09/10/2023 - 10:53

حرب دمار شامل وتحريض مفتوح

بما أنّ التقديرات لا تزال أوّليّة، واتّضاح معالم المرحلة القادمة والتوقّعات لا يزال بعيد المنال، فإنّه من الواضح أنّنا بصدد حرب واسعة النطاق تدميريّة إلى أقصى الحدود، من الجوّ والبحر تمهيدًا لاجتياح برّيّ.

حرب دمار شامل وتحريض مفتوح

(Getty)

استكملت الحكومة الإسرائيليّة بإسناد من المعارضة الصهيونيّة تحضير الرأي العامّ لحرب تدميريّة شاملة قد تكون غير مسبوقة، وتحرّكها روح الانتقام الناتجة عن حالة الانهيار العسكريّ ببعديه الاستخباراتيّ والعمليّاتيّ ونكسة الروح القتاليّة، وعن روح الهزيمة الّتي سادت إسرائيل مجتمعًا وجيشًا وحكومة.

تحوّل الإعلام إلى إعلام حرب يحمل رسائل دمويّة خطيرة وعلنيّة من سياسيّين ومحلّلين وأكاديميّين، لا تطبيق لها إلّا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة وحتّى جرائم إبادة، كما خصّص حيّزًا من مساحات التحريض للجماهير العربيّة الفلسطينيّة ومؤلّبًا للجمهور اليهوديّ ضدّها قبل أن تحرّك ساكنًا، فكان إعلان حالة الحرب لأوّل مرّة منذ خمسة عقود، وتوفير الغطاء الدوليّ للقيام بالحرب على غزّة، وقد يتّسع نطاقها إلى الجبهة الشماليّة، ولا يمكن التكهّن بمجرياتها ولا بنتائجها لما فيها من إمكانيّة تورّط إسرائيليّ أكبر من الإخفاق المدوّي العسكريّ الاستخباراتيّ والعمليّاتيّ الّذي وقعت فيه حتّى الآن، والّذي انحفر دون شكّ في الوعي والذاكرة الإسرائيليّة والفلسطينيّة والعربيّة على السواء.

بما أنّ التقديرات لا تزال أوّليّة، واتّضاح معالم المرحلة القادمة والتوقّعات لا يزال بعيد المنال، فإنّه من الواضح أنّنا بصدد حرب واسعة النطاق تدميريّة إلى أقصى الحدود، من الجوّ والبحر تمهيدًا لاجتياح برّيّ، وستكون الجبهة الإسرائيليّة الداخليّة فيها أيضًا مستهدفة بالمثل مع الفجوة الكبيرة بالقدرات.

ما تتميّز به إسرائيل اليوم هو ترسانة هائلة وجيش قويّ القدرات بأذرعه المختلفة وقوّة تدميريّة هائلة وبقرار سياسيّ مؤات لزرع أرض غزّة دمارًا وقتلًا، إلّا أنّ كلّ ذلك ليس كافيًا لصنع الانتصار، ويبدو أنّها فقدت القدرة الاستراتيجيّة على تحقيق الانتصار، وباتت في مرحلة من القصور وضمور وزنها وأثرها الإقليميّين، وفقدت من مناعتها أمام محكمة الجنايات الدوليّة، كما تحظى بدعم دوليّ رسميّ كبير من الولايات المتّحدة وأوربا وحتّى من دول عربيّة وإسلاميّة، يعمل وفقًا لمعايير فصل عنصريّ معولمة، ويميّز بين الضحايا على أساس عرقيّ، إلّا أنّ الدعم الدوليّ لا بدّ أن يكون محدودًا بالوقت وبالمستجدّات وبتوازات القوى، وحين يهدأ غبار المعركة، سوف تجد نفسها أمام أعمق أزماتها الّتي تبدو الأزمة العميقة للغاية والناتجة عن التشريعات متواضعة أمامها ولا بدّ أن تكون لجنة تحقيق رسميّة يتمّ فيها تراشق التهم بين المستويين السياسيّ والعسكريّ وحصريًّا الاستخباراتيّ، وستنظر في فقدان الثقة التامّ من قبل سكّان المستوطنات في "غلاف غزّة"، وكلّ من كان في المنطقة، حيث غاب الجيش وغابت الحكومة وغابت الشرطة وساد الشعور بأنّ الناس، رغم استجداءاتها، لم تتلقّ سوى صدى صوتها، وهو ما قد يضع حدًّا نهائيًّا لمفهوم جيش الشعب، وقد يطيح بالحكومة وقادة الجيش.

الشعور العامّ في المجتمع الإسرائيليّ هو الذهول والإهانة والهزيمة الداخليّة العميقة والتفكّك في مرحلة مستدامة، لا يتوفّر في إسرائيل فيها أيّ أفق سياسيّ نحو حلّ لجذور الصراع والاحتلال والعنصريّة والتنكّر للحقوق والحصار، وما دور المؤسّسة الإعلاميّة والسياسيّة، سوى تحويله إلى مشاعر الانتقام من كلّ ما هو فلسطينيّ، وأينما كان، والمجموعة الأسهل والأكثر مناليّة للعنصريّة وميليشياتها الإرهابيّة، هم الجمهور الفلسطينيّ فيما يسمّى مناطق ج في الضفّة الغربيّة، والجمهور الفلسطينيّ في الداخل، وحصريًّا خارج التجمّعات العربيّة والحيّز العربيّ.

الأرضيّة لحملة التحريض الحاليّة هي ابنة سنتين على الأقلّ، وما يحدث في هذا الصدد من حملات تحريض انطلقت في الساعة الأولى بعد حملة طوفان الأقصى، تحذّر المجتمع العربيّ الفلسطينيّ من أيّ تظاهرات وأعمال احتجاج، معتبرًا الإعلام الإسرائيليّ إيّاهم بأنّهم طابور خامس وجبهة داخليّة معادية وخطر على أمن الدولة، وخلال ساعات من ذاك، بدأ تظهر النداءات على صفحات التواصل الاجتماعيّ، والّتي تدعو إلى تنظيم ميليشيات ومجموعات يهوديّة مسلّحة بالسلاح الحيّ، وحتّى أدوات القتل المختلفة، والدعوة إلى قتل أو اختطاف كلّ عربيّ يصادفه أعضاء هذه التشكّلات الدمويّة، وفي المقابل، خرجت دعوات جوهرها "هذا أوان نكبة ثانية"، نشرها على صفحته على تويتر يانون ميجال، النائب السابق وأحد الإعلاميّين البارزين، وصاحب سجلّ عسكريّ في وحدة الأركان الإسرائيليّة.

ساحة الواتساب والفيسبوك

من استخلاصات الجيش والمؤسّسة الأمنيّة والسياسيّة من هبة الكرامة 2021، كان اعتبار العرب الفلسطينيّين وحصريًّا في المدن الساحليّة والنقب جبهة حرب معادية، وإمعانًا في ذلك، كانت الحكومة في بداية الشهر الجاري، بصدد إجراء تعديل لإتاحة المجال للشرطة بالاستخدام الواسع للرصاص الحيّ ضدّ المتظاهرين العرب، وذلك لإلغاء التوصيات المحدّدة لاستخدام الرصاص الحيّ، والّتي وردت في تقرير لجنة أور الّتي أقيمت في أعقاب هبة القدس والأقصى 2000، ومن أجل توفير البنية القانونيّة لقمع دمويّ عندما يأتي الوقت، ناهيك عن أنّ هذه الحكومة ما كان لها لتتشكّل لولا القوّة الّتي راكمها حزبًا الصهيونيّة الدينيّة والقوّة اليهوديّة، بحيث شكّل هذا الأخير المستفيد الأكبر انتخابيًّا من مواجهات هبة الكرامة، وذلك بتأليب المجتمع اليهوديّ والأنوية التوراتيّة حصريًّا، وإقامة ميليشيات دمويّة إرهابيّة لمحاربة الوجود العربيّ الفلسطينيّ في المدن الساحليّة وبئر السبع.

حتّى الآن، شهد التعامل الإسرائيليّ مع مساحات وسائل التواصل الاجتماعيّ عدّة مستويات؛ التحريض على العرب، الدعوات للتنظيم على شكل ميليشيات يهوديّة مسلّحة في كلّ بلدة ونداءات لأعمال خطف وقتل، وفي المقابل، فرض رقابة شاملة ومشدّدة على وسائل التواصل الاجتماعيّ، وحصريًّا على مجموعات الواتساب والمراسلات وعلى الفيسبوك، وكلّ ما ينشر من مواقف أو تعابير أو صور، يضاف إلى ذلك قدرات الأجهزة الأمنيّة الّتي طوّرتها في أعقاب هبة الكرامة لتوفير إمكانيّة إغلاق إمكانيّات استخدام الواتساب لجمهور بأكمله، في ظلّ إعلان حالة حرب باتت سارية المفعول، ويضاف إليها إعلان حالة طوارئ مدنيّة، والّتي تمنح الشرطة صلاحيّات شبه مطلّقة في الاعتقال، والمداهمة والتفتيش وإطلاق النار عند الضرورة، ووفقًا لاعتبارات ضبّاطها الميدانيّين.

فعليًّا بدأت اعتقالات لمستخدمي ومستخدمات الواتساب والفيسبوك بتهم معدّة مسبقًا بالتحريض والتماثل مع أعداء إسرائيل، ولم ينحصر الأمر بالشرطة، بل طال الجامعات، حيث قام عميد جامعة حيفا بإيقاف دراسة إحدى الطالبات إلى حين التحقّق من أنّها تماثلت مع العدوّ من خلال تغريدة لها.

ما تؤكّده التطوّرات العدوانيّة والعنصريّة، هو أنّ جماهير شعبنا الفلسطينيّ مستهدفة، وهناك من يسعى إسرائيليًّا إلى إشعال جبهة اقتتال يفرضها عليها، وذلك تنفيذًا لمخطّطات ومآرب، وقد نشهد اعتداءات جماعيّة مدبّرة، وهذا ليس غير متوقّع، وباعتقادي بأنّ الناس وبناء على الفطرة السياسيّة، تعرف بالمجمل كيف تتكافل وتتجاوز مساعي إيقاعها في أيّ فخّ عنصريّ لاستدراجها إلى ساحته، بل إنّ هذه الجماهير المهدّدة جماعيًّا وفرديًّا، بحاجة إلى حماية ولفت النظر فلسطينيًّا وعربيًّا ودوليًّا وحتّى إسرائيليًّا إلى المخاطر المحدّقة بها ضمن المخاطر المحدقّة بكلّ الشعب الفلسطينيّ، ولن تكون أيّ حماية إن لم تكن ذاتيّة وواعية تحول دون الوقوع في أحابيل ما يحاك ضدّها، وتواصل نضالها السياسيّ، وهو طريقها الكفاحيّ التاريخيّ نصرة لبقائها وصمودها وتطوّرها ونصرة لكلّ شعبها وللحقّ الفلسطينيّ.

التعليقات