شهدت جامعة حيفا في الأيام الأخيرة حدثًا يثير تساؤلات جدية حول موقع الأكاديميين العرب داخل المؤسسات الإسرائيلية، وحدود التزامهم الإنساني والأخلاقي والوطني في مناصرة قضايا شعبهم ومجتمعهم، وذلك على أثر فرض جامعة حيفا لعقوبات على طلاب شاركوا في احتجاج صامت، رفعوا خلاله صورًا لأطفال من غزة.
اللافت في هذا السياق لم يكن فقط طبيعة القرار الذي تعوّدنا عليه في "قامعة" حيفا، كما يحب أن يسميها طلابنا هناك، بل توقيع إحدى الشخصيات الأكاديمية العربية البارزة عليه، وهي تشغل، منذ مدّة قصيرة، منصبًا إداريًا رفيعًا داخل الجامعة. هذه المشاركة، في لحظة فارقة يعيشها شعبنا من إبادة يومية، تثير إشكاليات تتعدّى الحادثة نفسها، وتفتح نقاشًا ضروريًا حول دور الأكاديمي العربي في الأكاديميا الإسرائيلية والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وخاصة حين تتواطأ المؤسسة مع بنية سلطوية قائمة على الإقصاء والعداء لشعبك ومجتمعك. ومن الجدير بالتنويه أن هذه التعيينات عادةً ما تصاحبها جوقة تهاني للفرد المعيّن من شخصيات اجتماعية وسياسية، لا تخلو من اعتبار التعيين محل فخرٍ للمجتمع كافة، ومدفوعة بخطاب وعقدة "العربي الأول" أو "المرأة العربية الأولى".
ليس اندماج الأكاديميين والمهنيين العرب داخل المؤسسات الإسرائيلية مشكلة في حد ذاته بالضرورة. ففي واقع المواطنة المركّب في الداخل، لا يمكن مطالبة الأفراد باتخاذ مواقف مثل الاستقالة من الهيئات التدريسية، أو دعوة الطلاب الفلسطينيين في الداخل لمقاطعة الجامعات وما إلى ذلك؛ فنحن نعيش واقعًا مركبًا كفلسطينيين في الداخل، حيث أن المواطنة، والتي تشكّل ظرفنا الماديّ اليوميّ، تضطرنا إلى أن نتعامل مع مؤسسات مختلفة، نعمل بها رغم حوادث عنصرية تعجّ داخل أسوارها، وتبنّي أو تواطؤ إدارتها مع مواقف وسلوكيات فاشية. ورغم ذلك، يكمن الإشكال حين يتحوّل الفرد في هذه المؤسسات إلى مجرّد أداة ينفّذ السياسات القمعية ويتورّط فيها، بل ويشرعنها بدلًا من استثمار الموقع من أجل مناصرة عدالة قضيّة مجتمعه، وفي هذه الحالة، الطلاب العرب والتقدميين عمومًا.
ما حدث في جامعة حيفا لا يمكن تفسيره ضمن منطق "المهنية" أو "الحياد الأكاديمي". إنه، في جوهره، تماهٍ مع قرار يندرج ضمن سياسة كمّ الأفواه، وتورّط في ماكينة استهداف حرية التعبير، وبشكل خاص حين يصدر في لحظة يُقتل فيها آلاف المدنيين، ويُستهدف الشعب الفلسطيني، ويُقتل ويُجاع أهلنا في غزة في واحدة من أصعب المشاهد الإنسانية على مدار سنين. ليست هذه الظاهرة خاصة بجامعة حيفا أو واقع الداخل الفلسطيني حصرًا، إذ تخوض من جديد الحركات اليسارية والديمقراطية نقاشًا حول سطحية خطاب "سياسات الهوية" و"التمثيل" و"الاعتراف"، الذي حلّ مكان خطاب العدالة الحقيقيّ بضرورة تغيير بُنى السلطة لا تجميلها، خصوصًا في أعقاب مواقف متواطئة لبعض رؤساء الجامعات الأميركية المحسوبين على الطبقات المستضعفة (عربًا وسودًا) في قمع المظاهرات الطلابية المناهضة لحرب الإبادة.
أما في سياق الداخل، فثمّة مفارقة صارخة في أن تتحوّل بعض قصص "النجاح الفردي" إلى واجهات تُستخدم لتجميل واقع ظالم، وجزء من البروباغندا الإسرائيلية، بل يُطلب من أصحابها أحيانًا أن يضفوا الشرعية عليه من خلال صمتهم، أو أسوأ من ذلك، من خلال مشاركتهم في القمع والملاحقة، كما فعلت مؤخرًا المحاضرة المذكورة صاحبة المنصب الرفيع في جامعة حيفا. في حالات كهذه، لا يعود الحديث عن "نجاح"، بل عن تنازل عن الانحياز الأخلاقي للباحث والأكاديمي والمثقف، وتحويل التقدّم الفردي إلى غاية قائمة بذاتها، مفصولة عن أي سياق جمعي أو مسؤولية تجاه شعب - هو شعبك - يعاني ويُباد ويُجاع.
هناك من تعتبر نفسها ويعتبرها بعض نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي أكاديمية عربية بارزة، والتي لطالما قُدّمت كـ"قصة نجاح ملهمة"، صعدت سلالم المؤسسة الأكاديمية حتى وصلت إلى قمتها. لكن، في اللحظة التي طُلب منها أن تختار بين التزامها للمؤسسة والتزامها الإنساني والأخلاقي، اختارت أن تصمت كما كان سابقًا، ووصل بها الحد إلى أن توقّع، قبل أيام، على رسالة مخجلة ومعيبة كهذه تقمع حرية التعبير.
انهالت أصوات النقد بحق، لكن أهم ما يجب التركيز عليه أن الجزء الأكبر من الأكاديميين والمهنيين العرب ما زال يرفض هذه المقايضة، وقد اختاروا طريقًا أصعب، لكنه أكثر انسجامًا مع ضمائرهم ومع موقعهم الإنساني والأخلاقي. هؤلاء لا يصلون دائمًا إلى مواقع صنع القرار - رغم أنهم قد يصلون ولكن بصعوبة أكبر وطريق مليئة بالأشواك - وقد يُستبعدون من المؤتمرات الرسمية والبعثات الدولية، لكنهم يمارسون دورهم من مواقع مختلفة، ويواصلون المساهمة في إنتاج معرفة علميّة ومرموقة ومهنيّة، لكنها أيضًا ملتزمة إنسانيًا وأخلاقيًا ووطنيًا، ومنخرطة مع قضايا مجتمعهم وشعبهم، ومنحازة لعدالة قضيته وأصوات المقموعين في التاريخ والحاضر.
لقد قدّم أبناء وبنات المجتمع العربي في الداخل مساهمات أكاديمية نوعية على مدار العقود الماضية. مئات الباحثين والباحثات الفلسطينيين حققوا درجات علمية عليا وانخرطوا في مشاريع بحثية جديّة، دون أن يتنازلوا عن انتمائهم، بل ساهموا في إنتاج معرفة نقديّة لمواجهة المعرفة المهيمنة في الأكاديميا الإسرائيلية. كثيرون منهم ساهموا في تطوير الوعي السياسي والثقافي داخل مجتمعهم، وساهموا معرفيًا في تطوير حقول نظريّة على مستوى الوطن العربي والعالم.
الحديث هنا ليس تقليلاً من أهمية التقدّم المهني أو النجاح الأكاديمي، بل العكس. ما نحتاج إليه هو إعادة تعريف لمفهوم "النجاح" ذاته، بحيث لا يُختزل في الإنجاز الفردي فقط، بل يُربط دائمًا بالمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية. فالمعرفة، في نهاية المطاف، ليست محايدة، بل جزءًا من حقل القوّة وإنتاج السلطة، ولا يمكن فصلها عن السياق الذي تُنتَج فيه. وإن كان من واجب الباحث أن يحافظ على المنهجية البحثية والنزاهة العلمية، فإن عليه أيضًا أن يُدرك أن الصمت في وجه الظلم مشاركة ضمنية فيه، فلا تعارض بين الموضوعية العلمية والانحياز الأخلاقي.
المثقف، في السياق الفلسطيني، لا يمكن أن يقف على الحياد. لأن الحياد نفسه يتحوّل في لحظات معينة إلى موقف، وغالبًا إلى تواطؤ. إننا بحاجة إلى أكاديميين يحملون المعرفة والموقف معًا، يوسّعون الأفق النقدي داخل المؤسسة، ويُربّون أجيالًا على التفكير المستقل، ويربطون العلم والبحث بالعدالة والحرية والانتماء.
ما نحتاجه اليوم، في ظل التحديات غير المسبوقة التي نعيشها كمجتمع عربي فلسطيني في الداخل، وحرب الإبادة المستمرة على شعبنا، ومحاولة ترهيبنا وإخراسنا، وتحويلنا إلى مجتمع استهلاكيّ يأكل ويشرب ويعمل وينام، مجرد من أي موقف أو انتماء لشعب وقضية، ليس الاكتفاء بسرد قصص فردية عن “النجاح”، بل مساءلتها، ووضعها في سياقها، والتفكير في الأثر الذي تتركه على الوعي الجمعي، وعلى صورة وشكل المرحلة المقبلة، وعلى أي مثال ومثل نصدره للأجيال القادمة ولطلابنا في المؤسسات الأكاديمية.
في النهاية، لا بأس إن لم نُرقَّ أو نُمنح الجوائز أو نُدعَ إلى منصات الشرف والبعثات الدولية (مع أهمية هذه الإنجازات). ما يهم هو ألّا نكون شهود زور على إبادة شعبنا.
التعليقات