شراكة عربية- يهودية؟ / ياعيل ليرر

كأنه حصل بالأمس، مرت عشرين سنة دون أن نشعر. اتصل باسل غطاس لدعوتي أنا وميخائيل فارشافسكي (ميكادو) للقاء خاص في حيفا. "سنقيم حزبا جديدا ونريد التشاور". أنا وميكادو كنا عضوي سكرتاريا حركة "ميثاق المساواة" منذ تأسيسها

شراكة عربية- يهودية؟ / ياعيل ليرر

 

كأنه حصل بالأمس، مرت عشرين سنة دون أن نشعر. اتصل باسل غطاس لدعوتي أنا وميخائيل فارشافسكي (ميكادو) للقاء خاص في حيفا. "سنقيم حزبا جديدا ونريد التشاور". أنا وميكادو كنا عضوي سكرتاريا حركة "ميثاق المساواة" منذ تأسيسها.  أقيمت ميثاق المساواة عام ١٩٩١ على يد مجموعة يساريين، فلسطينيون مواطنو إسرائيل ويهود إسرائيليين، قادها مجموعة مِن مَن تركوا الحزب الشيوعي وعلى رأسهم د. عزمي بشارة. وبالرغم من أننا حاولنا إرساء نموذج جديد  من التعاون  العربي-اليهودي، إلا أنه من غير الواضح إلى إي حد نجحنا.

أولا وبشكل رمزي غيرنا الترتيب وأطلقنا على أنفسنا حركة "عربية-يهودية"، بدل  الـ "اليهودية-العربية" التقليدية. ثانيا وهو الأهم – حاولنا التخلص من هيمنة الناشطين اليهود الإسرائيليين.

قاد حركة "ميثاق المساواة" مجموعة مثقفين فلسطينيين لامعين لا يشكك أحد بدورهم القيادي. وانعكس التغيير على الفور ببرنامج سياسي جديد يختلف بجوهره عن تقاليد الحركات "اليهودية-العربية"، حيث شكل تحديا واضحا ليهودية الدولة، وأدخل مصطلح "دولة كل مواطنيها" إلى المفاهيم السياسية والنقاش الجماهيري، وطرح مطلب حق تقرير المصير للأقلية الفلسطينية في إسرائيل، بما في ذلك حقها بالحكم الذاتي الثقافي. كل تلك الأفكار والمفاهيم شكلّت فيما بعد العمود الفقري للتجمع الوطني الديمقراطي، وتشكل اليوم العمود الفقري للقائمة المشتركة (حتى ولو بشكل سطحي لدى بعض مركباتها).

دون التقليل من شأن ما ذُكِر، لكننا لم ننجح في تغيير البناء التنظيمي، ففي أكبر مؤتمر عقدناه لـ ميثاق المساواة، حضر نحو ٣٠٠  عضو. ٨٠ منهم كانوا ناشطين يهود، رجال ونساء متميزين/ متميزات حضروا وشاركوا مقتنعين بضرورة التحرر من الهيمنة اليهودية داخل حركة تحاول تغيير هذه الهيمنة واستبدالها بمساواة في كل البلاد. رفاق سلكوا طرق وعرة أنتجها جهاز التعليم الصهيوني الدوغماتي، واختاروا  طريق إنهاء الاستعمار. لكن هؤلاء الرفاق، الأخوة والأخوات، كانوا ولا زالوا، هامشيين في مجتمعهم، وكان النشاط السياسي لمعظمهم منقطعا عن حياتهم اليومية ومحيطهم وعن عائلاتهم. وبالمقابل كان معظم الناشطين الفلسطينيين، ولا زالوا، على العكس تماماـ ناشطون مركزيون في أوساط المجتمع الذي نشأوا فيه، مؤثرين على مستوى عائلاتهم  وعلى مستوى الحركة الطلابية والمجتمع المدني. ناشطون خرجوا لخدمة وتمثيل المجتمع الذي نشأوا فيه. 

بكونهم مثقفين ويساريين عريقين، انغمس النشطاء اليهود بنقاشات سياسية لا نهائيّة (وهذا حتى قبل وجود الفيسبوك) وكل هذا بالرغم من معرفتهم المحدودة بالمجتمع الفلسطيني في اسرائيل/فلسطين وفي الشتات والعالم العربي ككل. عامة، يطيب لي ان اقارن بين وجود هؤلاء النشطاء وبين شراكة الرجال في الحركات النسوية. كنسوية، اطالب كل رجل ديمقراطي ومتقدِّم ان يدعم كل مطالبي ومطالب رفيقاتي. ولكن من تجربتي، بالعربية والعبرية، فان اكثر الرجال تقدما وانفتاحا، وفي اللحظة التي يحضر فيها اجتماعا نسويا، فهو يميل الى السيطرة على النقاش او على الاقل اخذ حيز كبير فيه وحرفنا عن النقاش المبدئي حول اسئلة داخلية بوسعها ان تساهم في العلاقات بين النساء والرجال، نحو نقاش حول دور الرجال في النضال النسوي وحقوقهم. 

كانت اللغة العبرية تهيمن على لقاءاتنا ومؤتمراتنا، وفي الكثير من جلسات السكرتاريا كنا فقط اثنين من المتحدثيين بالعبرية -- ميكادو وأنا. هذه الديناميكية كشفت لي أهمية اللغة، وأهمية التمكن من اللغة  في الحياة السياسية، لا سيما حين يدور الحديث عن مشاركة سياسية لأقلية في دولة لغة الأغلبية فيها مختلفة، وأيضا في الحياة الحزبية ذاتها. ثمة أهمية كبيرة للغة في بلورة الخطاب السياسي، خاصة خطاب الأقلية القومية. وكان د. عزمي بشارة ، ود. جمال زحالقة، ينشطان حينها داخل الأكاديميا الإسرائيلية باللغة العبرية، وكانت بلورة الأفكار بالعبرية بالنسبة لهم أمر طبيعي كالعربية. لكن لم يكن الأمر على هذا النحو بالنسبة لغيرهم من نشطاء ميدانيين في مجتمعاتهم والذي كان تواجدهم في غاية الاهمية. وحينما كانت  لغة الحوار بالعبرية في الاجتماعات كنا أنا وميكادو وناشطون مركزيون أخرين كأمنون راز كركوتسكين، نشعر بالذنب، وطالما طلبنا منهم أن "يواصلوا الحديث بالعربية" لكننا حينما لم نكن نفهم كانوا يتحولون مجددا للغة العبرية. وأنا ممتنة لهؤلاء الرفاق، والذين بفضلهم تعلمت اللغة العربية ومنذ حينها وأنا أشكرهم بقلبي يوميا. وقادني تعلم اللغة لأماكن أخرى، فقد قضيت سنة  في مصر، وقمت بتأسيس دار النشر "الأندلس" التي ترجمت أفضل أعمال الأدب العربي إلى العبرية، هذا إلى جانب المشاركة والشراكة في الحوار الثقافي والسياسي العربي في مواضيع متنوعة.

بعد التوقيع على اتفاقيات أوسلو عام ١٩٩٣، شعرنا أننا مهملون ومهزومون (رغم أننا لم نتخيل في أسوأ كوابيسنا الواقع الرهيب الذي نشأ هنا في الأعوام العشرين التي تلت). كان تلك لحظة استراحة، تمهيدا لإعادة التنظيم والتفكير من جديد. وفي العام ١٩٩٥، اتصل د. باسل غطاس وقال: "تعالوا إلى لقاء في حيفا، سنقيم حزبا جديدا ونريد التشاور". كانت "مسألة اليهود" في مركز اللقاء: "كيف ندمج اليهود في حزبنا الجديد". وكان جوابي، في حينه، قاطعا، ومستمدا من النموذج النسوي: دعونا نصوغ مطالبنا بأنفسنا وبلغتنا، ونتوقع أن تقفوا إلى جانبنا، والتظاهر معنا، وتقديم الدعم والمساعدة عندما يكون ذلك ممكنا وضروريا.

وكناشطة ميدانية، أدركت أن الحديث ليس عن مسألة سياسية – مبدئية فحسب، وإنما عن موارد زمنية ومالية، والتي كانت دائما محدودة، منذ إقامة التجمع، وخلال المعارك الانتخابية اللاحقة، عندما صدقنا المتشككين، وتصرفنا وكأننا نصارع من أجل البقاء. وتبين أن اجتذاب ١٠٠ صوت يهودي يستغرق من الوقت والمال ما يكفي للوصول إلى ٥٠٠٠ مصوت فلسطيني محتمل. وعندها اعتقدت، وما زلت، أننا يجب أن نبقي "الباب مفتوحا" أمام المؤيدين اليهود، من خلال ترجمة البرنامج السياسي والبث الإعلامي إلى العبرية (ولكن ليس كل وثائق المؤتمر، على سبيل المثال)، وأيضا من خلال كتابة المقالات، والحضور الرمزي لليهود في مواقع متأخرة في قائمة الكنيست. كان نموذج الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة  (والتي قطعت شوطا طويلا مذحينها) ماثلا أمامنا كل الوقت، حيث أنه بالرغم من سيطرة الناشطين اليهود على مؤسساتها، التي يجري النقاش فيها باللغة العبرية، ورغم توجيه كل ميزانيات الإعلام في الحملة الانتخابية باللغة العبرية (وفي وقت لاحق، جزء جوهري منها)، فإنها لم تنجح أبدا في اختراق دائرة ناشطي اليسار في الوسط اليهودي.

ومع مرور السنين، سألني ناشطون كثيرون في التجمع لماذا لا أترشح في قائمة الكنيست (وأحيانا كانوا يحثونني على الترشح). لم أمتنع عن هذا الترشح فحسب، بل امتنعت عن الترشح لمؤسسات الحزب، وأيضا عن تمثيل التجمع في وسائل الإعلام. وهنا ينضاف إلى المسائل المبدئية والعملية لللغة وتحديد الأجندة، مسألة التمثيل. أعتقد أن النواب يجب أن يكونوا صوت ناخبيهم. ولذلك أعتقد أن كل قائمة وبأي انتخابات يجب أن تضم ٥٠٪ من النساء في مواقع متقدمة، على سبيل المثال. ولذلك فإن حزبا لا يزيد عدد مصوتيه اليهود عن خمس المقعد الواحد ليس بحاجة  إلى عضو كنيست يهودية على حساب ظهور وإسماع صوت نائبة عربية. في الانتخابات السابقة صوت للتجمع نحو ١٠٠٠ مصوت يهودي، وصوت للجبهة ٥٠٠٠ يهودي، وللقائمة المشتركة صوت ٤٠٠٠ يهودي. (أعتقد أن السبب الرئيسي لهذا التراجع هو خوف جزء من مصوتي الجبهة من زوال ميرتس، وليس تحفظا من القائمة المشتركة).

إن مسألة مشاركة مواطنين يهود في الحياة السياسية للأقلية الفلسطينية في إسرائيل تحتاج إلى اجتهاد إضافي. والقائمة المشتركة، والتي هي خطوة أولى وضرورية باتجاه إقامة مؤسسات منتخبة، هي مبدأ مركزي في مشروع التجمع منذ البداية، ويطرحها مجددا. فهل نستطيع أن ننشئ جسما موازيا للمؤتمر الوطني الأفريقي يكون فيه مكان للبيض من بيننا؟ هل هناك أمل بحصول تحرك عدد ملموس من المواطنين اليهود باتجاه معارضة الصهيونية والفوقية اليهودية في إسرائيل/ فلسطين؟ وهل لا بد من تصميم نموذج لوجود مشترك في دولة المواطنين حتى في مرحلة الصراع؟ من المحتمل أن إقامة مؤسسات منتخبة لن تكون ممكنة بدون إعمال التفكير والنقاش على نطاق واسع في هذه الأسئلة.

النموذج الجنوب أفريقي مهم. حيث أن معارضي الأبرتهايد البيض (وبينهم يهود كثيرون) كان لهم مكان في المؤتمر الوطني الأفريقي، وحتى في قيادة الجناح العسكري له، رغم كونهم قلائل. ولكن التغيير السياسي في مجتمع الغالبية الجنوب أفريقية لم يحصل نتيجة العمل من الداخل، وإنما نتيجة الضغوط الخارجية، وعلى رأسها المقاطعة الدولية.

في الحلقات البيتية باللغة العبرية، كان د. جمال زحالقة يحب اقتباس صديقه روني كسريل، وهو يهودي أبيض، وكان أحد قادة الذراع العسكري للمؤتمر الوطني الأفريقي، ورئيس جهازه الاستخباري، وبعد ذلك وزيرا في حكومة منديلا. وقد تحدث كسريل عن متلازمة "كشك الهاتف" حيث كان بالإمكان حشر كل الناشطين البيض في داخله، ولكن رغم كونهم أقلية، كما يقول، فقد كان لهم أهمية لا بديل لها في المجتمع بعد انهيار الأبرتهايد.

مر عشرون عاما، وظل التجمع مبعث الاعتزاز بالنسبة لي. لا يوجد متعة أكبر من لقاء شابات وشبان، فلسطينيين منتصبين ومعتزين بانتمائهم، ويعرفون من أين أتوا وإلى أين يتجهون، ومعرفة أن التجمع غيّر رؤيتهم للعالم.

التجمع بالنسبة لي مشروع حياة، وربما أهم مشروع، رغم أنه ليس لي (وبالرغم من استياء اصدقاء لي، ومثقفين في العالم العربي، فانه اهم من دار الاندلس للنشر). التجمع هو بيت وعائلة ومدرسة مستمرة، مشروع غيّر بشكل تام وجهة نظري وحياتي. وأنا فخورة بالجزء المتواضع في إقامته، وممتنة، في الأساس، لمنحي الحق الكبير في المشاركة في هذا المشروع.   

التعليقات