ملامح من طبيعة الاستعمار والكارثة الطبيعية في فلسطين

ما من مدينة أو حتى قرية فلسطينية طالتها الكوارث الطبيعية، سواء كانت أوبئة وأمراضا أو زلازل أو فيضانات في ظل الاستعمار البريطاني على البلاد، إلا ومثّلت الكوارث دعوة لتدخُّل السلطات الاستعمارية في حياة السكان في المدن والأرياف.

ملامح من طبيعة الاستعمار والكارثة الطبيعية في فلسطين

دمار خلّفه الزلزال الذي ضرب البلاد عام 1927 (Getty Images)

حين ضرب زلزال سنة 1837 البلاد، كانت فلسطين وبلاد الشام عموما ترزح تحت الحكم المصري، وذلك بعد حملة إبراهيم باشا - ابن محمد علي باشا - عليها في سنة 1831. وجاء الزلزال في حينه على إثر الثورة في سنة 1835/1934 على الحكم المصري، والتي كان ثقلها في فلسطين. وكذلك الزلزال الذي كان مركز هزته أيضا فلسطين، وتحديدا في شمالها ما بين مدينة صفد وقرية الجش في الجليل.

لم تكن القوى الاستعمارية الأوروبية وقتها قد دخلت فلسطين بعد، رغم بدء تدخلها في شؤون الدولة العثمانية. ومع ذلك فإن النشاط الاستعماري في فلسطين والمنطقة عموما، متصل بتلك المرحلة، وتحديدا على إثر الغزو المصري بوصفه زلزالا سياسيا، حيث بدأ النظر استعماريا لفلسطين بوصفها "محمية دينية" على حد تعبير ألكساندر شولش(1).

غير أنه في سنة 1927، وتحديدا عند الساعة الثالثة من بعد ظهر الحادي عشر من تموز/ يوليو، ضرب فلسطين زلزال آخر، أي بعد 90 عاما على زلزال القرن التاسع عشر. بلغت قوة زلزال القرن العشرين 6،25، وقد استمر لمدة دقيقة ونصف، ومركزه كان وسط البلاد ما بين نابلس والسهل الساحلي، وبعضهم أطلق عليه اسم "زلزال نابلس"، لشدة تأثيره عليها(2) .

نابلس؛ دمار خلّفه الزلزال الذي ضرب البلاد عام 1927 (Getty Images)

بقي زلزال سنة 1927، الأبرز والأكثر حضورا في ذاكرة الفلسطينيين على مدار القرن العشرين، إذ ظلّ يؤرخ لعام وقوعه بتعبير "سنة الهزة"(3). ومع أن زلزال القرن العشرين لم يكن بقوة زالزال القرن التاسع عشر، وأثره التدميري وعدد ضحاياه، إلا أن تأثيره في فلسطين ومدنها كان أكبر وأكثر، وذلك لأنه وقع في ظل الاستعمار البريطاني للبلاد. إذ كان الزلزال بوصفه كارثة طبيعية، دعوة لتكثيف تدخل الاستعمار في حياة سكان فلسطين وفضائهم، وخصوصا في المدن، لناحية إعادة هندسة فضائها العمومي على مستوى التخطيط والعمران.

في القدس

كانت القدس أكثر مدينة جرى استهدافها، من حيث إعادة هندستها وتشكيلها معماريا من قبل الاستعمار البريطاني منذ احتلالها في سنة 1917. وقد داوم البريطانيون على إعادة "إحياء" المدينة معماريا، وفق تصور ديني - استشرافي، مما تطلّب استدعاء المهندس المدني البريطاني وليام ماكلين (William H. Mclean)، الذي صمم مدينة الإسكندرية المصرية من قبل(4). غير أن وقوع زلزال سنة 1927 بما خلّفه من واقع تدميري في القدس، قد منح البريطانيين فرصة لتدخلهم في هوية المدينة العمرانية.

في مذكراته عن القدس الانتدابية، يصف واصف جوهرية متذكرا يوم وقوع الزلزال الذي جاء على بعض من واجهات سور المدينة ومبانيها وبيوتها داخله، بما فيها المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة. ويعتبر جوهرية ذلك الزلزال بمثابة التذكرة التي منحت البريطانيين حق التدخل في كنيسة القيامة، ليس على مستوى معمارها فقط، إنما في شؤونها الدينية أيضا، إذ ادعت سلطات الاستعمار البريطاني أن مبنى الكنيسة بات مكانا خطرا على المصلين، فباشرت بالتدخل "رغم اعتراض أصحاب المصالح من الطوائف المسيحية المختلفة - خصوصا اليونان - بنزع جميع الأيقونات والقناديل والثريات التي كانت تزّين الكنيسة، ومحل القبر المقدس من الداخل"(5). وذلك وفق تصور ديني بروتستانتي - استعماري، للتدخل في الشأن الديني للكنيسة وطوائفها.

القدس عام 1927، تُظهر الصورة تحطّم أجزاء من بعض القبب في المدينة، وتشققات في المباني (Getty Images)

كما عملت السلطات الاستعمارية في المدينة على إعادة ربط جوانب من أعمدة كنيسة القيامة وجدرانها من الداخل بالحديد والخشب والإسمنت المسلح، وأقامت ركيزة كبيرة من الحديد والإسمنت على الحائط القِبلي (الجنوبي) فوق مدخل الكنيسة الرئيسي، ما شوَّه على حد تعبير جوهرية، منظر كنيسة القيامة(6).

الإخلاء في اللد

في مدينة اللد التي كانت قريبة من مركز زلزال سنة 1927، وصل عدد ضحايا المدينة لأكثر من 40 قتيلا من أهلها. كما جاء الزلزال على أكثر من 500 بيت من بيوتها، وسوّاها في الأرض(7). استغلت سلطات الاستعمار البريطاني متذرعة بحالة الطوارئ وتقديم الخدمات للعائلات اللداوية المنكوبة، الدمار الذي لحق بالمدينة؛ من أجل التدخل في فضائها المعماري، وإعادة تخطيطها وفق أجندة استعمارية، حيث أزالت السلطات البيوت المهدمة، وبيوتا أخرى لم تتضرر بفعل الزلزال، وذلك بحجة أنها لم تعد صالحة للسكن، فعملت على هدمها، موسِّعة مساحة الممرات والطرقات، بينما قامت ببناء عشرات البيوت الخشبية (برّاكيات) في الأراضي المحيطة بالمدينة لإيواء العائلات المنكوبة، وقد تحولت بعض تلك "البرّاكيات" إلى أحياء دائمة، ظلّ يقطنها أهالي اللد حتى عام النكبة(8).

أطفال وملاجئ مؤقتة تحت الأشجار في أريحا، بعد زلزال 1927 (Getty Images)

كما دفعت سلطات الاستعمار البريطاني عبر بلدية اللد إلى تخطيط أحياء سكنية غربي المدينة وجنوبها، في محاولة لفضّ ووأْد الهوية المعمارية التي كانت عليها المدينة قبل الزلزال. تخلّل ذلك بناء بيوت وإنشاء حدائق عامة وشوارع واسعة معبّدة، بدت عليها اللد مدينة أكثر عصرية من الناحية المعمارية. فالتقسيم الذي كان متعارفا عليه لدى أهالي اللد عن مدينتهم عند نكبتها سنة 1948، ما بين الحارات أو اللد الغربية والشرقية، هو تقسيم حديث ناتج عن فعل الزلزال وإعادة تشكيل المدينة استعماريا على إثره.

لكن سياسيا، فإن السلطات الاستعمارية البريطانية سعت إلى تمكين مركزية ودور بلدية المدينة، التابعة لسلطات الانتداب، في محاولة لإضعاف الروابط التقليدية التي كان يستند إليها أهالي مدينة اللد في إدارة شؤونهم السياسية والاجتماعية.

شارع مغلق في نابلس، إثر انهيار منازل بسبب زلزال عام 1927 (Getty Images)

حتى على مستوى مبنى البلدية نفسه، فقد أقدمت السلطات الاستعمارية على بناء مبنى كبير غربي المدينة، يكون مقرًّا للبلدية خارج البلدة القديمة، بعد أن تهدّم المقر السابق بفعل الزلزال(9)، مما جعل تأثير سلطة السلطات البريطانية على رئيس البلدية وأعضائها أكبر، إذ أصبح سهلا على حاكم لواء اللد بعد إعادة بناء مقر البلدية خارج البلدة القديمة بسبب الزلزال، تعيين المجلس البلدي في المدينة وفق أجندته الخاصة.

الزلزال يدعو الصهاينة إلى نابلس

أما مدينة نابلس، والتي كانت من أكثر مدن البلاد خرابا وتضررا من زلزال سنة 1927، فقد وصل عدد ضحاياه في المدينة ما يقارب الـ60 قتيلا، ومئات الجرحى، وكذلك مئات المشردين الذين هاموا على وجوههم بلا مأوى، بعد أن تهدمت بيوتهم(10).

صُنِّفت نابلس في عام الزلزال كأكثر مدينة منكوبة ومغلوبة على أمرها، للحدّ الذي لم يستدعِ فقط سلطات الاستعمار البريطاني لتقديم المساعدات، إنما اليهود الصهاينة، وبلدية تل أبيب التي لم تتوانَ -بحسب المصادر- في تقديم المعونة من خبز ومال لأهالي المدينة(11). غير أن موقف اليهود الصهاينة في تقديم المساعدات العينية والنقدية، لم يمنع سكان مدينة نابلس من الانتباه لشكل استغلال الصهاينة للزلزال من أجل التسلّل إلى مدينتهم. ويتضح ذلك من خلال ما أورده مُكاتب جريدة الإقدام النابلسي بعد ثلاثة شهور تقريبا من حدوث الزلزال: "إن الطريق تمهدت للصهيونيين لسكنى نابلس بعد حادثة الزلزال، فيوجد منهم فيها الآن مكتب للهندسة والبناء، ومئة فاعل وطبيبة أسنان ومعلم لمدرسة السمرة. قلنا لقد بدأت تظهر الآن نوايا الصهيونيين من تظاهرهم بالعطف على أهالي نابلس حين وقوع كارثة الزلزال، وقد صح حزرنا"(12).

شقوق عميقة وفتحات أرضية بالقرب من البحر الميت، نتيجة زلزال 1927 (Getty Images)

لقد عجّت وبالغت الصحف العبرية - الصهيونية وقتها بأخبار المعونات والمساعدات التي أرسلها أو اقترحها الصهاينة اليهود على أهالي مدينة نابلس المنكوبة. وذلك في موقف يبدو في ظاهره إنسانيا، متجاوزا الخلافات السياسية التي بدأت تتضح ملامحها في حينه. غير أن ذلك الموقف كان في مضمونه يغرض إلى تحقيق دعاية وسمعة للصهاينة، بأن "إنسانيتهم متجاوزة لصهيونتهم"، وقد تنبه أهالي نابلس إلى ذلك في حينه(13).

طبرية وسنة الطوفة

مثلما هي سنة "الهزة" أو سنة "الثلجة" في ذاكرة عموم أهالي مدن وقرى فلسطين، فإن السنة التي كانت أكثر حضورا في ذاكرة أهالي مدينة طبرية المهجرة قبل تهجيرها، هي سنة "الطوفة". لا علاقة للطوفة بالزلازل وهزّات الأرض، إنما هي ظاهرة شبه سنوية وتعني "الفيضان"، والتي كانت متصلة ببحيرة طبريا التي كثيرا ما كان يفيض ماؤها على بيوت المدينة المُقيمة على حرف البحرة (البحيرة)، بعد ارتفاع منسوب مياهها في فصل شتاء.

غير أن الطوفة المشهورة التي ظل يتذكرها أهالي المدينة بسنة "الطوفة"، كانت في سنة 1933. لم تكن طوفة ذلك العام ناتجة عن فيضان البحرة، ولا في فصل الشتاء كذلك. إنما بفعل المطر، وفي فصل الصيف وفي شهر حزيران/ يونيو تحديدا، إذ أمطرت على غير عادتها السماء، فتسببت بسيل هادر انحدر نحو مدينة طبرية من منحدراتها الغربية، إلى حد كاد أن يجرف فيه المدينة إلى بحرتها(14).

طريق غمرته المياه خارج طبرية، عام 1934 (Gettyimages)

مما يُذكر من ذاكرة الطبراوية، أن مطر ذلك الصيف كان غريبا، فزخات البَرد كانت على ذمة بعض أهلها بحجم الحصى، يمكنها قتل الطير إذا ما حلّق في سماء المدينة(15). وقد تسببت الطوفة بجرف كثير من مباني وبيوت طبرية، فكانت كارثة جعلت أكثر من نصف سكان المدينة بلا مأوى، مما استدعى تدخل سلطات الاستعمار البريطاني بشكل مباشر.

كان أول ما قامت إليه سلطات الاستعمار البريطاني، إعادة ترسيم الحدود الشاطئية ما بين بيوت المدينة والبحرة بإرجاعها عنها، في محاولة للسيطرة على البحرة ومواردها، وكان ذلك بمثابة استكمال لسياسات ضبط علاقة أهالي طبرية ببحرتهم، وخصوصا الصيد الذي لم يعد ممكنا في ظل الاستعمار البريطاني للمدينة، إلا بترخيص أطلق عليه أهالي طبرية اسم "الجواز البحري"(16). الذي لم يكن من دونه متاحا لأهالي طبرية الصيد في البحرة.

زلزال 1927؛ انهيار جزئيّ لمسجد ومئذنة في القدس (Gettyimages)

كما استغل البريطانيون "الطوفة" وما خلّفتهُ من دمار، لإعادة تخطيط المدينة وتعميرها بما يخدم أجندة السلطات الاستعمارية والطائفة اليهودية في المدينة(17). والتي بدأت صهينتها في ظل الاستعمار البريطاني والهجرة الصهيونية في ظله، منذ عشرينيات القرن العشرين. فطبرية كانت واحدة من المدن الفلسطينية التي عاش فيها اليهود منذ بداية الحكم العثماني للبلاد.

ما من مدينة أو حتى قرية فلسطينية طالتها الكوارث الطبيعية، سواء كانت أوبئة وأمراضا أو زلازل أو فيضانات في ظل الاستعمار البريطاني على البلاد، إلا ومثّلت الكوارث دعوة لتدخُّل السلطات الاستعمارية في حياة السكان في المدن والأرياف. وهذا يصحّ على كثير من مدن البلاد وقراها، غير تلك التي أشرنا إليها سابقا.

دمار قرب الأردن بسبب زلزال 1927 (Gettyimages)

الهوامش:

1. شولش، الكزاندر، تحولات جذرية في فلسطين، ترجمة: كامل جميل العسلي، منشورات الجامعة الأردنية، عمان 1993. ص81-86.

2. أبو صالح، وائل، زلزال سنة 1927 وأثره على مدينة نابلس، جامعة النجاح الوطنية، ص86.

3. راجع: عقل، محمد، سنة الهزة الكبيرة...1927 زلزال يضرب فلسطين وشرق الأردن وفلسطين، موقع "عرب 48"، تاريخ 17/4/2013.

4. وايزمان، إيال، أرض جوفاء – الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي، ترجمة: باسل وطفة، مدارات للأبحاث والنشر، بيروت، 2017، ص47.

5. جوهرية، واصف، القدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية 1918-1948، تحرير: سليم تماري وعصام نصار، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 2005، ج2، ص469.

6. المرجع السابق، ص469.

7. منيّر، إسبير، اللد في عهدي الانتداب والاحتلال، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 2011، ص17.

8. المرجع السابق، ص17.

9. المرجع السابق، ص18.

10. أبو صالح، وائل، المرجع السابق،ص87-88.

11. فارس، ضرغام غانم، مدينة نابلس وزلزال عام 1927 من خلال الوثائق دراسة تاريخية، رسالة ماجستير منشورة، قسم التاريخ بكلية الدراسات العليا، جامعة النجاح، 1998، ص93.

12. المرجع السابق، ص93.

13. المرجع السابق، ص97.

14. فوزي الحاج خليل، مقابلة مصوّرة على موقع "فلسطين في الذاكرة" ضمن برنامج التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، أجريت المقابلة بتاريخ 22.06.2011.

15. المقابلة السابقة.

16. صالح سعدية، مقابلة مصورة على موقع "فلسطين في الذاكرة" ضمن برنامج التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، أجريت المقابلة بتاريخ 22.06.2011.

17. فوزي الحاج خليل، المقابلة السابقة.

التعليقات