عقدين على التكثيف والتعقيد / علي حبيب الله

إن الحديث عن التجمع الوطني الديمقراطي يُحيلنا بالضرورة للحديث عن الحركة الوطنية برمتها في الداخل الفلسطيني، هذا لا يعني بالطبع أن ولادة الحركة الوطنية اقترنت بنشأة حزب التجمع، فجذور الحركة الوطنية في الداخل الفلسطيني تعود إلى مطلع القرن ا

عقدين على التكثيف والتعقيد / علي حبيب الله

إن الحديث عن التجمع الوطني الديمقراطي يُحيلنا بالضرورة للحديث عن الحركة الوطنية برمتها في الداخل الفلسطيني، هذا لا يعني بالطبع أن ولادة الحركة الوطنية اقترنت بنشأة حزب التجمع، فجذور الحركة الوطنية في الداخل الفلسطيني تعود إلى مطلع القرن الماضي، وحتى قبل أن تتبلور خصوصية جغرافية وسياسية تُمايز فلسطينيي الداخل عن سائر أبناء شعبهم في الضفة والقطاع ومخيمات اللجوء. لكن نشأة التجمع الوطني، وحضوره المكثف على الساحة السياسية، مع مطلع تسعينيات القرن الماضي، مكّنه من الإجابة على الأسئلة التاريخية التي استشكلتها الحركة الوطنية، وبالتالي صياغته برنامج ديمقراطي يستند إلى خطاب قومي، مؤطرًا إياهما في إطار الهوية العربية، كهوية ناظمة وجامعة لكافة فلسطينيي الداخل، متجاوزًا لانتماءاتهم الوشائجية دون الإقصاء لها.

التأكيد على الهوية العربية كإطار ناظم لفلسطينيي الداخل، دفع بالتجمع الوطني في العقدين الأخيرين إلى تصدر المشهد السياسي ليس على مستوى التمثيل في البرلمان 'الإسرائيلي'، إنما على مستوى تطابق خطابه الوطني مع المجتمع العربي في الداخل، إلى حد اكتست فيه اللغة السياسية عند كافة الأحزاب والقوى السياسية، باصطلاحاته وتعابيره التي شكلت القاموس السياسي لدى فلسطينيي الداخل في العقدين الأخيرين. ما جعل حزب التجمّع ممثلا ليس لمنتسبيه أو ناخبيه فقط، إنما لكافة السكان العرب في أراضي 'ثمانية وأربعين'، بصرف النظر عن مواقعهم الحزبية، ومناكفة بعضهم له. 

لم تكن فكرة الهوية في أدبيات التجمع اكتشافًا ولا برنامجًا عمليًا كذلك، إنما كانت تذكيرًا يصلح وما زال للتعريف بذاكرة العرب الجماعية في ظل محاولات حثيثة لممارسة نسيان جماعي عليهم، وسياسات تفتيت تعرضوا لها من قبل 'مؤسسات الدولة العبرية' على مدار عقود من الزمن، خصوصًا بعد قطيعة جغرافية أولا، وسياسية اجتماعية ثانيا، عن جسدهم الترابي، ومحيطهم الفلسطيني والعربي. 

تجاوزًا لعُقدة الأقلية.

تبلورت فكرة 'الأقلية' في ذهنية فلسطينيي الداخل، مع بدء سياسات الاحتواء من قِبل مؤسسات الدولة 'العبرية'، وتحديدًا بعد رفع الحكم العسكري عنهم في منتصف ستينيات القرن الماضي. لذا، بات مفهوم الأقلية والأكثرية يُنظر إليه من نافذة الإحتلال ومن على أرضيته، ليصبح العرب أقلية عددية في مقابل أكثرية يهودية لطالما الأفق السياسي والثقافي كذلك، كان يعمل تحت سقف مسلمات الاحتلال وأدبياتهِ.

إن ظهور التجمع الوطني على الساحة في الداخل الفلسطيني بمقولته السياسية التي شددت على الهوية العربية كمرجعية ناظمة وجامعة للسكان العرب في الداخل، كان بمثابة مسح لزجاج النافذة التي أطل منها العرب على أنفسهم. فخطاب التجمع الذي عمل على شحذ الذاكرة العربية، أعاد ترسيم حدود علاقة عرب الداخل بأنفسهم وبمحيطهم العربي وبموقعهم من مؤسسات الاحتلال، كما عمل على تجذير علاقتهم بالزمان والمكان وانتمائهم الحضاري العربي الإسلامي، لتشب ذاكرة فلسطينيي الداخل عن طوق مؤسسات الاحتلال، لكونهم جزءًا من أكثرية قومية، فيما اليهود هم الأقلية في المنطقة وليس العرب.

فاليهود هم أقلية ليس لكونهم أقل عددًا فقط، بل لكون الأقلية لا انتماء لها، ولكونها هامشًا نسبة لمركز. والأكثرية أيضا ليست أكثرية عددية، بل أكثرية لكونها لا تصبو إلى تحقيق نموذج، ما دامت هي النموذج نفسه بحسب تعبير 'جيل دولوز'. فالأقلية هي من ينشد التحول لا الأكثرية، ولا تنشد التحول لتغدو هي المركز، وإنما لتقضي على المركزية. ومن هنا، السعي الدائم للصهيونية كأقلية استعمارية، للقضاء على مركزية الصِفة العربية للمنطقة، وتفتيتها إلى طوائف وجماعات إثنية.  

'الكنيست' وعقائدية الموقف.

على الرغم من الموقف العقائدي للتجمع الوطني في كثير من الثوابت الوطنية والقومية، إلا أن موقفه في قبول العمل السياسي من تحت قبة البرلمان الإسرائيلي 'الكنيست' جعلهُ في مرمى نيران الاستجواب الدائم، من قبل مثقفين وسياسيين محليين، لا بل ومن قبل قوى وحركات وطنية عربية إقليمية. فيما برر التجمع تناقضه هذا، على أنه تناقض معطى، فرضته الظروف المطلبية والمعيشية لدى عرب الداخل والمرتبطة بإيقاع نظام الإحتلال نفسه، هذا من جانب. ومن جانب آخر برر التجمع تناقضه على أن ظروف المرحلة السياسية التي ولد فيها مطلع تسعينيات القرن الماضي مع اتفاقية أوسلو، والتسويات السياسية العربية _ الإسرائيلية، قد اشترطت حضوره على الساحة السياسية في الداخل لمواجهة أشكال الأسرلة التي قد تقتحم الساحة إذا ما تم إخلاؤها.

استطاع التجمع منذ تأسيسه الإحاطة بتناقضاته كحركة وطنية تعمل سياسيًا على أرضية الاحتلال لا منها. وعن سؤال المشاركة في الانتخابات، أجاب التجمع وقتئذ: بأن العرب حين يشاركون، فهم ينتخبون ممثليهم ليمثلوهم أمام حكومة دولة إسرائيل من أجل قضاياهم المطلبية، وهمومهم اليومية. فيما أكد التجمع حينها على أن حقوق العرب السياسية والمعيشية في الداخل لا تُستمد من ديمقراطية الدولة العبرية، إنما هي مستمدة من حقهم على الأرض وفيها في آن. ما عنى بالنسبة للتجمع أن الصراع الحقوقي مع الإحتلال مجدول بالصراع على وجوده.

بعد عقدين من الزمن على تجربة التجمع الوطني، يبدو مشهد حضوره على الساحة السياسية أكثر تعقيدًا مما كان عليه سابقًا، فالتناقضات التي استطاع الإحاطة بها عند نشأته، بدأت تحيط به اليوم إلى حد بات فيه التجمع أكثر تعقيدًا مع خطابه لا مع سياسات الدولة العبرية فقط. فالصراع على الحقوق من تحت قبة البرلمان لم يعد وجوديًا بل بات على حساب وجودية الصراع، خصوصًا وأن ما كان يتم تبريره بحجة القضايا المطلبية للعرب كحجة  أخلاقية، تبين أن ما هو مطلبي لم ولن ينتهي، الأمر الذي سيؤبد الخطاب الوطني كرهينة لما هو حقوقي على حساب ما هو وطني في الخطاب ذاته.

كما يبدو جليًا، أن خطاب الهوية في مواجهة الأسرلة، يحتاج إلى مراجعة من حيث ماهية سياسات الهوية نفسها، والتي تعمل أحيانًا وفق إيقاع نظام السيطرة والتأديب الاستعماريين، فالهوية إن كانت ستُختزل بالفلكلور، فهذا لا يعني بالضرورة أنها تقيض للأسرلة، خصوصًا وأن التجنيد كظاهرة أسرلة لم تمنع مجندين عربًا من الاحتفاء بأغاني 'العتابا والدبكة الشمالية' التي تناقلتها الصور والفيديوهات على شبكات التواصل الاجتماعي من داخل ثكناتهم العسكرية في جيش الإحتلال.

إن ارتفاع وتيرة العنصرية البرلمانية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، جعلت التجمع الوطني أو بعض قياداته على الأقل تنزلق بين حين وآخر في النظر إلى المجتمع الإسرائيلي وإقامة تصنيفات مثل 'يمين ويسار'،أو'عنصري وعنصري أقل'، وهي بالضرورة تصنيفات مُفترضة لا بل وهمية إلى حد ما. بينما الذي يحتاج النظر فيه هو التجربة والخطاب معًا بعد مرور عشرين عامًا، والسؤال الذي على التجمع الوطني التدقيق في صحته قبل الانشغال في الإجابة عليه هو : كيف بالإمكان اجتراح أفق سياسي خارج ما هو مُقرر كسياسي لنا نحن فلسطينيي الداخل؟؟

*علي حبيب الله - باحث فلسطيني

 

 

 

 

 

  

التعليقات