد سألته ابنة عمي "هل ترضى اليوم بالعودة والعيش هنا في هذا المكان؟" فقال لها "يا ريت أرجع ولو شحّاد، أشحد لقمة العيش من أيدي الناس.. المهم أن أبقى هنا.

اقرأ/ي أيضًا | ملف خاص في ذكرى النكبة

التعليقات