15/01/2024 - 18:49

"كيف وصلنا إلى هنا؟"

يقول خبراء في القانون والعلاقات الدوليّة، إنّه في ضوء هذا الموقف المشين من جانب ما يسمّى بالمجتمع الدوليّ، ذلك المشارك في العدوان أو المتواطئ أو الصامت، سيكون العالم أمام بداية نهاية القانون الدوليّ...

قاضٍ ينظر في الأدلّة المقدّمة ضدّ إسرائيل في محكمة العدل الدوليّة (Getty)

"كيف وصلنا إلى هنا؟". تساءل بمرارة معلّق صحفيّ إسرائيليّ محبط، وهو يشاهد افتتاح جلسة المحكمة الدوليّة، في لاهاي يوم الخميس الماضي الموافق 11 كانون الثاني عام 2024، لمحاكمة إسرائيل بتهمة ارتكاب الإبادة الجماعيّة. بدا صوته نشازًا في جوقة الإعلاميّين والمحلّلين الإسرائيليّين، الّذين يتكاذبون فيما بينهم على الشاشة الصغيرة، وأمام المشاهدين والمستمعين، تلك الجوقة الّتي أخذت على عاتقها الانخراط في بروبوغاندا الجيش، والتخلّي عن مهنتها الصحفيّة كما كتب المحلّل والسياسيّ الإسرائيليّ، بارنيع، في صحيفة يديعوت أحرونوت. وتنشد هذه الجوقة نشيد الدم والإبادة الموجّه إلى آذان جمهور مشحون بروح الانتقام القبليّ، والتعطّش إلى إخفاء الفلسطينيّين من الوجود.

وصف بعض الكتّاب حالة إسرائيل أمام المحكمة الدوليّة بأنّها حالة سرياليّة تاريخيّة؛ هذه الدولة الّتي تستمدّ أحد أهمّ مبرّرات إقامتها، من جريمة محرقة اليهود في أوروبا، والّتي كان اليهود أحد أبرز ضحاياها، تقف اليوم في المحكمة العالميّة، لتورّطها بتهمة انتهاك قانون منع الإبادة، الّذي وضع بتأثير المحرقة النازيّة المروّعة، وهو ما يعني أنّ هذه الدولة الّتي جعلت من نفسها الضحيّة الّتي يحقّ لها ممارسة كلّ الانتهاكات للقانون الدوليّ وحقوق الإنسان، وارتكاب الجرائم والتدخّل في شؤون الدول، دون أن تتعرّض للعقاب، وبحماية شركائها الإمبرياليّين الغربيّين، تنضمّ، بعد مثولها في محكمة العدل الدوليّة، إلى نادي دول الإبادة.

لم تكن إسرائيل مستعدّة، ولا الحكومات الغربيّة ولا الأنظمة العربيّة، لهذا الزلزال وآثاره المحلّيّة، والكونيّة. لقد أعمى الغرور والفوقيّة اليهوديّة، والدعم الغربيّ المطلق، بصر حكّام إسرائيل، وغالبيّة المجتمع الاستيطانيّ المعبّأ أصلًا ضدّ العرب والفلسطينيّين، فقد أدخلهم تورّطهم في جرائم حرب الإبادة المتواصلة ضدّ الشعب الفلسطينيّ في ورطة لا مخرج منها، سوى الخضوع للقانون الدوليّ. خطّطوا، في البداية، تحت وطأة فقدان التوازن الناجمة عن عمليّة حركة حماس المفاجئة والصاعقة، وبتأثير روح الانتقام البدائيّة، تنفيذ عمليّة إبادة سريعة تنهي قطاع غزّة، والوجود الفلسطينيّ للأبد. تلك كانت خطّة إجراميّة مبيّتة ثانية بعد النكبة، مرّة تتراجع، ومرّة تظهر على السطح، تبعًا لظروف الحكم والحالة السياسيّة في إسرائيل والمنطقة. غير أنّ الهدف الأساسيّ من الخطّة لم يتحقّق، رغم إبادة عشرات الألوف، من الأطفال والنساء، والمرضى، وتسوية أحياء كاملة في الأرض، من خلال آلة الحرب الإسرائيليّة.

كان هذا، أيّ تعثّر خطّة التهجير، أوّل إخفاق، وصادم، إذ أظهر الفلسطينيّون تحدّيًا أسطوريًّا للموت، فرفضوا مغادرة القطاع، كما صدموا بالرعب الّذي أبداه النظام المصريّ من نقل الفلسطينيّين إلى سيناء، بسبب ما قد يشكّله هذا الوجود من تهديد لنظامه الانقلابيّ. وللسبب نفسه، لم يتجرّأ هذا النظام المتعاون مع إسرائيل، من الانضمام إلى الدعوى الّتي قدّمتها دولة جنوب إفريقيا، ضدّ إسرائيل في المحكمة الدوليّة. هو يريد علاقة جيّدة مع نظام الأبرتهايد، حتّى تبقى الحماية الأميركيّة لنظامه مضمونة.

الإخفاق الثاني، هو الفشل في تحرير المحتجزين والأسرى الإسرائيليّين، وحسم المعركة مع حركة المقاومة في غزّة، رغم مرور مائة يوم، من الدمار والإبادة، والخسائر المترتّبة على ذلك في الأرواح والاقتصاد.

الإخفاق الثالث؛ تبلور حركة شعبيّة عالميّة مدنيّة غير مسبوقة في اتّساعها، وفي توجّهاتها الأخلاقيّة والسياسيّة، المتمثّلة بالشعارات التحرّريّة الإنسانيّة الشاملة، ضدّ الصهيونيّة والاستعمار والإمبرياليّة.

الإخفاق الرابع؛ التفاف الأغلبيّة الساحقة من الشعب الفلسطينيّ، فضلًا عن الشعوب العربيّة والإسلاميّة، حول حقّ مقاومة الاحتلال، وحقّ الشعب الفلسطينيّ في التحرّر من الاستعمار، وتقرير المصير.

الإخفاق الخامس، وهو ذروة الإخفاقات والسقوط. المتمثّل بجلب إسرائيل، وضمنًا، كلّ من ساندها وتواطأ معها، في حرب الإبادة، إلى محكمة الشعوب. وهذا يعني سقوط أكبر الأساطير الإسرائيليّة المتمثّلة بالادّعاء أنّها ديمقراطيّة ليبراليّة، وأنّها أكثر مكان آمن ليهود العالم.

هناك من قال مبكّرًا عن الحرب، إنّ غزّة ستغيّر العالم. وتبيّن الآن أنّ تلك المقولة لم تكن مجرّد شعار، بل حقيقة ماثلة أمامنا، وإن كان الحدث نفسه وتداعياته في حالة سيولة كبيرة، وليس ممكنًا معرفة مآلاته النهائيّة.

يقول خبراء في القانون والعلاقات الدوليّة، إنّه في ضوء هذا الموقف المشين من جانب ما يسمّى بالمجتمع الدوليّ، ذلك المشارك في العدوان أو المتواطئ أو الصامت، سيكون العالم أمام بداية نهاية القانون الدوليّ الّذي عرف بعد الحرب العالميّة الثانية حتّى اليوم. وأنّ نظامًا قانونيًّا ودوليًّا أكثر عدلًا في مخاض ولادة.

حرب الإبادة متواصلة. الشعب الفلسطينيّ، وأحرار العرب والعالم ينتظرون صدور قرار مؤقّت من المحكمة الدوليّة لوقف هذه الحرب الهمجيّة. لا يعني صدور قرار هامّ كهذا، أنّ الأمور ستكون سالكة ونتائجه فوريّة. لكنّه سيدشّن مرحلة استراتيجيّة جديدة، يدخل فيها لاعبون جدد أكثر تأثيرًا في حياتنا، يسمح بوقف القتل الجماعيّ والفرديّ، والبدء بمعالجة الجرّاح الجسديّة والنفسيّة المهولة، وترميم الحالة الفلسطينيّة المأساويّة.

سيكون شعبنا في غزّة خاصّة، وفي الضفّة الغربيّة، وفي داخل منطقة الـ48، أمام إسرائيل مختلفة، مجتمعًا ودولة، عاجزة عن الخروج من الصدمة، وعاجزة عن الخروج من حالة الإنكار، والحقد على كلّ ما هو فلسطينيّ، قبل مرور سنوات، وربّما قبل ذلك، حيث من المفروض أن يكون بعدها المجتمع الإسرائيليّ قد بدأ بمراجعة تجربته الكولونياليّة الدمويّة، والبدء بالاعتراف أنّ هناك شعبًا أصيلًا له الحقّ في وطنه وعلى وطنه، وأن لا طاقة لأيّ مستعمر بمواصلة طمس هذا الحقّ، ونفي وجود أصحابه.

حتّى الآن، لم تتبلور مبادرة فلسطينيّة جامعة، أو مبادرات خاصّة في كلّ تجمّع فلسطينيّ، استعدادًا لمواجهة تداعيات هذا الحدث الزلزاليّ. ولكن ما هو ثابت أنّ هذا الشعب باق في وطنه، وصموده فاق الخيال والأسطورة. وأنّ المجتمع الإسرائيليّ، الّذي بدأت تتصاعد فيه تناقضاته الداخليّة، سيكتشف أنّه لا يمكن العيش بالسيف إلى الأبد. لا طريق إلى التحرّر، والسلام الحقيقيّ، سوى تحقيق العدالة.

التعليقات