28/01/2024 - 21:41

عن مصير الاستعلائيّة الاستعماريّة وتحوّلات الوعي

مع عودة اليمين الصهيونيّ وتفشّي التطرّف اليمينيّ، والّذي يقوده بنيامين نتنياهو، عادت الاستعلائيّة الصهيونيّة لتتّخذ شكلًا مدمّرًا للفلسطينيّين، واليهود، وللعرب، والعالم...

عن مصير الاستعلائيّة الاستعماريّة وتحوّلات الوعي

العدوان الإسرائيليّ، آثار الدمار في قطاع غزّة (Getty)

احتكار الألم وإنكاره على الآخرين، ليس العطب الأخلاقيّ الوحيد الّذي تجذّر في الذهنيّة الصهيونيّة، بل أيضًا الشعور القاتل بالاستعلائيّة تجاه المستَعْمَر الّذي تختزل وظيفته ومصيره بأن يُقتل وألّا يقاوم أو ينجح في تحقيق إنجازات في معركته التحرّريّة.

في يوم الثلاثاء، 23 كانون الثاني/ يناير الجاري، مع الإعلان عن مقتل 24 جنديًّا إسرائيليًّا في يوم واحد في تفجير منزل في المغازي، اهتزّت إسرائيل، دولة ومجتمعًا، وقيل إنّه اليوم الأصعب منذ السابع من أكتوبر. وبدت الوجوه مكفهرّة، خاصّة وجوه السياسيّين والعسكريّين والإعلاميّين بعد أن كان، وما زالوا، يحتفون بكلّ جريمة مروّعة يرتكبها جيشهم، دون أدنى شعور بالأسف أو تأنيب الضمير إزاء الأعداد الهائلة من الأطفال والنساء والمرضى التي تصل إلى أكثر من مئة في اليوم الواحد، والّذين يبادون بتصميم مسبق.

لا يستخفّ المرء الرصين بشعور الآخرين بالحزن والفقدان على أبناء جماعتهم أو أقربائهم، فالحزن صفة طبيعيّة للبشر جميعًا. ففي النهاية حتّى المجتمعات الاستعماريّة هي ضحيّة حكّام أو أيدولوجيّة عنصريّة وقاتلة. ولكنّ العطب الأخطر هو في التصوّر الذاتيّ لأنفسهم بأنّهم "شعب اللّه المختار"، والمنتمين إلى عرق متفوّق عقليًّا، وعلميًّا، وعسكريًّا، وأخلاقيًّا، ولا يجوز أن يهزموا، أو يقتلوا، أمام شعب من شعوب العالم الثالث، جرى غزو وطنه العربيّ وتهويده. في هذه الحالة، ولسان حالهم يقول إنّ الشعب الفلسطينيّ والعرب متخلّفون، ونحن المتحضّرون، واللّه فضّلنا على الجميع.

وكان لافتًا في هذه الأجواء أن تتجرّأ بعض الأصوات الصهيونيّة الإسرائيليّة على خدش هذا الشعور العامّ، مثل الصحافيّة الإسرائيليّة المعروفة والرئيسة السابقة لحزب العمل، شيلي يحيموفتش، وذلك حين وصفت الصدمة العامّة من هذه العمليّة بالاستعلائيّة؛ إذ قالت إنّ الحرب هي الحرب، ولا توجد كفالة لأحد. ما معناه، أي ما نفهمه ممّا لمحت إليه، أنّ الطرف الآخر، ضحيّة الاستعمار، أيضًا لديه المقدرة على إدارة صراع بطريقة حديثة وفاعلة.

وكانت أصوات إسرائيليّة نادرة، غير صهيونيّة، أيضًا قد غرّدت خارج السرب، إذ أشارت إلى دوافع الشعور بالصدمة أو الصدمات، إزاء ردّات الفعل المفاجئة من جانب "الأعداء"، المتمثّلة في نجاحهم في تحدّي عقيدة الردع الإسرائيليّة، وفسّرت ذلك بالشعور الاستعلائيّ المتجذّر في الذهنيّة الصهيونيّة.

كانت الاستعلائيّة الصهيونيّة المستمدّة من المركزيّة الأوروبّيّة، ومن تأويلات خرافيّة توراتيّة، قد تلقّت ضربة موجعة في حرب أكتوبر عام 1973، حين نجحت القوّات المصريّة في عبور مفاجئ لأكبر ممرّ مائيّ - قناة السويس. ولم يجسّد ذلك العبور الجرأة المصريّة فحسب، بل أيضًا التخطيط العسكريّ المذهل، والّذي كشف عن مقدرة الإنسان المصريّ والعربيّ حين تتوفّر الإرادة. ولكنّ ترجماتها السياسيّة كانت كارثيّة مصريًّا وقوميًّا عربيًّا، بحيث باتت قضيّة النضال التحرّريّ الفلسطينيّ قضيّة الشعب الفلسطينيّ وحده، ونشهد نتائجها في تعاظم النزعة الفوقيّة، وتصاعد التوحّش الإسرائيليّ، واستمرار رحلة الشقاء الفلسطينيّة التراجيديّة.

ولكن، مع عودة اليمين الصهيونيّ وتفشّي التطرّف اليمينيّ، والّذي يقوده بنيامين نتنياهو، عادت الاستعلائيّة الصهيونيّة لتتّخذ شكلًا مدمّرًا للفلسطينيّين، واليهود، وللعرب، والعالم. ورغم تمكّن المقاومة اللبنانيّة بقيادة حزب اللّه في طرد المحتلّين الإسرائيليّين من الأرض اللبنانيّة عام 2000، وصمود هذه المقاومة أمام العدوان الإسرائيليّ عام 2006، واصلت حكومة نتنياهو عقيدتها التوسّعيّة والإحلاليّة في الأرض الفلسطينيّة، معزّزة مرّة أخرى الاستثنائيّة الإسرائيليّة. بفعل ذلك تقلّص ما يسمّى معسكر السلام، وانجرفت قطاعات اجتماعيّة وفئات سياسيّة إلى هذا المنحنى، في إطار التنافس على إخراج قضيّة الصراع والحلّ مع الفلسطينيّين من التداول إسرائيليًّا وعربيًّا ودوليًّا. لا تستطيع هذه العقليّة الاستعلائيّة أن تعترف بتقلّص الفجوة في المعرفة العسكريّة، والمقدرة على إدارة الصراع السياسيّ. كما لا تريد أن تصدّق أنّ دروس تاريخ نضال حركات التحرّر ضدّ مستعمريها ينطبق عليها أيضًا، أي أنّه بمقدور شعب رازح تحت الاستعمار أن يجبر مستعمره على الانسحاب أو الانكفاء. وكما شهدنا مؤخّرًا، فهي لا تستطيع أن تستوعب أنّه كان ممكنًا أن تجلب إلى محكمة العدل الدوليّة بتهمة ممارسة الإبادة الجماعيّة، وأن يوضع نظامها في صفّ دول الإبادة، إذ كانت تعتقد أنّه بإمكانها أن تفلت من محكمة الشعوب بعد أن أفلتت حتّى الآن تحت حماية حلفائها الاستعماريّين.

لكن ومنذ 7 أكتوبر تصارع الاستعلائيّة الاستعماريّة الصهيونيّة لاستعادة روحها، ليس عبر حرب عاديّة، بل عبر إبادة همجيّة قذرة ضدّ الشعب الفلسطينيّ. ولكن كما مهّدت وسهّلت سياساتها التوسّعيّة والقمعيّة العدوانيّة خلال العقود الماضية لعمليّة حركة حماس، فإنّ حربها الإباديّة أوصلتها إلى محكمة العدل الدوليّة، وقبلها استجلبت إليها غضب الشعوب في جميع أنحاء المعمورة.

ليست تلك الشعوب محبّة للقتل، وليست كارهة لليهود أو معادية للساميّة، بل هي ضدّ الحروب بكلّ أشكالها ومن أجل العدل والإنسانيّة. وقبل أن تخرج إلى الشوارع أدانت قتل وخطف مدنيّين، ولكن دون أن تخرج العمليّة من سياقها التاريخيّ والسياسيّ. وقد جاءت وثيقة حركة حماس الّتي انتظرها الكثيرون الّتي تشرح فيها خلفيّة العمليّة الّتي نفّذتها، والّتي انتقدت فيها ذاتها، من قتل لمدنيّين إسرائيليّين، ولتعزّز الدافع الأخلاقيّ وراء وقوف وحراك شعوب العالم إلى جانب الشعب الفلسطينيّ وقضيّته العادلة.

لهذا رأى الكثيرون أنّ هذا التحوّل في الوعي، واستعادة الحساسيّة الأخلاقيّة تجاه كرامة الإنسان، ومسألة العدالة على المستوى العالميّ، وبالتالي التمهيد لسقوط للاستعلائيّة الصهيونيّة، يعدّ أهمّ التحوّلات وأعمقها الّتي أحدثته غزّة، ليس فقط في مسيرة التحرّر الفلسطينيّ، بل في مسيرة التحرّر العالميّ، الّتي تشمل تحرّر اليهود الصهاينة من نظام الأبرتهايد لصالح نظام ديمقراطيّ إنسانيّ.

اقرأ/ي أيضًا | "كيف وصلنا إلى هنا؟"

التعليقات