وهج التجمع/ رامي منصور

​أعتبر نفسي محظوظا جدًا لأن أهم مراحل حياتي، وهي مرحلة الدراسة الثانوية، تزامنت مع السنوات الأولى من عمر التجمع، وبالتالي أصبح مركبا أساسيًا في تكوين شخصيتي السياسية. وبالإمكان القول وباعتزاز أنني من الجيل الأول للتجمعيين

وهج التجمع/ رامي منصور

أعتبر نفسي محظوظا جدًا لأن أهم مراحل حياتي، وهي مرحلة الدراسة الثانوية، تزامنت مع السنوات الأولى من عمر التجمع، وبالتالي أصبح مركبا أساسيًا في تكوين شخصيتي السياسية. وبالإمكان القول وباعتزاز أنني من الجيل الأول للتجمعيين، الذين لم يأتوا من خلفية حركية سواء الحركة التقدمية أو أبناء البلد أو الحزب الشيوعي، أي أن وعيي وإدراكي السياسي والوطني تبلور في التجمع.

وقد توثقت علاقتي بالتجمع في تلك الفترة خلال نضال أهل بلدي، الطيرة، ضد شارع "عابر إسرائيل"، في خيمة الاعتصام التي أقمناها على الأراضي المصادرة، حيث كان حضور التجمع مركزيًا. أي تعرفت إلى التجمع أكثر في ميدان المواجهة والعمل. فقد كان “وهج التجمع” قويًا وجذابًا استقطب العديد من الشباب أبناء جيلي حينها، واستعادة هذا الوهج - البريق أصبح من مسؤولياتنا نحن، بعد أن خف أو بهت بفعل الزمن.

هذه المقدمة الشخصية ليس الهدف منها تضخيم الذات في التأريخ، وإنما لأن القارئ الفتي سيعتبر الفقرة الأولى بأنها مفهومة ضمنا واعتيادية. لكن حقيقة لا بد منها، هي أن تلك الفترة أو السنوات كانت قاحلة وطنيًا وسياسيًا، وبدا التجمع حينها لنا، كشباب في أول العمر، واحة ومنبعًا وطنيًا وفكريًا. فقد تأسس في مرحلة انهارت فيها الأحزاب،الواحد تلو الآخر، فكيف كان بالإمكان تأسيس حزب من حركات ذات مشارب فكرية متعددة في زمن الانهيارات عالميًا وزمن “المهرولون” عربيًا كما سماهم نزار قباني؟ نشأ التجمع عكس التاريخ. 

مما لا شك فيه بأن لشخص الدكتور عزمي بشارة الدور الأساس في انتشار خطاب التجمع بين الشباب وتثبيت عقد التجمع الداخلي، وبفضل الكاريزما وشخصيته القيادية تمكن من جمع أبناء الحركة التقدمية بأبناء البلد بالشيوعيين في إطار سياسي واحد وجديد، وبفضل تنظيره السياسي النقدي والمجدد استقطب أبناء جيلي،وحمانا من مشاريع الأسرلة،فكان حضوره دائمًا في الجامعات والمعاهد سواء بين الطلاب كقائد سياسي أو من خلال مقالاته الأكاديمية التي تدرس سواء عن عصر الأنوار ومشروع الحداثة أو في مجال النظرية القومية.

إعادة تأسيس: من المؤسسين الأوائل إلى المُمأسسين

لا بد بعد عشرين عاماً من انطلاقته، أن يتوقف التجمع أمام مسيرته، ويقدم مراجعة حقيقية وتسجيل إخفاقاته ونجاحاته. فحتى الآن لم يستطع، لأسباب موضوعية يمكن تفهمها، تطوير مؤسسات حزبية مستقرة وناجعة، لذا لا يمكننا الحديث عن إعادة تنظيم أو نهضة مؤسساتية، وإنما نحن بحاجة إلى استكمال مسيرة المؤسسين الأوائل بأن نعيد تأسيس التجمع من خلال مأسسته، لنصبح مُمأسسين.

أمام التجمع تحديان أساسيان في المرحلة المقبلة متوسطة الأمد: بناء المؤسسات وتجذير خطابه السياسي والحفاظ على تميزه في القائمة المشتركة، لأن التجمع ليس حزب “النائب الفرد/ النجم” بل تيار واسع. 

بناء المؤسسات، ولا أعني بذلك بناء الفروع والنهوض التنظيمي فحسب، وإنما بناء مؤسسات حول التجمع في كافة المجالات، التربية، الرياضة، الكشافة، التوجيه المهني، السياحة البديلة، إضافة إلى مؤسسات تعنى بهموم الناس الحياتية بما فيها إقامة صندوق أهلي اجتماعي. 

هذا التحدي كان أحد ميزات التجمع في سنواته الأولى، فقد رافق فترة تأسيسه إقامة مؤسسات المجتمع المدني سواء كانت حقوقية أم شبابية أو بحثية، وكان لها الدور الهام في تطوير الأداء والخطاب السياسيين لدى العرب.

ويتوقع منا إعادة النظر بمصطلح “بناء الفروع”، فلم يعد فرع الحزب هو ملتقى الشباب كما كان قبل أربعة عقود، ولم تعد طاولة التنس بوتقة صهر الجيل الناشئ، بل نحن بحاجة إلى البحث/ اختراع أو اكتشاف نقاط تماس/ التقاء جديدة مع الناس، لأن مؤسسة “الفرع” أكل عليها الدهر وشرب، فمعظم الفروع مغلقة طيلة أيام السنة وفي أحسن الأحوال قد تتحول لملتقى مسائي/ ديوان. إذًا، لا بد من خلق شيء جديد يتيح لنا الالتقاء مع الناس بهدف خدمتها، تسييسها، تنظيمها وإعادة الروح للحياة الوطنية سياسيًا وثقافيًا في كل بلد وبلد.

التجمع ضد استلاب التاريخ

التجمع في أساسه حركة تنويرية، وحركة مقاومة لاستلاب التاريخ الذي عاشه العالم العربي، وانعكس بالضرورة على المجتمع العربي في إسرائيل أواسط التسعينيات، فسادت مظاهر الأسرلة والتشوه السياسي والثقافي وكأن الهزيمة قدرنا. 

ومواجهة الاستلاب لا تكون بمزيد من الانغلاق، وإنما المواجهة بروح منفتحة وفكر ديمقراطي نقدي. فالتجمع يقوم على قدمين، القومي والديمقراطي، وقد تمكن طيلة العقدين من الحفاظ على توازن دقيق بينهما، وعلينا في العقدين المقبلين أن نحفظ هذا التوازن، فلن نكون قوميين إذا تخلينا عن القيم الإنسانية الديمقراطية بل سنصبح حركة رجعية لا عقلانية معادية للحداثة ومنبوذة اجتماعيًا، وإذا تمسكنا بقيمنا الإنسانية الديمقراطية دون فكر قومي يساري سنصبح تيارًا اندماجيًا مؤسرلا. فكما قال د. بشارة “نحن قوميون عرب لأننا ديمقراطيون”.

دمقرطة المجتمع

يواجه مجتمعنا خطرًا داخليًا داهمًا وهو الفهم المسيء والمشين للدين والتدين واتساع التقوقع الطائفي والتخلف الاجتماعي ومحاولة الإرهاب الديني، في موازاة انتشار العنف والجريمة وفقدان الأمن الشخصي. وبغض النظر عن الأسباب لهذين الخطرين، تقع مسؤولية تاريخية على التجمع وسائر الأحزاب العمل على دمقرطة المجتمع وقيمه. والدمقرطة لا تعني فرض العلمانية أو الأصولية العلمانية، وإنما حفظ التعددية وتعزيز قيم التنور الاجتماعي وعقلنة العلاقات الاجتماعية.

وخطر العلمانية الأصولية هنا لا يقل عن خطر الأصولية الدينية، لأنه خطاب استعلائي يقسم المجتمع حسب السلوك الفردي ويتعامل مع العلمانية كبقرة مقدسة.

كان هدف التجمع في العقدين الأولين تسييس قضايا الناس المطلبية والحياتية، وعلينا في العقدين المقبلين السعي إلى عقنلة العلاقات الاجتماعية والخطاب السياسي ومكافحة الشعبوية ومخاطبة الغرائز.

ولا يمكن القيام بهذه المهام إلا بالالتحام بقضايا الناس، بقضايا الفقر والإقصاء والتهميش الاقتصادي، كما أن سعينا إلى تنظيم مجتمعنا كأقلية قومية في مؤسسات قومية ستكون منقوصة إذا لم يرافقها خطاب اجتماعي ديمقراطي تنويري. فمثلا دعوتنا لانتخاب لجنة المتابعة إذا لم يرافقها خطاب اجتماعي، قد تنتهي بأن تكون المتابعة مركبة من ممثلي عائلات وحمائل. وإذا كانت الدعوة إلى تنظيم الأقلية في مؤسسات قومية وتسييس قضايا الناس بلا خطاب اجتماعي دمقراطي تنويري سيكون خطابًا هشًا، ولم يعد ممكنًا الهروب من معالجة القضايا الاجتماعية بذريعة الانشغال بالقضايا السياسية الوطنية الكبرى.

التجمع حزب قومي ديمقراطي متنور جاء ليعبر عن مصالح الناس، وليس عن مشاعر الناس فقط، وعلينا صون ذلك في العقدين المقبلين وأن نعيد للتجمع وهجه.

التعليقات