26/06/2023 - 18:35

باسل غطّاس: في أوراق أسير من أجل الأسرى

أن تتعرّف إلى يوميّات الأسرى بعيون أسير من الداخل مسألة في غاية الأهمية؛ من ناحية، فإنّ تجربة باسل أثبتت أنّ الأسر هو أكثر ساحة ومساحة يتساوى فيهما الفلسطينيون على مستوى الواقع والوقائع معًا

باسل غطّاس: في أوراق أسير من أجل الأسرى

باسل غطّاس، من حفل إشهار كتاب "أوراق السجن"

"أنت الأسير الوحيد في فلسطين الذي سُجِن من أجل الأسرى"؛ كان هذا أدقّ وأصدق تعريف لحكاية أسر باسل غطّاس، وقد قالهُ أسير سابق على باسل وباقٍ بعده، هو الأسير صدقي حامد التميمي ابن مدينة الخليل، فلن ينصف باسل غطّاس بخياره منذ أن قرر إدخال أجهزة هواتف نقالة لأسير، إلا أسير يعرف جيدًا ما الذي يعنيه التواصل بوصفه غريزة ثاوية تحت جلد كل أسير يقبع في سجون الاحتلال لإعادة إنتاج جدوى الصبر والحياة.

والأسرى، على اختلاف فصائلهم ومشاربهم، هم من قطعوا الطريق على كل محاولة أرادت تأنيب الرفيق باسل غطّاس على فعله الوطني والإنساني، للحدّ الذي عاب عليه البعض فعله ذلك، لأنّه كان نائبًا في البرلمان، بينما ما تتضمنه الأوراق من مواقف ومواجع وطرائف من يوميات الأسرى في الأسر، كفيلة وحدها بردّ الاعتبار لباسل غطّاس كممثلٍ سابق لأبناء شعبه، وأسير في الوقت نفسه؛ فالكتاب لا يورّق للأسرى بعيون باسل، بقدر ما يورّق لباسل بعيون الأسرى. والذي علينا تذكّره دائمًا، أنّ أبا سهيّلة حين أقدم على خياره في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2016، بمساعدة الأسرى مستغلًّا موقعه كنائب في البرلمان، كان يعرف سلفًا الثمن الذي يترتّب عليه دفعه في خياره، ومع ذلك فَعل. ووحده من تحمل ومعه عائلته وأحبّاؤه مسؤولية فعله الجميل. وهذا للأمانة والتاريخ.

الكتابة بوصفها استردادًا للزمن

لأوراق كتاب "أوراق السجن" حكاية بذاتها غير الحكايا والخبايا التي تتناولها الأوراق في سطورها عن الأسر،، إذ تنبّه غطّاس إلى ضرورة كتابة يومياته منذ قبل يومه الأول في السجن، وقد داوم على كتابتها رغم القيود ومحدودية إمكانيات الكتابة، فضلًا عن التشويش وظروف التضييق التي كانت تتعمّدها سلطة السجون تجاهه وتجاه الأسرى عمومًا، ما دفع الأسرى أنفسهم، لمؤازرة غطّاس في صنع كتّابة يدوية خاصة به أهداه إياها الأسير وليد دقة، مكّنته من تثبيت بلوكات الورق عليها، كما ساعده رفاقه من الأسرى في تفريغ نصوصه المكتوبة، وحفظها بنسخ إضافية لديهم، خصوصًا بعد أن صادرت قوّات وحدة "درور" التابعة لسلطة السجون كل المواد التي كتبها خلال عامه الأول بعد نقله من سجن رامون إلى سجن هداريم، إذ تحفّظت مخابرات السجن على النصوص مدة خمسة أشهر كاملة، ولم تُعاد لغطّاس إلا بعد أن توجّه للمحكمة، بالتالي، ليست كتابة الأوراق عن معاناة فقط، إنما الكتابة بذاتها كانت أحد أوجه تلك المعاناة.

غلاف الكتاب

غير أن غطّاس داوم على كتابتها وحمايتها، ثمّ استردادها بعد تحرره، لأن سلطة سجون الاحتلال اشترطت عليه تسليم دفاتر نصوصه قبل مغادرته السجن، ما جعل تحرره من سجنه منقوصًا، إلى أن أبلغته سلطة السجون بالحضور إلى مجيدو لاستلام أوراقه، وكانت كاملة كما هي اثنا عشر دفترًا. ليستردّ غطّاس سنتين كاملتين من عمره قضاها خلف قضبان سجون الاحتلال، وليست الأوراق، بل التجربة كلها، هي ما كان يثابر غطّاس على حمايته من الضياع.

من داخل الأسر بعيون أسير من الداخل

كثيرة هي التفاصيل والمواقف التي تحويها أوراق كتاب غطّاس الذي جاء في عَشرة فصول أساسية، عن فصول عِشرة معاناة الأسرى من عزلٍ وحرمان وتنكيل في السجون، وتجربة غطّاس في السجن التي قضاها لعامين، ما بين مطلع تموز/ يوليو 2017 وأواخر أيار/ مايو 2019، تنقّل فيها ما بين خمسة سجون وسبعة أقسام، رغم تواضعها مقارنة بتجارب أسرى آخرين قضوا ومنهم ما يزال يقضي عقودا من الزمن في سجون الاحتلال، إلّا أن أهميّتها تكمن، أوّلًا في هوية كاتبها بوصفه من الداخل الفلسطيني المحتل عام 48، وابن الحركة الوطنية فيه، فضلًا عن موقعه الذي كان يشغله إبان دخوله السجن كسياسيّ ونائب في البرلمان، ممثلًا عن حزب التجمع الوطني الديمقراطيّ؛ فملفّ الأسرى كان أحد الملفات التي شغلت بال باسل غطّاس قبل أن يصبح واحدا من أبناء هذا الملف، ما سهّل عليه ذلك التأقلم مع حياة الأسر وعالم الأسرى.

أن تتعرّف إلى يوميّات الأسرى بعيون أسير من الداخل مسألة في غاية الأهمية؛ من ناحية، فإنّ تجربة باسل أثبتت أنّ الأسر هو أكثر ساحة ومساحة يتساوى فيهما الفلسطينيون على مستوى الواقع والوقائع معًا، والأهمّ هو أنّه ما من ورقة من أوراق الكتاب، إلا وتحوي في ذيلها حاشية تعرّف بأسير وسبب أسره، وخصوصًا أسرى الداخل الذين جاء غطّاس على ذكرهم في أكثر من سياق في كتابه، ما يذكّرنا بسؤال: لمَ وقع أسرانا من ذاكرتنا نحن فلسطينيو الداخل؟

تمامًا، مثلما يجري تهميش ملف الأسرى الفلسطينيين عمومًا في السنوات الأخيرة، إلّا أنّ أوراق باسل غطّاس هي محاولة لإعادة الاعتبار لهذا الملفّ عبر قصّة حكايات معاناة أسرى من شتّى مدن وأرياف تراب فلسطين التاريخيّة.

يتعرّف المرء إلى العالم في إقامته، أكثر مما يتعرف إليه في تنقّله. وصاحب أوراق السجن، لا يتحدّث عن معاناته في أوراقه إلّا كمقدّمة للحديث عن معاناة وسيرة أسيرٍ آخر؛ ففي اللحظة التي ينشغل بال أبو سهيلة مثلًا على عائلته - سوسن زوجته ووحيدته سهيلة - بعد زيارتهما له أو تأخيرهما عن زيارته، يُحيلك غطّاس إلى حكايا وخبايا معاناة أسرى آخرين مقطوعة عنهم الزيارة منذ سنوات طويلة أصلًا. مثل الأسير إبراهيم حامد (أبو علي) القياديّ في حركة حماس، والذي طورد منذ سنة 2002 واعتقل في سنة 2006، ومنذئذ إلى يوم كتابة الأوراق عنه، لم يزر حامد أحد، بعد طرد زوجته ومعها ولديهما إلى الأردن.

ولمّا كان رحيل بثينة أخت غطّاس ثقيلٌ عليه في أسره، دون أن يحظى بفرصة المشاركة في تشييعها ووداعها الأخير، كان هناك عشرات الأسرى ممن واسوا غطّاس في مصابه، وقد فقدوا من قبلهِ أمهاتهم وأبائهم وهم خلف القضبان دون أن يُمنحوا حق وداع ذويهم ولو بنظرة.

وأكثر من ذلك، فقد أشار غطّاس إلى قصص أخرى لأسرى يُندى لها الجبين، تخيّل مثلًا حكاية الأسير خالد الحلبي ابن مدينة بيت لحم الذي حرمه الأسر من الاقتران بخطيبته مدة تجاوزت 15 عامًا، ولم يفترقا، إنّما صممّا على الزواج، وعقد قرانهما في السجن. حيث كان أوّل قران تعقده كنيسة أرثوذكسية في فلسطين بحضور العروس وغياب العريس بسبب أسره.

وهذا ينسحب على جُملة من وقائع معاناة وجبروت الأسرى، والتي تدفع نحو سؤال واقعنا نحن مع ملفهم،، وشكل تعاطينا السياسيّ فيه من جانب، وواقع الحركة الأسيرة التنظيميّ والسياسيّ الذي صارت عليه الحركة من جانب آخر. خصوصًا وأن غطّاس أفرد فصلًا خاصًّا متصلًا بالمسار التعليميّ والتثقيفيّ للأسرى داخل السجون، وتراجع هذا المسار بوصفه تقويضًا لفاعليّة الحركة الأسيرة ودورها في السنوات الأخيرة.

ومع ذلك، يظلّ أمل الأسرى في الحياة قادرًا على أن يُطلّ برأسه في كل ورقة من أوراق الكتاب، رغم ظُلمة السجن وظلمهِ، حيث النوادر والطرائف، التكافل والمواقف، وحكاية النُطف، أسطورة تهريب الحياة، كما يوّرث الأسرى بعضهم البعض المقتنيات والتقنيات معا، المقتنيات كتذكار، والتقنيات كإصرار للتغلب على فعل السجن والسجّان.

قاموس الأسر

لا يمكن لشيء ما أن يحيلك لتحسّس عالم الأسر وحياة الأسرى فيه، كما يمكن لقاموس الأسرى أن يفعل ذلك، والذي نعنيه بالقاموس، هو تلك المصطلحات والتعابير المتداولة بين الأسرى عن إيقاع حياتهم اليوميّة داخل السجون، وقد داوم غطّاس على تناولها وتوضيحها في أوراقه، كما لو أنّ تبنّي قاموس الأسر، هو التذكرة التي تمنح كلّ أسير قادم دخوله عالم الأسر فعلًا، فــ"الفورة" والتي تعني استراحة تنفّس الأسرى اليوميّة في ساحة داخليّة في السجن، كان أكثر تعبير تكرّر ذكره في كتاب أوراق السجن، وذلك لأهميّة هذه الفسحة والمساحة بالنسبة للأسرى يوميًّا. وهي فورة، لأنها من الفوران، أي تلك اللحظة التي يتوق فيها الأسير وتفور غريزته للخروج من حَشره في غرفته نحو فضاء أرحب وأوسع قليلَا.

غنيٌّ هو قاموس الأسر الذي نحته وتوارثه الأسرى منذ عقود في سجون الاحتلال، وما قد يلفت قارئ الأوراق هو تعبير "تحميضة الفيلم" الذي ما يزال يتداوله الأسرى إلى يومهم هذا، إذ يعتبرون أنّ الأسير بعد كل زيارة من أهله له، يدخل مباشرة في حالة استرجاع لشريط لحظات الزيارة والحديث والأخبار حول العالم الخارجيّ الذي دار فيها، في حالة تشبه العمليّة التقليديّة تحميض الصور واستخراجها بعد التقاطها، وربّما جيل مطلع الألفية الثالثة، لا يألف مثل هذه المصطلحات، بعد كلّ هذا التطور في عالم التقنيّة وسطوتها علينا في العقود الأخير.

على سيرة الزيارة، وأهميتها بالنسبة للأسير، فقد أشار غطّاس إلى ملاحظة ملفتة عن الشكل الذي يعبر فيه الأسرى في قاموسهم عن الزيارة، إذ لا يسأل الأسير أسيرًا آخر إذا ما قام أحدٌ بزيارته، إنما يسأله بصيغة: هل زُرت أهلك اليوم؟ وليس: هل زارك أهلك اليوم؟ إذ يزور الأسرى ذويهم وليس العكس، وذلك في محاولة منهم عبر قاموسهم هذا، على تخيّل إمكانية قدرتهم على الفعل، تحديًّا وتمردًا على فكرة وقوعهم الدائم تحت فعل الأسر.

شاعِر سعيد

يظلُّ كتاب "أوراق السجن" تجربة وجدانيّة يرصد فيها أبو سهيلة الأسير نفسه ونفسيّة الأسرى معًا، والكتابة عن الأوراق ربّما تتطلّب كتابة أوراق عنها لناحية سياسات سُلطات سجون الاحتلال وممارستها على أسرانا في سجونهم، غير أنّ نبرة باسل غطّاس المُشعرنة في دفقاته الشِعرية بالفصحى والعامية التي ألحق بعضها في أوراقه، والتي كان أكثرها وجعًا، تلك التي كتبها بالعامية لوحيدته من خلف القضبان في عيد الفصح:

يا بِنتي فيه كْثيرْ عِندي بَعِدْ

بَس مُشْ طالِع مَعي الحَكي

ما بِدّي تِتأخَّري عَ العيدْ

وإمِّك الناطرَة بَرَّة إجَت عَ الوَعِد

عَشان تِحتفِل مَعانا مِن بعيد

مُش وَقتهُ أحكيلِك عَن وَجع قَلبي

وقَدّيش تِعِب بالي، لأنّي بعيد

وما غادِر أضُمِّك

أنا ناقِص حَياة

مِثِل نَعنَعة ذابلٍة بعِزِّ الشَّمِس

بتِستَنّى نُقطٍة مَيّ

عَشان تفتِّح وتِضحكلِك منِ جْديدْ

اليومْ يوم العيدْ

ما بدّي غيرْ تحِسّي إنّي مَعِكْ

ولأني حامْلِك بقَلبي

حَتّى جُوّا السِّجن

شاعِرْ سَعيد

التعليقات