"طوشة الباصات" 1959: يوم الهبّة... لمّا زغرد الباص (2\3)

"أنا عم بموت... في رصاصة صابتني"... كانت هذه آخر الكلمات التي تسلّلت من صدر الشهيد محمد أبو رعد، وهي تنقطع وتنوصل مع آخر ما فاضت روحه من أنفاسٍ حين كان يهرول ويحاول الإفلات من رصاص أفراد الشرطة

من الهبة (صحيفة "هعولام هزيه")

"أنا عم بموت... في رصاصة صابتني..."

كانت هذه آخر الكلمات التي تسلّلت من صدر الشهيد محمد أبو رعد، وهي تنقطع وتتصل مع آخر ما فاضت روحه من أنفاسٍ حين كان يهرول ويحاول الإفلات من رصاص أفراد الشرطة التي تطارده ورفاقه العمّال. شفاعمرو التي تقول المروّية إنها أشفت عمرو بن العاص بعد أن روته من نبعها - نبع عين عافية، كان ترابها على موعدٍ مع جسد أحد أبنائها شهيدًا. لم تُدرك البلدةُ التي روت عمرو بمائها أن محمدا ورفاقه، سيروونها بدمائهم في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1959، وذلك بعد اشتباكٍ مع شرطة إسرائيل التي قررت فضّ اعتصام عمّال شفاعمرو على تمييز شركة "إيغيد" بحقّهم بالحديد والنار.

الشهيد محمد أبو رعد (صحيفة "هعولام هزيه")

لا حلّ سوى الإضراب!

كان لشركات الباصات والنقل من قمع إسرائيل نصيب، فقد بسط الحكم العسكري سيطرته عليها كجزءٍ من سياسة ضبط الحركة والاقتصاد الفلسطيني، بدأت على إثرها تتزايد احتجاجات عمال شفاعمرو على التمييز العنصري لشركة "إيغيد"، التي لم ترسل عددًا كافيًا من الباصات لنقل العمّال إلى ورش العمل في حيفا وخليجها و"الكريوت"، حيث ضاق عددها عن ما يحتاجه عمّال شفاعمرو، وكانت تمتلئ الباصات المتهالكة بالعمّال، قبل الوصول إلى المحطّة الأخيرة في البلدة، وذلك بسبب قلّة أعداد الباصات المخصصة لشفاعمرو، التي شكّلت نسبة العمّال فيها قرابة 45% من قوّة العمل.

شهدت شفاعمرو قبل هبّتها إضرابًا وحالات احتجاجٍ لعدد من العمّال، مثل إرغام الباصات على السفر خالية من الركّاب، فضلًا عن محاولتيّن لسدّ الشارع الرئيسي بالحجارة لمنع الباصات من السفر إلى خارج البلدة، وذلك في شهريّ تشرين الأول/ أكتوبر وبداية تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه. وفي كل مرة كانت تُفضّ هذه الاعتصامات بعد تدخّل الشرطة التي كانت تستدعي رئيس بلدية شفاعمرو حينها، الراحل جبور جبور (أبو إلياس)، للتوسّط والتدخّل في إقناع الشبان بفضّ الاحتجاج والسماح للباصات بالانطلاق، وهو ما حدث مرّتين في شهر أيلول/ يوليو وتشرين الأول/ أكتوبر، على أمل لدى العمّال أن تُحلّ المشكلة "دبلوماسيًا" وأن تستجيب الشركة لمطالبهم[1]. في خضم الاحتجاج تشكّل وفدٌ من خمسة عمّال قاموا بإبراق رسالة باسم رئيس البلدية، مطالِبين بزيادة خطوط الباصات، وصرف تعويضات للعمّال الذين فصلوا من عملهم بسبب النقص في عدد الباصات الناقلة للعمّال[2].

لم يعلّق العمّال آمالًا كبيرة في أن تستجيب شركة "إيغيد" لمطالبهم، الأمر الذي دعاهم إلى عدم إزالة الحجارة والصخور التي استخدموها كحاجز عن الشارع تمامًا، بل أبقوها في حافة الطريق تحسّبًا وتمهيدًا لاستخدامها في سدّ الشارع مجدّدًا ما لم تستجب الشركة لمطالبهم. رفض الشارع الشفاعمري أن يتحرّر من حجارته فبقيت مسترخية على رصيفه، إذ تحوّلت فكرة سدّ الطريق أمام الباص وإغلاق الشارع بالحجارة إلى عادة شفاعمريّة تعمّمت في ما بعد.

يوم الهبّة

كانت عقارب الساعة استقرّت عند السادسة صباحًا يوم التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر، بعد أن انطلق عدد من الباصات بين الخامسة والسادسة صباحًا من شفاعمرو، مكدّسة بالعمّال الجالسين والواقفين معًا، فيما تشهد المحّطة الأخيرة في شفاعمرو (حي العين) تكدّسًا لعمّال تجمّعوا عندها في انتظار باص السادسة.

وصل الباص، عند السادسة والربع، ممتلئًا كعادته ومتأخّرًا عن موعده الذي يعني خصمًا إضافيًا ونهشًا لمرتبات العمّال غير المستقرّة. كانت الحجارة التي سدّ فيها العمّال الباصات خلال الأسبوع الماضي لا تزال مسترخية على "الأرصفة"، وقرّر العمّال أن الوقت قد حان لإعادة استخدامها كحاجز احتجاجيّ يمنع الباص من إكمال مساره، تمامًا كما احتجّوا قبلها بأسبوع مع فارق بسيط، أنهم كانوا أكثر إصرارًا هذه المرة في عدم إعطاء شركة "إيغيد" مزيدًا من الفرص والمماطلة في الوعود الكاذبة.

حضرت الشرطة بعد استنجاد شركة الباصات بها، وظنّ ضابط الشرطة المناوب في شفاعمرو أن الأمر سينتهي على ما انتهت عليه الاحتجاجات السابقة للعمّال، وهو ما جعلها "تتواضع" في عدد القوات التي أحضرتها. رفض العمّال طلب الشرطة بفضّ الاحتجاج وفكّ المتراس المكوّن من الحجارة، مطالِبين بحضور مندوب رسميّ من شركة "إيغيد" شخصيّا والتعهّد بحلّ جذري لتظلّماتهم. استُدعيّ رئيس البلدية -أبو الياس- ومعه نائبه الشيخ حسين عليّان، وكان عضوا البلدية بولص ناصر وشفيق خورية (أبو الوليد) من بين الحضور[3].

لم تلقَ محاولات رئيس البلدية الداعية للتروّي وإعطاء المجال لحلّ الإشكال، استجابةً هذه المرّة؛ فالعمال صمموا على استمرار الاحتجاج حتى تُنجَز كافة المطالب. اجتمع بعض مسؤولي البلدية على وجه السرعة، وطالب رئيس البلدية، شركة "إيغيد" بإرسال مندوب إلى شفاعمرو لحلّ تظلّمات العمّال، وردّت الشركة بمزيدٍ من التسويف والوعود، وبأن الشركة لا يمكن لها تحديد موعد إلا بعد يومين.

خطاب الطمّبون[4]

في خلفية المتاريس مزيدٌ من الباصات تصل إلى حاجز "العين" وتقف عند الحاجز الذي أقامه العمّال وتتخّفف من الركّاب الذين ينضمون لزملائهم في الاعتصام. خرج بعض المسؤولين من البلديّة لإبلاغ العمّال باقتراح شركة "إيغيد"، ونقلوا التعهد الجديد إليهم بأن تحّل المسألة خلال أيام، فانقسم العمّال عندها بين رافض قطعيًّا لتعهّد "إيغيد" الجديد، مؤكدين لأبي إلياس: "شبعنا وعود من الشركة"، وبين متردّد في القبول[5].

وفيما بدأ التردّد يأخذ مكانه في نفوس بعض الحضور والمحتجّين، اعتلى المرحوم شفيق خورية (أبو الوليد) حافة "طَمبون (مقدِّمة المركبة)" أحد الباصات ليخطب بالعمال مطالبًا إياهم بعدم فكّ المظاهرة، والاستمرار بالإضراب والاعتصام حتى يأتِي مسؤولو شركة "إيغيد" لحلّ المشكلة جذريًا، قائلًا: "إنها معركة شفاعمرو كلها وليست معركتنا، ولن يعتقلوا أحدًا إذا استمررنا جميعًا في أماكننا"[6].

كان لـ"خطاب الطمبون" أن يشعل حماس العمّال المشتعل أساسًا مع وصول دُفعة أخرى من الباصات، حيث تجاوزت عقارب الساعة التاسعة صباحًا، وبلغ عدد العمّال قرابة 300 عامل (أي أكثر من نصف عمّال شفاعمرو)، فضلًا عن مئة من سكّان المدينة تجمّعوا بعد تناقل أخبار التظاهرة في البلدة. كان حماس العمال واعتصامهم عصيًّا على الكسر أمام وعود "إيغيد" الجديدة. وأمام هذه الصلابة، جرى استدعاء مسؤول منطقة عكا من قِبل الشرطة، ليشرف على فضّ الاعتصام. حضر الضابط "سيغاه" والذي يلقّبه أهالي شفاعمرو بـ"صبّاح"، وهو يهوديّ صفديّ من أصول عربيّة يدّعي معرفته بأهالي شفاعمرو فردًا فردًا، إذ إنه خدم في المدينة سابقًا[7].

الضابط "صبّاح" في مواجهة العمّال

حضر الضابط "صبّاح" معزّزًا بأكثر من 40 جنديّا مسلّحين بالعصي والهروات، وتراصّوا في صفيّن بحيث لم يعد يفصلهم عن عمّال شفاعمرو سوى المتراس والحاجز الذي نصبه العمّال للباصات. كان الضابط معتدّا بنفسه ومتكئّا على ما يدعيه من معرفة سابقة بـ"شؤون شفاعمرو"، فقد خدم في مركز شرطتها في السنوات السابقة.

تُباغت حناجر الشباب مسامع الضابط "صبّاح" هاتفةً: "إذا البوليس بعمل أي غلطة وبهجم رح نحرق الباصات"؛ أما سواعد العمّال فتهمُّ برشاقة لنصب متراسٍ آخر للفصل بينهم وبين قوات الشرطة تحسّبًا لأي اشتباك[8]. يصرّ الضابط على قراره بفضّ الحواجز، بعد أن فشل تهديده في إخافة المعتصمين، إذ أطلق العنان للشرطة والجنود باقتحام المتاريس وفكّها بالقوة[9].

صحيفة "هعولام هزيه"

ظنّ الضابط أن تقدّم الجنود وحده كفيل بفكّ المتاريس وفضّ الاعتصام، فما كان من العمّال إلا الدفاع عن اعتصامهم ومنع فكّ المتاريس. إذ تشير تقارير الحادث إلى أن العمّال قد واجهوا هجوم عناصر الشرطة، برشق الحجارة وأفرع الشجر، لتحول بينهم وبين الجنود وتمنع الاشتباك المباشر، فانسحب على إثرها الجنود.

"انتصرنا يا شباب"

تحاول الشرطة معاودة الهجوم ثانية وثالثا وتفشل في تفريق العمال؛ ففي كل مرة تجرّ ذيول خيبتها بعد أن يصدّ العمّال هجومها بما ملكت أيديهم، وتعالت الأصوات المندّدة بعنصريّة إسرائيل مع توافد الأهالي إلى موقع الحدث في "الحي الغربي" بعد انتشار خبر اعتداء البوليس، وكأنها حنجرةٌ بلد بأكملها تهتف بلسان واحد لأول مرة، فالكنائس تقرع أجراسها بقوّة، والمؤذن حليم طه يعتلي منبر الجامع القديم ليكبّر "الله أكبر...الله أكبر". وعلى صيحات النفير ولحن الأجراس وصدى التكبيرات، تهبّ شفاعمرو لنصرة أبنائها العمّال والالتحام معهم[10].

شاع الخبر ودوّى أكثر والمزيد من الناس يهرعون إلى المكان مردّدين: "الحقوا في طوشة مع البوليس عند العين"[11]. ينسحب أفراد الشرطة أمام هذا المشهد الالتحامي، حتى وصلوا بعيدًا إلى محطة الوقود "باز" مبتعدين عن نقطة الاعتصام الأولى، ليصيح بعض العمّال: "انتصرنا على الشرطة... انتصرنا على إسرائيل".

خلّف هجوم الشرطة إصابة قرابة 20 فردًا منها، أي إن قرابة نصف القوّات قد خرجت على إثرها من دائرة المواجهة[12]، ولم يستجب الضابط لنداءات رئيس البلدية لوقف الهجوم وانسحاب الشرطة، بل أرسل إحدى سيارات "الجيب" البوليسيّة لجلب الأسلحة النارية من مركز شرطة شفاعمرو الكائن في "سرايا" شفاعمرو، المحاذي لأرض الاعتصام. وليست هذه السرايا إلّا قلعة الظاهر عمر زيداني، وهي أهم المواقع الأثرية في شفاعمرو التي شُيّدت عام 1769 أثناء حكم الزيادنة في الجليل، والتي زُيّن مدخلها بصخرة حفر عليها:

"قف على دار بها الحسنى تجلّت بالزيادة... دارة البدر بها الليث استوى والعود عادة"[13]

سلك "جيب النجدة" الطريق الوعرَة للوصول إلى السرايا/ القلعة، إذ كان الشارع الرئيسي مغلقًا بالمتاريس والعمّال. وأثناء عودة الجيب حاول العمّال الانقضاض عليه، إلا أن الجنود ردوا بإطلاق النار في الهواء[14]. وصل الجيب المدجج بالسلاح إلى نقطة تجمّع أفراد الشرطة والجنود الذين تضاعفوا نتيجة استدعاء قوات بأعداد كبيرة من مراكز الشرطة في عكا وحيفا وقاعدة الشرطة المحاذية للبلدة التي يسميها العامّة "البصيص"[15]، ووزّع الضابط الأسلحة النارية على عناصره.

البارود في مواجهة حناجر العمّال

اتّخذ الضابط قرارًا بفتح النار وإطلاق الرصاص الحيّ ليتحوّل حيّ العين إلى ما يشبه ساحة المعركة. أطلق أفراد الشرطة مئات الرصاصات التي يدّعي التقرير الإسرائيلي أنها أطلقت في الهواء، بيد أن إصابات العمال تشير إلى غير ذلك، وتؤكّد أن بعضها قد وجِّه مباشرةً لأجساد العمّال. تفرّق العمّال إلى فرقٍ تدافع عن نفسها أمام الاعتداء بالرصاص الحيّ، وانتشروا بين الشوارع والبساتين المحاذية، ليخلّف الاعتداء إصابات بالغة في صفوفهم وفي أماكن مختلفة من أجسادهم.

سلك محمد أبو رعد مع بعض العمّال طريق بستان الزيتون المحاذي، وما إن وصلوا إلى ربوة صغيرة حينما لمحا جيبًا عسكريا يطاردهم وقد نزل منه جنديّان، فرّ محمد وزملاؤه من أمام الجيب والجنود لتُسمعَ أصوات عيارات نارية تنطلق في كلّ اتجاه. "شفت محمد بركض حدّي والجيب ورانا نزل منه شرطيّين تخبّوا بين الشجر، سمعنا رصاص جاي من الشجر، وقع محمد من حدّي وقلّي أنا عم بموت في رصاصة صابتني... بالأول فكّرته بضحك عليّ، بس لما قرّبت عليه شفت طلقة بظهره ودمّ..."[16]. تمكّنت إحدى هذه الطلقات من الاستقرار في ظهر محمد سليم أبو رعد فارتقى شهيدًا، ليكون أول شهيد شفاعمريّ بعد النكبة.

القرار بالتنكيل والانتقام

لم يكتفِ الضابط "صبّاح" ومن ورائه المؤسسة بالاعتداء بالرصاص الحيّ على العمّال وما خلّفوه من قتل وجرح، فأخذوا القرار بالتنكيل والانتقام لكسر إرادة قوّة العمّال وإخماد أي محاولات مستقبلية للاحتجاج والاعتصام، فعاشت شفاعمرو أيامًا من التنكيل اليومي. دخلت الشرطة البلدة بكلّ قواتها التي وصلت قرابة 300 شرطيّ وجندي، عاثوا خرابًا في الأزقة والطرقات واعتقلوا كلّ من لمحتهم أعينهم فيها، وصلوا مقهى "دار الصادق/ الخطيب" الواقع في قلب البلدة، واعتقلوا من بداخله[17]. اقتحموا بيوتًا واعتقلوا رجالًا وأولادًا. حوصرت البلد دون السماح بالخروج أو الدخول منها لمنع فرار العمّال.

قلعة شفاعمرو (عرب 48)

تحوّلت السرايا إلى "معتقل القلعة" تكدس فيه العمّال بعد أن جرى اعتقالهم عشوائيًا من الأزقة. أما نسوة ورجال البلدة فيقف بعضهنّ وبعضهم في الشارع المؤدي للسرايا، ويحاولن اعتراض سيارات الشرطة التي تنقل المعتقلين محاولين تخليص أبنائهم العمّال منها[18]، تجمّع مئات الشفاعمريين عند القلعة، مطالِبين بإطلاق فوريّ لسراح أبنائهم، فما كان من ضابط اللواء إلا الأمر بالتنكيل وتعذيب المعتقلين في القلعة، حتى تصل صرخات آلامهم إلى مسامع المتجمهرين خارجًا.

عاشت شفاعمرو أيامًا من الاقتحامات المتكررة للأحياء في المدينة، للتنكيل وبثّ الرعب[19]، وبلغ عدد المعتقلين أكثر من 140 معتقلا، من بينهم أكثر من 30 قاصرًا[20]. وتمكن بعض المطلوبين للاعتقال من الفرار والاحتماء في بطون الجبال المحاذية ومغاورها قبل تسليم أنفسهم.

خاض الشفاعمريون بعدها معركة ضروسا للدفاع عن المعتقلين والمتهمين الذين وصل عددهم في نهاية المطاف إلى 77 متهمًا، لينخفض مع الوقت إلى 34 متّهمًا. سطّرت البلدة صورة للتضامن من خلال تنظيم العرائض المطالبة بالإفراج عن المعتقلين وبإقامة لجنة تحقيق شعبية، وشُكّلت لجنة شعبية للدفاع عن المتهمين الذين تراوحت محكومياتهم بين السجن الفعلي والغرامات[21][22]، وجمع التبرّعات لعوائلهم[23].

صدى الهبّة المباشر

رغم ظروف الحكم العسكري القمعي، كان لهبّة العمّال صدى في البلدات المجاورة، فقد نُظّمت اجتماعات تضامنية في عدد من البلدات، من بينها اجتماع في كفرياسيف، قرر فيه الحاضرون إرسال برقية وعريضة لرئيس الدولة للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين وإقامة لجنة تحقيق، وجُمعت فيه التبرعات لأهالي شفاعمرو[24]. كما أرسل عمّال قرية عبلين برقية دعم موقّعة من مئة عامل إلى عمّال شفاعمرو تضامنًا معهم. وطالب عمّال الناصرة في بيان، بلجنة تحقيق شعبية في الاعتداء البوليسي[25]. كما أرسل عمّال قرية طرعان برقية مشابهة، ونظمّ الحزب الشيوعي اجتماعات عماليّة وشعبية في حيفا والناصرة دعمًا لعمّال شفاعمرو. ولم تتخلّف إذاعة "صوت العرب" عن الحدث، إذ فاجأت مستمعيها بنقل خبر هبة من الداخل لعمّال فلسطينيين ضد شرطة الحكم العسكري، فدوّى اسم شفاعمرو في عواصم العالم العربي.

حاولت المؤسسة الاسرائيليّة احتواء الهبّة من خلال إقامة لجنة تحقيق وزاريّة، ضمت وزارة القضاء والشرطة والداخلية، وتمركزت حول سؤالين أساسيّين: تصرّف الشرطة وسلوكها؛ وأما الثاني وهو الأهم، فكان سؤال التدبير والتخطيط لمعرفة إن كانت الهبة عفوية أم مدبّرة، وهو سؤال أمني مركزي بالنسبة لها. وقد منحت اللجنة في تقريرها المقدم في آذار/ مارس 1960، الشرعية الكاملة لتصرّف الشرطة، بل وأثنت على تصرّفها، وألمحت إلى أنها لو تصرّفت بحزمٍ أكبر منذ البداية، لربما انفضّ الاحتجاج بصورة أسرع. واستنتجت اللجنة أن ما من تدبير مسبَق ومعَدّ للهبّة، وأن الحادثة العينية المتعلقّة بأزمة الباصات كانت أساس الهبّة[26].

بدورها وكاحتواء للغضب الشعبي، استجابت شركة "إيغيد" لطلبات العمّال وحققتها جميعها. ليس زيادة عدد الباصات فحسب، بل وبناء المحطات الجديدة وإنارتها ووضع باص احتياطي متأهب دائمًا للسفر حال تأخر وصول أحد الباصات. كما زادت من مراقبتها لأحوال العمال واحتياجات المواصلات في كل البلدات التي كانت تشهد احتجاجات شبيهة بشفاعمرو، مثل دير الأسد وسخنين وعبلين، حيث حاول العمّال الاعتراض وتنظيم الاحتجاج في كلّ هذه البلدات بصور مختلفة، وقد سارعت الشرطة و"إيغيد" في احتواء الاحتجاجات من خلال تنفيذ المطالب.

زغرودة الباص

على صوت حناجر الشبان وصلوات الكبار وأناشيد النسوة اللواتي اعتلين الشرفات، يُسجّى جثمان الشهيد محمد أبو رعد الذي ترك زوجته الحامل بطفل كان له أن يسمّى "محمد" تيمّنًا بوالده الشهيد.

ودّعت شفاعمرو والجماهير العربيّة الفلسطينيّة شهيدًا في هبّةٍ عماليّة، رسمت أولى ملامح هبّات الداخل الفلسطيني.

تمرّ السنوات ويرتبط بعدها الباص بالعُرس الفلسطيني، وتُنحت له صور في الغناء والأهازيج، إذ لطالما مالَ بالنسوة رقصًا وطربًا وهو في طريقه "بالفادرة" أو "صينيّة الحناء"، على أنغام "شد الها يا أبوها على الباص... وان طلبت المصاري عِد الماس". أما ذاكرتنا السياسية، فتتزاحم فيها الأحداث وتبخل في نحت هبة الباصات فيها، فتفلتُ الهبّة من الذاكرة، ليس من فرط الزحام فيها، بل مما شهدته السنوات من محاولات نزع البعد السياسيّ عن الهبّة وهندستها "طوشةً" في وعينا وذاكرتنا، وهو بابٌ سنطرقه في الجزء الثالث.


هوامش ومصادر

[1] عطا الله منصور، المصدر السابق.

[2] المصدر السابق.

[3] شفيق خورية، مصدر سابق.

[4] كلمة بالعاميّة تعني الحافة الأمامية للباص، أي القسم السفلي المكّون من بلاستيك.

[5] أرشيف الدولة الإسرائيلي، مصدر سابق.

[6] شفيق خورية، مصدر سابق.

[7] إلياس جبور، مقابلة شفويّة أجراها الكاتب معه في 18 أيلول/ ديسمبر 2020.

[8] أرشيف الدولة، مصدر سابق.

[9] شفيق خورية، مصدر سابق.

[10] إلياس نصر الله، مصدر سابق.

[11] مقابلة أجراها الكاتب مع أحد شهود العيان على الحادث.

[12] أرشيف الدولة، مصدر سابق.

[13] إلياس نصر الله، مصدر سابق.

[14] أرشيف الدولة، مصدر سابق.

[15] كلمة دارجة في القاموس الاجتماعي الشفاعمري مأخوذة من العبريّة (بسيس) أي قاعدة عسكرية او شُرطية.

[16] أوري دان، "لم يكن كذلك في وادي الصليب"، معاريف، 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1959 (بالعبريّة).

[17] مقابلة أجراها الكاتب مع الحاج سعيد بركة (أبو محمد) في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021.

[18] إلياس نصر الله، مصدر سابق.

[19] مقابلة أجراها الكاتب مع السيّد إبراهيم شليوط في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2021.

[20] أصدرت الشرطة قرار اعتقال بحق 124 عاملًا ومواطنًا من شفاعمرو في البداية، ثم أصدرت لائحة اعتقال بحق 35 شخصًا وفقًا لما سجّلته الصحافة العبرية.

[21] سعيد بركة (أبو محمد)، مصدر سابق.

[22] من بين المعتقلين: شفيق خورية، وشحادة النجّار الذي أصيب بكسر في يده اليمنى، ومصطفى الناطور، وإبراهيم هنداوي، وإبراهيم عنبتاوي، وسالم صليبا وغيرهم.

[23] صحيفة "كول هعام"، "بلدية شفاعمرو تنضمّ لمطلب اللجنة العلنية لاعتداء شفاعمرو"، الثاني من كانون الأول/ يناير 1959 (عبريّة).

[24] صحيفة الاتحاد، "اجتماعات وعرائض للاحتجاج على عدوان البوليس على عمّال شفاعمرو"، 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 1959.

[25] الاتحاد، "عمّال الناصرة يطالبون بلجنة شعبيّة تبحث عدوان البوليس"، 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1959.

[26] أرشيف الدولة، مصدر سابق.

التعليقات