السعي نحو أسس ديمقراطية وقيم إنسانية / عرين هواري

​قام التجمع الوطني الديمقراطي رسميًا عام 1995 ، واضعًا نصب عينيه عدة أهداف أهمّها إعادة إحياء الحركة الوطنية في الداخل على أسس ديمقراطية وعلى قيم إنسانية.كان ذلك تحديدًا بعد بدء مسيرة أوسلو وإسقاطاتها على القضية الفلسطينية عامة وعلينا داخ

السعي نحو أسس ديمقراطية وقيم إنسانية / عرين هواري

قام التجمع الوطني الديمقراطي رسميًا عام 1995 ، واضعًا نصب عينيه عدة أهداف أهمّها إعادة إحياء الحركة الوطنية في الداخل على أسس ديمقراطية وعلى قيم إنسانية.كان ذلك تحديدًا بعد بدء مسيرة أوسلو وإسقاطاتها على القضية الفلسطينية عامة وعلينا داخل الخط الأخضر خاصة.

لم تكن صدفة أن شاركت باللقاءات التأسيسيّة الأولى، فلقد وضعتنا اتفاقات أوسلو وتجلياتها في الداخل، أمام تحديات جديدة تتعلق بالمشروع الوطني الفلسطيني عامة وبمكانتنا كجزء من الشعب الفلسطيني ومن قضية تحرره خاصة. وكان لا بدّ للقلقين على الهمّ الوطنيّ أن يقودوا مشروعًا جديدًا. في حينه كان أولائك يسبحون ضد تيّار "السلام" الذي أتت به اتفاقات أوسلو، تلك التي حوّلت رابين لرمزٍ للسلام.

جاءت تلك اللقاءات بعد أن كنت قد ابتعدت عن النشاط الحزبيّ (حيث كنت قبل ذلك ناشطة في  الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة)،  لتبعث بي تفاؤلا بإمكانية تأسيس إطار يستطيع أن يجيب على التحديات السياسيّة التي تواجهنا سواء تلك المتعلقة بالحل العادل للقضية الفلسطينية، بحقوقنا الجماعية كأصحاب وطن وكذلك بعلاقة المواطنة بالوطن في دولة تعرف نفسها من خلال إقصائنا.  

قبل ذلك كنت على المستوى الشخصي ، الذي وهو أيضا سياسيّ، قد عشت موقفين كانا بمثابة الريشة التي قصمت ظهر الجمل، وجعلاني أقرر  ترك نشاطي داخل الجبهة. كان احدهما اظنّ عام 1992 حين كنت نشيطة في سكرتارية جبهة الطلاب العرب في جامعة حيفا، وقام  أحد المسؤولين في الجبهة من خارج الجامعة، بكتابة بيان ونشره باسم جبهات الطلاب العرب. لا Bذكر مضمون البيان ولا سياقَه، ولكن من الصعب أن أنسى أننا لم نشارك في كتابته بل ولم نُسأل حول مضمونه وقد كنت حينها سكرتيرة فرع جبهة الطلاب في الجامعة. لم يكن التوجّه ديمقراطيًا ولا الإجراء سليمًا، فلم نجلس نشطاء الحزب في الجامعة في حينه ولم نناقش أيًا من بنود البيان أو حتى فكرته. سبق تلك لحادثة مشاركة لي مع صديقات ناشطات في مؤتمر لحركة النساء الديمقراطيات أظنه كان عام 1991 حاولنا خلاله إصدار بيان استنكار أو تسجيل موقف ضدّ قيام رئيس لجنة المتابعة في حينه السيّد إبراهيم نمر حسين بالشهادة لصالح أب قتل ابنته على خلفية ما يسمى بشرف العائلة. لم ننجح عندها، رغم وجودنا في مؤتمر من المفروض أن يكون نسويًّا، سوى بإضافة جملة عابرة على بيان المؤتمر تنصّ على إرسال "رسالة عتب أخوية للسيد حسن على ذلك الموقف". لا أذكر النصّ الدّقيق، إلا أنني أذكر أنه كان نصًا رقيقا وخجولًا أمام السيد حسين ولم يكن استنكارا ولا حتى شبه استنكار.  وفي هذا السياق من المنصف أن أشير بأن المبادرة الأولى لهذا الاستنكار كانت لصديقنا والقائد في الحركة الطلابية سابقا والأسير السياسيّ اليوم أمير مخول، الذي صاغ وبجرأة كبيرة، مع بعض الزميلات والزملاء عريضة ضد موقف رئيس لجنة المتابعة وطالبه بالاستقالة. 

قررت في تلك الفترة التوجه إلى العمل النسوي، الذي دخلته بداية كما العديد من زميلاتي عن طريق الأطر النسوية الإسرائيلية في حيفا، لنقوم بعدها ببناء أطر نسوية فلسطينية. 

وصلت إلى الاجتماعات الأولى لتأسيس التجمع مشحونة بتلك التجارب، وقد التقى غضبي على مساري الحزبيّ السابق الذي لمست أنني لن استطيع أن أؤثر به، مع حماسي للطروحات الجديدة التي مثلّها في حينه المفكر عزمي بشارة، والتي تحدثت عن دولة المواطنين كبديل لطرح "دولتان لشعبين" الطرح كالذي كنت أخجل به. كما ولاقى أيضا مشروع "الأتونوميا الثقافية" حماسًا لديّ حيث بدأت أسمع طرحا يتعدّى في خطابه المساواة الفردية لنا كمواطنين وإنما يتحدث عن حقوقنا الجماعية كأصحاب وطن.   

ما أشدّ حماسي حين فهمت أننا بصدد إقامة حزب جديد، حيث يعني هذا أنه لا تقاليد قديمة علينا المحافظة عليها ولا هيمنات فكرية أو تنظيمية،  وقد يكون لنا، الجيل الجديد، صوت به وقد تكون قدرتنا على التأثير أكبر داخله.

منذ اليوم الأول كان واضحا لنا، بعض الرفيقات والرفاق النسويين المؤسسين، وبعض القيادات الطلابيّة أنه علينا أن نستثمر جهودنا في البعد الديمقراطي، لهذا الحزب، وذلك بسبب تجاربنا السابقة ولكن أيضا في أعقاب قراءاتنا حول حركات التحرر الوطني، بما فيها حركة التحرر الفلسطيني، وتهميش  دور المرأة وكذلك البعد الديمقراطي في تلك الحركات. أدركنا منذ البداية أن مشاركتنا في تأسيس أطر نسوية أمر هام ولكنه لا يغني عن العمل الحزبيّ. بل رأينا أن وجود النساء في العمل النسوي دون مشاركة في الحركات السياسية، يعني نزع السياسة عن العمل النسوي حيث لن يؤثر إلا مجموعة قليلة جدا. وأدركنا أن واجبنا مع باقي الصديقات والأصدقاء هو التأثير من منظور نسوي وديمقراطي على مبادئ الحزب، وكذلك على برنامج الحزب وأدائه اليومي.  

عشنا مسيرة عشرين عامًا، لا أعرف كيف مرّت، وأكاد لا أصدق أنها فعلا مرّت لولا وجود الصور القديمة داخل الأرشيف. والتي أبت إلا أن تذكِّرنا بأننا كبرنا، ولنصدِّق أن عقدين من الزمان قد مرّا من عمرنا ولنفرح أيضا بما أنجزنا. أصبنا في الكثير من المواقف واحسنّا الأداء في الكثير من المحطّات وأخطأنا في بعضها، ولكنها كانت وما زالت مسيرة تشرّفنا. 

لا يسعى هذا المقال إلى تحليل التجربة إنما أكتبه من وحي البدايات والذكريات ولكن تلخيصا سريعًا للتجربة ومن زاوية البعد الديمقراطي للمشروع  أقول:

كنّا، الجيل الاولّ من النساء بالحزب،  دون مرجعيات نسوية أو نسائية حزبية نعود إليها، كان ذلك ربما ضروريا من اجل البدء بحرية ودون التزام بقوالب سابقة تحدّ من اجتهاداتنا وتلزمنا بالانقياد وراء القديم. ولكنه لم يكن بالأمر السهل، فلم تكن لدينا تقاليد للعمل ولا ادبيات حزبية نعتمد عليها. 

غالبية القيادات النسوية في التجمع كنّ قلقاتٍ دوما على مكانة المرأة في الحزب وفي صنع القرار الحزبي، من اليوم الأول أقمنا دائرة العمل النسويّ التي شارك بها رجال ونساء. كنا وعلى مدار المسيرة نحاول العمل على مستويين ينسجمان أحيانا ويتوتران في أحيان أخرى، ظاهريا على الأقل. حيث كنا نريد أن نكون طليعيات وراديكاليات دون أن نكون نخبويات. أي أردنا أن نغيّر في المجتمع وان نكون مع الناس في نفس الوقت. لم ننجح فيهذا المزج دائما، فقد بالغنا أحيانا في التشديد على التغيير فركزّنا عملنا في التوعية والضغط من اجل وجود النساء في مواقع صنع القرار الحزبي وكدنا ننسى  أهمية وجود النساء في صفوف الحزب. وانخرطنا أحيانا في العمل اليومي وفي الشؤون الحزبية لنكون جماهيريات واقمنا "لجان العمل الاجتماعي"، وأحيانا نسينا أن عملنا الحزبي هو أصلا من أجل التغيير وليس قائما لذاته ولن يكون مجديا إذا لم يحمل روح التمرد على المباني الاجتماعية القائمة. ولكننا بمجمل مسيرتنا سعينا ونجحنا بأن تكون قضية المرأة ورفع مكانتها مركزيّة في برنامج الحزب وفي اجنداته. وليس صدفة أن يكون التجمع أول حزب  يخصص ثلث  مقاعده في البرلمان للنساء وأول حزب وطنيّ تمثله امرأة في البرلمان.

 نجح التجمع خلال سنواته العشرين في  بناء جيل من الشباب الأحرار والنقديين،  شباب ملتزمين ولا يساومون، تشغلهم أسئلة الديمقراطية والقيم الإنسانية والعدالة الاجتماعية. جيل يحترم قياداته ويحبّها ولكنه لا يقدسها، جيل يقود ولا يقاد. ولاؤه محصور على مبادئه فقط. ولا يسعني في هذه المقالة القصيرة الا ان أحيي هذا الجيل من الشابات والشابات وادعوهم: ان ابقوا كما انتم.

أكتب فرحة بتلك التجربة، ولكنها فرحة ترافقها غصّة، حيث القائد والمؤسس عزمي بشارة في المنفى، وحيث خطف الموت منا بعض من أحببنا، ومن كان لهم دور في هذا المشروع. منهم مدير موقع عرب 48 الصديق المرحوم أحمد أبو حسين، وعضو المكتب السياسي والمحرر المسؤول في فصل المقال الصديق المرحوم رياض الأنيس، والصديقة والأخت الغالية عضوة المكتب السياسي التي كانت لها كل الفضل على الحركة الشبابية والطلابية في التجمع الرفيقة روضة عطا الله وآخرين ممن أحببناهم الذين ستبقى ذكراهم عطرة في قلوبنا. 

 

*عضو مكتب سياسي للتجمع وأحدى المؤسسات في الحزب

التعليقات