"الكُبّة النيّة"... ملامح سوسيولوجيّة

اللافت في كل حَكايا أصل الكُبة النيّة، أنها أكلة مأساوية في نشأتها، اتصلت بأحداث مثل الحِصار والحرق والاضطهاد. وليس المهم هو في صِحة هذه الحَكايا وموثوقيتها التاريخية، بقدر ما تُحيل إلى الدافع وراء ضرورة تخيّلها وتشكيلها.

من طبرية عام 1934 (Getty Images)

من حَكايا النشأة

كان ذلك في قيظ حَرّ آب/ أغسطس سنة 1283، حينما شنّ جيش السلطان المملوكي بن قلاوون حملته العسكرية على "جرود إهدن" و"جبّة بشري" في جبل لبنان، والتي ترتب عليها ما عُرف لاحقا بـ"حملات كسروان"(1) وذلك في ظل صراع المماليك مع بقايا الصليبيين، وتطهير ساحل الشام منهم، حيث اشترط الأمن المملوكي في حينه، إخضاع جرود جبل لبنان وسكانها الموارنة، الذين اعتبرهم المماليك جيوبا للصليبيين.

تقول الحكاية بحسب صاحب "تاريخ الأزمنة"، إنه ما إن وصلت عساكر السلطان إلى قرية الحَدث في الجبّة، حتى فرّ أهلها منها إلى أحد وديانها، ولاذوا فيه داخل مغارة، تُعرف بمغارة "العاصي (أو ’عاصي الحدث’)" إلى يومنا. ولمّا طال أمَد الحصار، دون أن يعرف عسكر السلطان مخبأ الأهالي الفارّين. تنبّه العَسكر إلى تقنية تعطيش خيلهم مدة ثلاثة أيام، وقد فعلوا، ثم أفلتوها لتبحث مشتمةً عن منابع الماء. وقد دلّت الخيول العطشى العسكر فعلا، إلى عين ماء كانت مروى أهالي الحَدث المختبئين، فقام عسكر السلطان بإسالة دماء ’طروش’ (مواش ودواب) جرى ذبحُها بمجرى الماء، فسُمِّم مصدر ماء أهالي القرية الوحيد في ملاذهم بمغارة الحدث، ممّا أجبرهم على الخروج والاستسلام لعسكر حِصارهم (2). ويقال إن ظروف الحِصار والملاذ، هي ما دفعت أهالي حدث جبّة بشرّي إلى تلافي إشعال النار داخل المغارة، كي لا يدلّ دخانها على موقعهم فيفتضح مخبؤهم، الأمر الذي فرض عليهم أكل البرغل باللحم النيئ المهروس، فوُلدت "الكُبة النية"(3).

هذه حكاية عن أصل منشأ الكبة النيّة في جبل لبنان وأهله الذين ظلّوا يعتبرون جبلهم موطنا لأكل البرغل باللحم النيئ. غير أنها ليست الحكاية الوحيدة بالطبع؛ إذ للكُبة النيّة حَكايا أخرى متصلة بخرائط مواطن إعدادها وأكلها من جنوب سورية، وجبل لبنان، مرورا بحلب، والموصل، وصولا إلى "الإسكندرون" وبلاد التُرك. لدى أهالي مدينة أورفة التركية المشهورة بالكباب، حكاية أخرى عن أصل الكبة النيّة، والتي تعود باعتقادهم إلى زمن النبي إبراهيم الخليل وحكايته مع النمرود.

نساء يملأن جرارهنّ من نبع قانا في لبنان (Getty Images)

يُقال إنه عندما جمع النمرود كل الحَطب والخشب في منطقته لحرق النبي إبراهيم، نفد حَطب الطهو الذي حظر النمرود جمعه واستخدامه إلا لحرق إبراهيم النبي، فابتكرت امرأة من نساء أورفة أكل البرغل باللحم غير المطهوّ ممعوسا، ومعهما الفلفل الحارّ، فكانت الكبة النيّة(4).

بينما تقول حكاية أخرى إن الكبة أشورية في أصلها، وتعود إلى الملك الآشوري آشور ناصربال الثاني (883 - 859) ق.م، وولائمه التي ذُكرت فيها الكبّة بلفظ "الكبتو"، حيث تُطلَق على كل ما هو مُستدير ومنتفخ(5). ثم ساد اعتقاد بأن الكبة وتحديدا النيّة منها، قد تطورت عن ما يُعرف بـ"الكبة الحزينة"(6) لدى المسيحيين الأشوريين في الموصل وحلب، فتقول الحكاية إنهم كانوا يعدّونها لإيهام مُضطهِديهم الذين أجبروهم على أكل اللحم أثناء الصيام، بأنهم انصاعوا لأوامرهم وأبطلوا صيامهم، لأن شكلها الخارجي كان يشبه اللحم بطبيعته، رغم أن الكنيسة لا تعتبر هذه العادة سوى تقليدا شعبيا(7).

اللافت في كل حَكايا أصل الكُبة النيّة، أنها أكلة مأساوية في نشأتها، اتصلت بأحداث مثل الحِصار والحرق والاضطهاد. وليس المهم صِحة هذه الحَكايا وموثوقيتها التاريخية، بقدر ما أنها تُحيل إلى الدافع وراء ضرورة تخيّلها وتشكيلها، وربما كان بغرض شرعنة أكل اللحم نيئا مهروسا ومجبولا مع البرغل مجروش القمح، أحبّ أصناف الحَبّ (الحبوب)، وأجلّها لدى الأعراف الاجتماعية، والشرائع الدينية في حوض المتوسط.

فيما تمقت تلك الشرائع والأعراف أكل اللحم نيئا، مما جعل للكُبة النيّة بُعدا مأساويا في منشئها، يبرّر أكلها، ثم تحولها إلى أكلة تسيّدت موائد بيوت بعض مدن وقرى بلاد الشام. وبالرغم من ذلك، فإن المفارقة الاجتماعية المتصلة بإعداد الكُبة النيّة وأكلها، أنها صارت حرفيًّا "أكلة فرح".

المفارقة... الكُبة أكلة فرح

"الفرح بلا كُبة مثل الجامع بلا قُبة" على رأي المَثل الشائع تاريخيًّا في بلاد مواطن الكبة النيّة مثل الجليل ولبنان.(8). حين نقول إن الكُبة النيّة هي أكلة فرح، لا نقصد بذلك أن إعدادها وتقديمها يتم في الأفراح والمناسبات الاجتماعية فقط، فالرز باللبن أو "لبن إمو"(9) أو المنسف، تُقدّم اليوم على موائد أفراحنا، لكنها لا تعني أنها مآكل فرح، فهي تقدم في العَزاء والمآتم أيضا.

بينما الكُبة النيّة هي أكلة فرح لأنها تدلّ عليه. وإعدادها والدعوة لتناولها، كان يجري في طقوس الِدعة والسِعة ومنها الأعراس والأعياد، مثل الشواء في أيامنا، فظلّت الكُبة النيّة نقيضا للموت والعزاء، ويُعاب على أهلها في القرى وأحياء المدن إعدادها أصلا في ظل وجود شخص متوفى فيها. وذلك مَردّهُ لجُرن الكُبة وميجنته.

كان جُرن الكُبة يُعتبر معلما من معالم بيوت قرى ومدن مواطن الكبة النيّة، وما زال أثرا في بعضها إلى يومها هذا. لأن فيه كان يجري معس (هَرس) لحم الكبة النيئ بواسطة ميجنة الجُرن.

يُصنع جُرن الكبة الحجري في العادة من الصخر البازلتي، أو الحجر السوري الأسمر (الأسود) أو الحجر البركاني. الذي كان يكثُر في مناطق مثل طبرية، والقنيطرة في الجولان، وبلاد حوران السورية، حيث امتهن بعض أهلها حِرفة صَقل جِران الكبة ومطاحن القمح اليدوية، ومن تلك البلاد كان يُستقدَم جُرن الكبة. ومعظم جِران قرى ومدن بلادنا في فلسطين كانت منه، لأنه قوي وأقلّ كلفة.

جانب من حفل زفاف في بيت لحم، عام 1940 (Getty Images)

بينما عرفت بعض بيوت الأثرياء في مدن وقرى الجليل ولبنان، جِران أخرى للكبة، منها ما كان يُطلق عليه جُرن "شحم بلحم". واسمه هذا، ليس من هرس ومعس الشحم واللحم فيه، إنما لنوع صخره، يسمّى "السماقي"، وهو صخر أبيض فيه عروق وفصوص حمراء، مما يجعل شكله بعد صَقله، يبدو مثل حُمْرة اللحم ببياض الشحم، فكان اسمه جُرنَ "شحم بلحم"(10). وقوة صلابته لا تقلّ عن صلابة الحجر البركاني السوري، غير أنه أكثر كُلفة منه.

أما الميجنة، فهي المدقة التي تدقّ اللحم وتهرسه في الجرن، ومواويل أغاني الميجانا الجبلية متصلة فيها. وتُصنع الميجنة إما من الحجر المصنوع منه جُرن الكُبة نفسه، أو من الخشب، وتحديدا السنديان والمَلّ أو الزعرور. والميجنة حين تدق في جُرنها، فإنها "تُميجن وتعزم"، أي تدعو بصوتها على أكل الكُبة النية أثناء إعدادها. وبالتالي، فإن ضرب الجُرن بميجنته في ظلّ حالة الموت والوفاة كان يُعتبر عيبا. والبيت المحزون كان يمتنع عن الكُبة النية لمدة عام، وباقي أهالي الحي أو القرية لمدة لا تقل عن الأربعين يوما، حتّى انقضاء مراسم الحداد. وهو امتناع عن ضرب الجُرن في الأصل، وتلقائيا يعني الامتناع عن تناول الكُبة النية.

الكُبة النيّة... فكًّا للحداد ومرفعا للعباد

ما تزال الكُبة النية مُعتبرةً في مواطن إعدادها وتناولها، فمتى حضرت الكُبة النية، فإن "باقي الأكل بعيب" على حد تعبير أهلها في قرية يركا الدرزية في الجليل(11). غير أن الذي سقط منها في أيامنا، هو جُرنها وميجنته، إذ لم يعد لحم الكبة وبرغله يُهرس هرسا في الجرن، إنما فرما في الخلاط الآلي، وهرس اللحم ومعسه، غير فرمه وتقطيعه في الخلّاط. وهذا ما أفقد الكُبة النية الكثير من نكهة مذاقها أولا، وهالتها الطقوسية التي كان يمنحها إياها جُرنها.

ومع ذلك، بقيت الكُبة النية تحمل دلالة دِعة وفرح وسِعة إلى يومنا. إلا أن التحوّل الذي طرأ عليها اجتماعيا بعد تخلّي أهلها عن جُرنها منذ عقود، هو أنها صارت أكلة لـ"فكّ الحِداد على الأربعين". في بعض قرى الجليل، يفكّ أهلها حدادهم على موتاهم بعد انقضاء أربعين يوما، بإعداد الكُبة النيّة، والدعوة لتناولها في طقسٍ جماعيّ.

جانب من حفل زفاف في بيت جالا، عام 1940 (Getty Images)

أما عن كُبة المَرفع، فهي تلك المتصلة بعيد الفِصح لدى أهلنا من مسيحيي البلاد، حيث يُشترط فيه رفع اللحم عن موائدهم قبل أسبوع من حلول الفصح، ممّا جعل وليمة المَرفع تقتضي إعداد الكُبة النية والدعوة لتناولها في طقس أهيَب ما يكون لوداع اللحم قبل الصوم عنه (12). ومع أن الكُبة النية، شرطها اللحم النيئ أولا، إلا أن للحم وأصنافه فيها، حُمولة رمزية وملامح اجتماعية، فالكبّة بلحمها أيضا على دين أهلها، خصوصا لحم "المخاصي" منها.

كُبة "المَخاصي"

كثيرا ما استعارت الكبة النية اسمها، من صنف اللحم المهروس والمجبول مع برغلها، ففي مدينة طبرية مثلا، كانت الكبّة النية تسمى بـ"كُبة البربوط" إذا ما استُخدم لحم سمك البربوط أو البلبوط الذي كان يجري صيده في بحرة المدينة في إعداد الكبة(13). أما في قرية الزيب المُهجّرة شمالي عكا على حرف البحر، فإن ما كان يُعرف عندهم بـ"القرُيصة" -ينطقها أهالي الزيب بالهمزة أو القاف المضمومة- هي الكبّة النية بلحم السمك. بعد معسها بالجرن، ثم معكها بتعبير الزبابوة بالبرغل مع جُملة من التوابل أهمها الفلفل الأسمر، والأحمر الحّار، كانت تُقرّص قطعا، ومن هنا اسمها. وأحيانا كان يجري قليها بالزيت، أو أكلها بعد شوائها(14).

وقد استخدم بعض أهالي قرى الجليل شمالا، لحم صيدهم، مثل: الغزال في الكُبة النية، وبخاصة أن لحم الغزال لا يمكن تليينه إلا بهرسه ومعسه في الجرن، فاستُخدم للكُبة النية. وقليلا ما استُدخل لحم الطيور في الكبة النيّة. بينما الخنزير، ظلَّ محرّما لحمه على الكُبة النية، حتى لدى من حُلِّل عندهم أكله.

إلا أن لحم السَخل (جدي الماعز) هو الأصل والمُستحبّ في إعداد الكُبة النية في قرى ومدن الجليل ولبنان، وحتى في سورية. وذلك، لأن لحم السخل قليل الشحم والدهن، وهذا ما تشترطه الكُبة في لحمها النيئ أولا.

صيادان في بحيرة طبرية عام 1925 (Getty Images)

ولحم سَخل الماعز قليل الدهن، لأن السخل كان يُعتبر ماشية كثيرة الحركة على خِلاف الغنم التي يكثر الدهن في لحمها، فقلّما استخدم في إعداد الكبة النيّة.

أما "المخاصي"، فهو لحم "السخل المخصي". وخصيّ جَدي الماعز، هو تقليد كان متعارفا عليه في الجليل، وفي القرى الدرزية تحديدا. وذلك بغرض تسمينه بشكل أسرع، وأُعدّ لحم "المخاصي" للكبة النية خصيصا(15). كان خَصي جدي الماعز، يتمّ مبكرا عند فِطامه عن حليب أمه، من خلال رفع خصيّتيه بالمطاط أو خيّط بعد شدّه، بصورة تدريجية شبه يومية، إلى أن تختفي خصيتاه في بدنه.

إن خَصيّ ذكور الماشية والدواب، هو تقليد حمله واحترفه الشراكسة الذين توّطنوا الجليل في قرى مثل كفركما والريحانية في التاريخ العثماني. ومع أنه تقليد، ظلّ محطّ خِلاف لدى الطرّاشين والمعّازين وتجار الماشية في الجليل، لأسباب منها دينية وعُرفية؛ إلا أن أُبّهة مذاق الكُبة النيّة بلحم "المَخاصي"، ظلّت محلّ إجماع في ذاكرة الجميع.

الكُبة النيّة باسماء مُستعارة

في بعض قرى الشاغور وأعالي الجليل، الباقية منها والمُهجرة، كان يُطلق على الكُبة أحيانا "كُبة البنات". وكُبة البنات، هي الكبة النية في يوم العيد فقط، مثل عيد الأضحى(16). حيث تجمع بنات القرية أو الحيّ "الهَبرة" من لحم الأضاحي، ثم يجلسن مجتمعات في طقس لا يخلو من الغناء الجماعي والرقص، أثناء إعداد الكبّة، ثم أكلها. وكان المحظوظ من الشبان، هو من يحظى بقليل من كُبة البنات عن طريق قريبة له أو عشيقة تخصّهُ بلقمةً منها(17).

كما أُطلق على الكُبة النية اسم "المدقّقة"، ويُلفظ حرف القاف همزة أحيانا، وذلك نسبة إلى دقها وهرسها في الجرن(18). والمدقّقة تسمية للكُبة النية، كانت متداولة في لبنان، وليس في شمال فلسطين.

أما "كُبة الغايب جوزها"(19)، فهي الكُبة النية بلا لحم. وتسمى أيضا بـ"الكُبة الكذابة"(20) لغياب اللحم منها.

كما تُسمّى في مناطق أخرى "كُبة الأبو آمنة"(21). غير أن لتسمية الكُبة النية، بكُبة الغايب جوزها، دلالة رمزية واجتماعية، تُحيل إلى العاطفة الشهوانية التي كان يُعتقد بأن اللحم النيئ في الكبة يُثيرها(22). لذا، فبدون اللحم فيها، قيل عنها كُبة الغايب جوزها.

البرغل ما شنق حالو

من منّا لا يعرف المَثل الشائع في بلادنا، والقائل: "العزّ للرُز والبرغل شنق حاله"؟ كاد الرز الذي بدأ بالتسلل إلى موائد أهلنا منذ مطلع القرن العشرين، ثم هيمنته عليها في الأفراح والمناسبات منذ النصف الثاني من القرن الماضي، أن يقضي فعلا على وجود البرغل، لولا أن الكُبة النية التي منعته من "شنق نفسه"، أو الاندثار من على موائدنا.

البرغل، هو مجروش القمح الذي يتم تحضيره من الطحن بعد سلق القمح وتجفيفه، ومنه البرغل الخشن والناعم. وكان يجري إعداده في نحو نهاية شهر تموز أو خلال شهر آب/ أغسطس، أي بعد انتهاء موسم الحصاد وأعمال البيدر. وهو مكون أساسي في الكبة النية، فقد تظل الكُبة عند اسمها بدون لحمها النيئ، لكنها بلا البرغل، لا يمكن أن تكون كُبة أصلا.

مجموعة من الرجال يأكلون من طبق جماعيّ في خيمة في أريحا، عام 1920 (Getty Images)

حتى مشروب العَرق، كان للكُبة النية وما زال لها، فضلٌ عليه ببقائهِ عامرا على موائدها، خصوصا بعد أن كان العرق مشروب الشرق الأشهر، قبل أن تغزوا الخمور والكحول المُستدخلة أجنبيا -على اختلافها- حانات البلاد وموائد بيوتها. غير أن العرق شُربه ظلّ مُقترنا بالكُبة النية، لاعتبار أن لأكل اللحم نيئا، مخاوف صحية، يحول شُرب العَرق دونها. كما للكُبة النية أثر في ما يُعرف بالـ"مَزة" تماما كما للشُرب والكأس أثر فيها وأكثر.

أما عن توابل وتوابع الكُبة النية، فهي متعددة ومختلفة ومستمرة كذلك، مثل: المردقوش (الحَبق) أحد توابلها الذي يمنحها نكهة مميزة. أو "الحوسة" من توابع الكُبة النية إلى يومنا، حيث اللحم المفروم المَقلي مع البصل. غير أن الفلفل الأحمر، يظل مُشكِّلا أساسيا في هوية الكُبة النية، وليس مجرد نوع توابل فيها، فالفلفل الأحمر أو الأسمر الحار، بعد تنشيفه ثم هرسهِ، وبالتالي معكه مع البرغل ولحمه النيئ، لا يُعطي الكُبة النية نكهتها فقط، إنما لونها، والأهم في أنه يمنحها "روحها"، والتي بدونه تظل الكُبة النيّة بلا "روح".

في الأخير

للكُبة النيّة حكاية، وحَكايا عنها تطول. ولها على الموائد أنصارها، وعشّاقها الذين ذاع عنهم قول أحدهم فيها: "بشتاق للكبة حتى بين اللقمة واللقمة". في قرية البصّة المُهجرة من شمال فلسطين، كان أكثر ما عزّ في نفوس أهلها المُقتلعين منها، هو تركهم جِران الكُبة النية وراءهم، مثلما عزّت فيهم وعليهم البلاد، والبيوت تماما.

(Getty Images)

والبصة، القرية التي تنوع دين أهلها فيها، كانت ثُلثا جِران كُبة بيوتها تدقُّ في كل يوم أحد، يوم العُطلة الأسبوعية(23) للحدّ الذي كان يطغى في القرية، رنين دقّ المياجن في جِرانها، على صوت أجراس الكنائس فيها قبل نكبتها. بينما تهزج البصّاويات:

"وكببي الكُبة يا سارة وكببي الكُبة يا هيه

وعازم الصُربي يا بيّك وعازم الصُربي يا هيه".

لا تؤكَل الكُبة النية إلا جماعةً، لأن طقس إعدادها لا يكون إلا جماعيا، خصوصا جَبْل الكُبة أي معكها أو غَبطها. والذي ما يزال طقسا نسائيا - جماعيا في جوّهره. صرنا نفتقد إلى طقس الطَهي النسائي الجماعي، لولائم أعراسنا وأفراحنا. فالبَركة كانت في الأكل "المُسّمى والمُغنّى عليه معا"، وهذا لم يعد إلا في الكُبة النية.


الهوامش:

1. عن حملات كسروان، راجع : باروت، محمد جمال، حملات كسروان في التاريخ السياسي لفتاوى ابن تيمية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2017.

2. الدويهي، البطريرك اسطيفان، تاريخ الأزمنة، المكتبة الفاتيكانية، بيروت، ص 261.

3. حكاية ابتكار أكلة الكبة النية لم تذكرها المصادر التي تناولت حصار مغارة الحدث، إنما هي حكاية متداولة في التاريخ الشفوي المرويّ لدي أهالي جبل لبنان. راجع: ما قصة الكبة النية، موقع "الرأي".

4. راجع: أبو خيران، غيدا، المطبخ التركي في "شانلي أورفا" تاريخ عريق يحتل قائمة اليونسكو، "ن بوست"، تاريخ 12/11/2018.

5. راجع: علوان، نور، أطباق تقليدية على موائدنا... ما حكاياتها ومن أين جاءت تسميتها؟، "ن بوست"، تاريخ 30/7/2018.

6. وما تزال إلى اليوم، وتسمّى أيضا "كُبة الراهب".

7. علوان، نور، المرجع السابق.

8. خلايلي، خليل، تاريخ جسكالا "أحُلب، جوش حالاف، الجش" دراسة جغرافية تاريخية بشرية اجتماعية وفلكلورية، الحلبي للصناعة والطباعة، دمشق، 2001، ص 229.

9. لبن إمو أو بلبن إمو، تقليد قديم متعلق بطهي لحم الجَدي بلبن أمه. ويقدَّم على موائد الأعراس في فلسطين إلى يومنا.

10. راجع: المعلوف، عيسى إسكندر، مدينة زحلة، مؤسسة هنداوي، 2013، ص 20.

11. شحادة، نايف، يركا، مقابلة أجراها الكاتب في تاريخ 4/3/2023.

12. قسيس، عماد، حيفا، مقابلة أجراها الكاتب، في تاريخ 3/3/2023.

13. راجع: حبيب الله، علي، طبريا مواسم البحرة والمطبخ البحري، موقع متراس، 8/11/2020.

14. عودة، أحمد سليم، قرية الزيب كما عرفتها، ص 106.

15. شحادة، نايف، المقابلة السابقة.

16. الصادق، شاهرة، دير القاسي، مقابلة شفوية على موقع فلسطين في الذاكرة، تاريخ 27/7/2006.

17. خلايلي، خليل، تاريخ جسكالا، ص 230.

18. المعلوف، عيسى اسكندر، مدينة زحلة، ص20.

19. علي، ياسر أحمد، شَعَب وحاميتها ( قرية شَعب الجليلية والدفاع عنها)، المنظمة الفلسطينية لحق العودة، 2007، ص 85.

20. المرجع السابق، ص85.

21. عودة، أحمد سليم، قرية الزيب كما عرفتها، ص109.

22. الشاعر، تميم الأسدي، دير الأسد - الناصرة، مقابلة أجراها الكاتب في تاريخ 17/3/2023.

23. زريق، حبيب، مقابلة شفوية صمن فعالية لزيارة قرية البصة المُهجرة، على الفيسبوك.

التعليقات