18/02/2021 - 15:13

تعدّدت الشُذوذيّة السياسيّة واللاجدوى واحدٌ أحَدْ

الخروج عن أي إجماع، أكان وطنيا، أو عقائديا أو اجتماعيا، من الطبيعي أن يولّد مقاومة أو رفضا أو معارضة لدى الأغلبية المُؤمنة بالإجماع والاتفاق على القوائم المشتركة، لأنّ فكرة الانشطار أو الانشقاق أو التفكيك، تؤدي حتما إلى صراعات

تعدّدت الشُذوذيّة السياسيّة واللاجدوى واحدٌ أحَدْ

النائب منصور عباس

جدلية قوة الوحدة ووهن الفرْقة


الخروج عن أي إجماع، أكان وطنيا، أو عقائديا أو اجتماعيا، من الطبيعي أن يولّد مقاومة أو رفضا أو معارضة لدى الأغلبية المُؤمنة بالإجماع والاتفاق على القوائم المشتركة، لأنّ فكرة الانشطار أو الانشقاق أو التفكيك، أو الانقسام، تؤدي حتما إلى خلق صراعات لسنا فقط في غنى عنها في سياق التوقيت الحسّاس، بل إنها تفتّح الجراح وتعمّق مساحة الألم والمعاناة في الجسد الواحد -ولو رمزيّا- وتحرق جسر "العودة" الذي بُنيت عليه مقولة الوحدة والالتحام بين الأحزاب، وتفتح الباب المنطقي للاتّهام المتبادل من التخوين والتكفير إلى درجة التكاذب وشيطنة الآخر؛ والنتيجة الحتميّة إضعاف المجموعة المُهمشة والضعيفة في الأساس أصلا.

من جهة ثانية، التفكّر خارج صندوق المُعتقد الذي يُمثل الإجماع يُصبح مُبرّرا أو مُسوّغا، إذا كان اجتراح الطرح البديل أكثر مصداقية وصوابيّة وفعّالية، نتائجها تصبّ في خانة خدمة مصالح المواطنين الحارقة من ذهنية الوضع القائم التي يتبنّاها كلّ من يعتقد بجدوى النضال من أجل تحقيق الحقوق المدنيّة، من خلال خطاب المواطنة والحقوق القوميّة كمجموعة فلسطينيّة أصلانيّة، عبر المشاركة في اللعبة السياسية للنظام الديمقراطي، أي الانخراط في منظومة الانتخاب والتمثيل في الكنيست.

ليس هناك أي مبدأ عقلاني (نفعي) يدفعنا أن نشاطر من يصبّ زيت الإضعاف على نار الضعف الجوهري لأيّ مجموعة إثنيّة وسط أكثريّة مُعادية، فقوّتنا لا تكمن في ضعفنا أو إضعافنا. دعونا نتمحص مضمون "الخطاب البديل" الغامض/ الضبابي عند رئيس "القائمة العربيّة الموحدة - الحركة الإسلامية الجنوبيّة"، الدكتور منصور عبّاس، ونفحص مدى تباينه عن مفهوميّة القائمة المشتركة التي أظهرت معقولية "نجاعتها" في تحقيق إنجاز غير مسبوق من عدد المقاعد في الكنيست، وحضورها في المشهد السياسي والإعلام كقوة سياسية يُحسب لها "ألف حساب وحساب"، أو في الحدّ الأدنى لا يُستخفّ بها على الإطلاق بحسب مُنظّريها وأنصارها.

الفهلويّة/ الشطارة في العمل السياسي والبرلماني

مفهوم الشذوذيّة السياسيّة في سياقنا الحالي يتجمّل بحمولة دلاليّة سلبية على السطح في اللغة المعياريّة، فالشذوذ هو السلوك والمواقف التي تنزاح عن طريق الأسوياء الذين يمثلون ذهنيّة نمطية القاعدة الطبيعية المُتوقعة؛ هو التغريد خارج السرب والانحراف عن المسار الطبيعي لخطاب التيار المركزي وأيديولوجيته. فالانضواء تحت رايات الأحزاب الصهيونيّة وتذويت مفردات قواميسها الذهنيّة المُشوهة للإنسان الفلسطيني/ الإنسانة الفلسطينيّة من قبل أفراد عربيّة ومجموعات مُتحمسة تحت مظاهر التأثير العملي المباشر في حال انضمامها للكنيست، مثلا، هو بمثابة القفز على المصالح والحقوق المدنيّة في الحد الأدنى، والحقوق القوميّة للجماهير العربيّة الفلسطينيّة في الداخل في الحد الأقصى. بعبارة أخرى، المنظور الانتهازي والمضلل لا يُشكّل بوصلة لطموحات الجماهير، ولا يتعدّى إلا أنانيّة ضالة توظّف في مشروع مضاد لتشكل الوعي للذات/ الأنا الجَمْعيّة الفلسطينيّة.

أما الشذوذيّة السياسيّة بظلالها المجازيّة/ الاستعاريّة، فتَتَمظهر بقراءات وتأويلات براغماتيّة - واقعيّة تتعارض والقاموس الذهني للديمقراطية الحديثة الأصيلة، الذي يتميّز بروح العقلانية والتنويريّة والتقدميّة وقيم الليبيراليّة وحقوق الإنسان. إنّ موقف ونهج منصور عبّاس السياسي والبرلماني لا يمكن له أن يطير بجناحين يكسوهما ريش التضاد والتعارض في أي فضاء منطقي واعد: من جهة، يسوّغ انفصاله عن "المشتركة" على أساس انحراف الأخيرة عن المحافظة القيميّة للمجتمع العربي وعقيدته الإسلاميّة، متمثلا بقضية المثليين، ويُشرعِن إمكانية دخول ائتلاف مع اليمين (المتطرف) لتشكيل حكومة مستقبليّة حتى برئاسة حزب "الليكود" بنيامين نتنياهو، إذا كان دخول الائتلاف يضمن تحقيق المصالح المدنيّة للمواطنين العرب، من جهة أخرى.

يُمارس عبّاس "الفهلويّة" بالملعب السياسي بطابة لا تُحِرز إلا الأهداف الذاتيّة. فأسلوب وتكتيك لعبه يقبل مبادئ الديمقراطيّة ولكنه ينتقص من تشكيلتها الحقوق الفرديّة والقيم الليبيراليّة، والأخطر من ذلك يستنفر باختيار لاعبي تعزيز مدعومة بعقليّة الحمولة وذهنيّة معادية للخطاب الوطني/ القومي. نتساءل هنا؛ ماذا كان عبّاس سيختار لو اتضح مثلا أنّ الحزب الفائز بالانتخابات القريبة قائده يميني مثليّ: المحافظة القيميّة للمجتمع أم البراغماتية الانتهازيّة المتجليّة في دخول الائتلاف الذي يضمن تحصيل بعض الميزانيّات، وتحقيق بعض المشاريع لجمهوره؟ وهل كان سيقبل الطِبابة على يد طبيب عربي مثليّ، لو كان هذا الطبيب هو الوحيد القادر على إشفائه من مرض عِضال؟ المجتمع المنفتح العصري يميّز بين الفضاء العام والفضاء الخاص. فالأخير يكفل الخصوصيّة بكامل تَمَظهراتها للفرد، والأول يضمن توظيف المنطق، والعلم، والفلسفة، والتكنولوجيا في تشكيل الخطابات والمؤسسات التي تدير كل تَمثّلات الإنسان/ الإنسانة باتساق وموضوعيّة. ليس هناك مفهوميّة آحاديّة، قَبْليّا، للخير، للجمال، للحقيقة وسائر المفاهيم المثاليّة التي يتسع لها العقل والفكر.

تهافت أي خطاب سياسي لأي حركة دينية في سياقنا المحلّي

الوعي بالمصير المشترك هو عنصر مُشكّل في خطاطة الهويّة الجامعة للفلسطينيين العرب، الذين تُنسَب خميرتهم ومِلحهم للحضارة الإسلاميّة، من جهة، وذوقهم المنفتح على الحضارات/ الثقافات الإنسانيّة المتنوّعة، من جهة أخرى.

من يتبنّى خطابا سياسيا إقصائيا لمجموعة على أساس متغيّر الدين، فهو يتخلّى بشكل واعي عن المركبات البنيّويّة/ الجوهريّة المُكملّة لهكذا هويّة جامعة/ شاملة/ كليّة في صيرورة نضالها وتحقيق ذاتها الراقي، ويُفرّط بقيمة الانتماء والهويّة الجامعة لكرامة الإنسان/ الإنسانة الفلسطيني/ الفلسطينيّة، وبالأخير يخدم مشاريع التسيّد علينا (من حيث يدري أو لا يدري). التعدّد العقائدي، بالمحصلة، مصدر إثراء في توسيع آفاق الرّقي بالهويّة الجامعة. أي اختزاليّة لِـ"هكذيّة" هويّتنا تُخفِق في التمثيل الأصيل ولا تمرئي مائيّتنا وناريّتنا. والأخطر هو فتح الشبّاك المنطقي لقبول ضمّ مفهوم الديمقراطية واليهوديّة بتصوّر الدولة، وأقصاؤنا كـ"لايهود" من رحم فردوسنا الوطنيّ. لا اعتدال ولا وسطيّة حيث يقيم مبدأ الاستقطاب وعدم جمع ما لا يُجمع أو عدم طرح ما لا يطرح. ففي تراتبيّة هويّتنا الجامعة، نحن في المقام الأول فلسطينيّون، وفي المقام الثاني والأخير عربٌ، وفي المقام الصِفري المُتعالي ننتمي الى كينونة الإنسان/ الإنسانة بالمطلق. متغيّرات وعوامل ومعايير وصفات مميّزة أخرى تندرج في مدى/حيّز الذوق والخصوصيّة الذاتيّة لا غير.

منطق البيان والتبيين

قد نتفّهم صوفيًّا أو صوفيّة تعتقد بصوابية "وحدة الوجود" على شاكلة النفّري أو ابن عربي، ولذا تبنيها للمنطق والأنطولوجيا الأحْدَوي معقول كل المعقوليّة، ففي الوقفة أو الرؤية يستوي الكشف والحجاب على قول النفّري، وتتجلى الذات الإلهية بما لانهاية من التجليّات، لأنّ لا موجود إلا الله: فهو الأول من جهة، والآخر من جهة أخرى وهكذا. فمفهوم استواء الأضداد والمنطق الآحادي يتعارض ويتضاد مع المنطق الأرسطي للتيّار المركزي للإسلام، لأنّ الأخير عماده التمييز بين ثنائيان مثل حقيقي وباطل، الخير والشر، النار والجنة، الإيمان والكفر وإلخ. كي نقيّم إعمال العقل والفكر في الشأن السياسي بمجتمعنا العربي الفلسطيني الذي يتعلق بتمثيله البرلماني في الكنيست، أيّ سرديّة أو خطاب لحركة أو حزب يتوجّب أن يتمتّع بدرجة عاليّة من الدقّة والبيان من أجل رفع مستوى مصداقيّته، وتعزيز درجته الإقناعيّة في سياق المُحاججة وكشف الأدلّة لدعم الرأي الراجح. يقينيّا، سيتصدر النهج السياسي "البراغماتي –ا لواقعي" لدى منصور عبّاس، الذي يختزل النضال إلى الخطاب المدني ووضع "التمثيل المُؤثر" بسلّم الأولويات أو المصلحة الجماعيّة العليّا، والذي يتعارض والنهج "الشعاراتيّ" عند الآخرين (مثل "الجبهة") على حد تعبيره، وصَوْن طبيعة المحافظة القيميّة التي يتّسم بها المجتمع العربي (الإسلامي) في البلاد حسب تشخيصه.

لنفترض جدلا أنّ منظور عبّاس في أقصى التفكير الإيجابي المتفائل وتطبيق مبدأ الصدقة، فعلا، صادقٌ وحقيقيٌّ. ما هو الدليل الراجح الذي سيُحاجج به أمام الفرقاء المنتقدين؟ المقولة الفهلويّة في التكتيك السياسي لعبّاس ترتكز على عدم التعويل أو الرهان على اليسار الإسرائيلي كما اعتادت "الجبهة" أن تصطف معه تاريخيّا، مثلا. فموقف "لسنا في جيب أحد" وضمان خدمة مصلحة الجماهير العربيّة في عملية صنع القرارات ذات الصلة، يتجلّى في دعم حكومة إسرائيلية يمينيه حتى برئاسة بنيامين نتنياهو، ومجرد التمييز بين اليمين واليسار ليس إلا وَهْما ومجرّد أضغاث أحلام في سياق "توزيع" الأحزاب السياسيّة الإسرائيلية اليهوديّة. حسنا، وماذا بعد/ أيضا؟ هل يُخبئ عبّاس أوراقه الرؤيويّة قريبا إلى صدره حتى يضمن التوقيت المثالي الأقصويّ حتى يُعلن لحظة الانفجار الكبير لانتصاره على الأقّل على فرقاءه، أم أنّ إستراتيجية الغموض واللبس في الطرح مقصودة بشكل منهجي، حتى يُلهي المُؤولين والمُفسّرين ويُترَك على راحته لـ"تَّكْتَكَة" والتّخطيط لما هو في صالح الأمّة، أم أنّ هرولة التطبيع للأنظمة العربية الرجعيّة مع إسرائيل هي المقياس في حِياكة الاتفاقات بالسرّ أوّلا، والانبطاح لاحقا أمام العَمّ الجديد يسرائيل، لأنه يضمن الحماية من غضب الشعوب، أم أنّه يخشى الملاحقة السياسية من قبل المتنافسين، أم أنّ هناك ضغط عليه من قبل القيادة العامّة للحركة الاسلاميّة تدفعه الى التظاهر الإعلامي كي لا يُهمش/ يُحيَّد من قبل منافسيه في "المشتركة" أم...؟

يجب التذكير أن أيّ مضمون لأيّ طرح أو مقولة حَريّ بأن يرقى إلى درجة الدقة والبيان، حتى يتسنّى فحصها أو اختبارها. لا يُعوّل على طروحات غيبّة في الباراديغما العقلانيّة الراهنة.

أمّا بشأن مفهوم المحافظة القيميّة للمجتمع الفلسطيني (الإسلامي)، فلا يسعنا إلا أن نُذكّر أنّ القيود البراغماتية للمجتمعات في سياق القرن الواحد والعشرون، تُحتّم تجاوز منظومات المجتمع التقليدي المحافظ المُغلق، لأن بيت الوجود وصاحبه أو صاحبته في صيرورة ديناميكيّة منسابة يأبيان الثبات والديمومة. الفكر المُحافظ يمجّد الوضع القائم/ الواقع الراهن كي يضمن مصالح وكلائه وبقاء سلطتهم.

ألم يتساءل أنصار الفكر المحافظ ما إذا تفشي العُنف، انتشار الخاوة، احتقار قيمة الإنسان الآخر التي تستبيح قتله، غياب السلطة والقيم لفسادها وافلاسها بمجتمعنا، والنظرة الدونيّة للذات بالمقارنة مع المجتمعات المنفتحة، وتذويت ذهنيّة العبودية والخضوع والاستسلام، وحتى فقدان السيادة على الجسد له صلة - ولو غير مباشرة - بالخطاب الديني المحافظ، الذي يعززه الاستعمار وامتداداته في الأنظمة الرجعيّة لتقويض الخطاب العلماني التّنويري التّقدمي الوطني/ القومي، الذي يَجنح إلى الحريّة والاستقلال والسيّادة. مادة للتفكّر كأضعف الايمان.

ملاحظة إجماليّة مقتضبة

شعبويٌ مَنْ يتكلّم باسم الشعب، و"ملعون أبو الشعب" المُتخيّل الذي لم يتشكّل بعد بسبب غياب الوعي وتقديس صفرية الأنا المُتضخمة، التي تُجلّي النرجسيّة الاستعراضيّة والنجوميّة المزيّفة بالإعلام على كل تشكلاته وتمثلاتها عند معظم النوّاب العرب. هدم الذات وهدم الآخر(ين) يتمفصلان ويتعالقان في شبكة البراغماتيّة - الواقعيّة المنقوصة للشرط الإنساني - السياسي. حان زمن اجتراح رؤية مستقبلية واعدة تتجاوز وتتعالى على الخطاب السياسي المُهيمن، الذي يُحاجج بأنّ "خلاص" فلسطينيي الداخل يَتَحصَّل عن طريق المشاركة في الانتخابات الإسرائيليّة. ألا يكفي تجربة العقود المنصرمة على تفنيد ودحض هكذا خطاب وتنظير؟

التعليقات