07/02/2024 - 17:33

"هل نستطيع العيش مع هؤلاء؟"

جميعنا نتشارك في هذا الألم العظيم، وهذا الشعور بالغموض إزاء ما يمكن أن ينتج من تداعيات قريبة أو بعيدة عن هذه المقتلة الجماعيّة وعن هذا الصمود الأسطوريّ لأهل قطاع غزّة، والّتي تدور، يا للأسف، بتواطؤ مكشوف ومستتر...

دبّابة إسرائيليّة في قطاع غزّة (Getty)

في خضمّ المقتلة الصهيونيّة المتواصلة، وجّه إليّ أحد المثقّفين الفلسطينيّين سؤالًا استنكاريًّا؛ هل لا زلت تعتقد أنّه يمكن العيش أو التعايش مع هؤلاء في دولة ديمقراطيّة واحدة؟ كان يقصد بهؤلاء أغلبيّة المجتمع الإسرائيليّ الساحقة، الّذي انبعثت فيه روح الانتقام المتوحّش، الّتي تغذّت من إرث توراتي جرى تأويله على نحو يشرعن الإبادة لشعب فلسطين؛ إرث تبيّن أنّه أشدّ رعبًا وأكثر تجذّرًا في هذا المجتمع ممّا تصوّر الكثيرون، وليس فقط في هوامشه. السؤال أو التساؤل مدفوع بالصدمة الناجمة عن انكشافهم لمجتمع ليس فقط مشبعًا بالعنصريّة، والكراهية، والفوقيّة، وهو أمر معروف، بل بالتعطّش لإبادة سكّان البلد الأصليّين، والشعور بأنّ حتّى الحلّ الوسط بات شبه مستحيل معهم.

بطبيعة الحال لا يستطيع من يتعرّض لعمليّة الإبادة على مدار اللحظة، أو من يبحث عن أشلاء ابنته أو ابنه تحت الأنقاض، أو من يتضوّر جوعًا، أو من يلوذ مرعوبًا من مكان إلى آخر طلبًا للنجاة، أو حتّى من يقاتل تحت الأرض وفوق الأرض، أن ينشغل بالقضيّة السياسيّة أو بالحلّ السياسيّ، ففي ظلّ المذبحة يبدو ذلك لهم ترفًا صرفًا. لا شكّ في أنّ وقف الإبادة وتوفير مقوّمات البقاء، والصمود هو الأولويّة.

إنّ ذلك السؤال الاستنكاريّ ليس صادرًا عن فرد، بل إنّه شعور عامّ ممتدّ في أوساط واسعة بين الشعب الفلسطينيّ، وازداد انتشارًا بعد حرب الإبادة. وهو تعبير عن صدمة نابعة من كون قيادات فلسطينيّة، ومثقّفين، وأوساط شعبيّة، كانت قد قطعت شوطًا مع مسألة التسليم بالوجود اليهوديّ الإسرائيليّ والتعايش معه، إمّا من خلال حلّ الدولتين، أو من خلال حلّ الدولة الواحدة. وبالنسبة لهؤلاء كلا الحلين بمثابة تنازل من السكّان الأصليّين، وليس عدلًا مطلقًا. لم يكن خافيًا على الفلسطينيّين التحوّلات اليمينيّة المتطرّفة داخل المجتمع الإسرائيليّ، ونزعة العداء المتعاظمة لدى أوساط واسعة منه تجاه الفلسطينيّين وحقّهم بتقرير المصير. وتجسّد هذا الانزياح في قتل حلّ الدولتين من خلال إقامة دولة للمستوطنين في الضفّة الغربيّة والقدس الشرقيّة، وإطلاق العنان لتوحّشهم ضدّ فلسطينيّي الضفّة الغربيّة، وتوطيد الحصار على قطاع غزّة، وتحويله إلى مخيّم تركيز شبهته الصحافيّة اليهوديّة الأميركيّة الحائزة على جائزة حنا أرندت للفكر السياسيّ، ماشا غيسن، في مقال نشرته في صحيفة أميركيّة في كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي، بالمخيّمات النازيّة الّتي أقامتها ألمانيا لليهود في أثناء الحرب العالميّة. كما تجسّد ذلك في تعمّق النزعة العدوانيّة ليس فقط ضدّ المواقف السياسيّة لفلسطينيّي 48، بل لوجودهم الفيزيائيّ المادّيّ.

كلّ ذلك وضع الجميع أمام حالة غير مسبوقة من اللايقين إزاء مستقبل مجهول، الّذي تكتنفه توقّعات لفصول أكثر رعبًا وأكثر شقاء. ولا يخفي الكثيرون من المثقّفين والنشطاء وصنّاع الرأي حيرتهم إزاء أيّ تجاه يسلكونه، أو أيّ أفكار سياسيّة يبشّرون بها. ذلك أنّ المشهد الماثل أمامنا يتمثّل في نظر المراقبين في العودة إلى المربّع الأوّل من الصراع الكولونياليّ في فلسطين.

جميعنا نتشارك في هذا الألم العظيم، وهذا الشعور بالغموض إزاء ما يمكن أن ينتج من تداعيات قريبة أو بعيدة عن هذه المقتلة الجماعيّة وعن هذا الصمود الأسطوريّ لأهل قطاع غزّة، والّتي تدور، يا للأسف، بتواطؤ مكشوف ومستتر من قبل أنظمة عربيّة بلغ منها الانحطاط كلّ مبلغ.

ولكن ليس هذا الجانب الوحيد للجوّ العامّ. هناك أيضًا تفكير آخر، جذريّ في توجّهه، منتشر في عموم الشعب الفلسطينيّ. أصحاب هذا التوجّه يستطيعون رؤية الكارثة الإنسانيّة وتداعياتها على حياة الناس في السنوات المقبلة، ولكنّهم يرون التأثير الإستراتيجيّ لهذه الجولة غير المسبوقة في حدّتها وجرأتها، وفي قدرتها على إعادة قضيّة الشعب الفلسطينيّ إلى الأجندة العالميّة، وإعادة الروح إلى خيار التحرّر الوطنيّ، وزجّ الكيان الصهيونيّ في خانة الأنظمة الإباديّة. ينبني هذا التفكير على مقولة إنّ إسرائيل تتعرّض لأوّل مرّة، وبعد كلّ الاختراقات للعالم العربيّ، والتقدّم التكنولوجيّ، لإمكانيّة الهزيمة، ليس من جيش عربيّ كبير، بل من حركة فلسطينيّة مسلّحة، محاصرة في شريط أرضيّ صغير.

يتولّد عن هذا التفكير ثلاثة توجّهات، أحدها تمثّل بفكرة حلّ الدولتين وهو المسار الّذي استند إليه اتّفاق أوسلو الكارثيّ. وهذا الحلّ، الّذي مات وشبع موتًا، عاد بعد عمليّة 7 أكتوبر للتداول، ليس في أوساط الشعب الفلسطينيّ، بل في ما يسمّى بالمجتمع الدوليّ، وتحديدًا أميركا وأوروبا، كملهاة أو كمدخل لإعادة ترتيب المنطقة أميركيًّا، بحيث تكون إسرائيل هي المحور بعد إنقاذها، وكجزء من الحملة الانتخابيّة لجو بايدن.

أمّا بالنسبة للتوجّهين الأخريين للحلّ؛ الأوّل برنامج التحرير الشامل وعدم طرح حلول قبل تحقيق هذا الهدف أي هزيمة نظام الأبرتهايد الكولونياليّ، ومن أجل تحقيق هذا الهدف تطرح جبهة وطنيّة عريضة كفاحيّة شاملة. والثاني، حلّ الدولة الديمقراطيّة الواحدة في فلسطين التاريخيّة، الّذي لا يرى أنصاره والمنخرطين فيه تناقضًا مع الأوّل بل مكملًا له، وهو عمليًّا برنامج للتحرير الشامل - تحرير الفلسطينيّين من المشروع الاستعماريّ وهدم نظام الفصل العنصريّ - الّذي يؤدّي تلقائيًّا إلى تحرير اليهود من أيديولوجيا الهيمنة والسيطرة العرقيّة، الّذي يمكن من العيش المشترك.

نحن أمام واقع جديد قيد التشكّل، يستبطن تناقضات وتعقيدات ضخمة وآلامًا بالغة الشدّة ستمتدّ لسنوات طويلة، ولكن في الوقت ذاته يحمل معه فرصًا جديدة أمام مسيرة التحرّر الفلسطينيّ، الّذي بات أكثر من أيّ وقت مضى مرتبطًا بمسألة العدالة الكونيّة.

الانشغال بالمآلات السياسيّة لهذه الجولة من الصراع ليست ترفًا، بل هي حاجة ومهمّة وجوديّة بحيث تقع على عاتق صانعي القرار الرسميّ والشعبيّ أو المؤثّرين في الرأي العامّ، الاضطلاع بها.

في نهاية المطاف، شعبنا يريد الحرّيّة، يريد الحياة. ليس قتاله وصموده الأسطوريّ وتضحياته الخياليّة مدفوعًا بالانتقام، أو بأساطير دمويّة تستحضر من التاريخ الغابر، بل تحرّكه قيمة إنسانيّة وجوديّة، هي حرّيّته في أن يعيش دون أن يكون معرّضًا للقتل في كلّ لحظة، وأن يبني وطنًا حرًّا وناهضًا، وهذا هدف مستحيل التنازل عنه.

ولهذا الغرض يحتاج شعبنا وطلائعه، ونخبه الانشغال مجدّدًا بمهمّة وحده الوطنيّة، ووحدة رؤيته السياسيّة، وإستراتيجيّة نضاله. يجب أن يكون الحلّ السياسيّ تجسيدًا لهدف التحرّر والحرّيّة، وهي مسيرة يشترك فيها أحرار العالم، واليهود الأحرار. وهذه هي اللحظة.

التعليقات