01/04/2007 - 10:08

روشتة الآنسة رايس للتطبيع المجاني../ جلال عارف*

روشتة الآنسة رايس للتطبيع المجاني../ جلال عارف*
بعد حملة دعائية هائلة، وبعد شهور من الإعداد لمبادرة أميركية حول القضية الفلسطينية، وبعد محادثات مكثفة وجولات مكوكية لوزيرة الخارجية الأميركية وعمل كان الجزء الأكبر منه لأجهزة الأمن والمخابرات، وبعد أن «اكتشفت» أميركا فجأة المبادرة العربية التي تم إطلاقها في بيروت قبل خمس سنوات، فتبعتها إسرائيل في «الاكتشاف».

وبعد إعداد طويل لإطلاق المبادرة الأميركية قبل القمة العربية، وقفت وزيرة الخارجية الأميركية لتعلن عن « الإنجاز !!» الكبير للسياسة الأميركية حيث نجحت في ترتيب عقد لقاء كل أسبوعين بين محمود عباس (أبو مازن) وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت.

صحيح أن الوزيرة نفسها سبق أن «بشرتنا» قبل شهور بالنجاح في إقناع الرجلين باللقاء بعد طول قطيعة ! ثم عادت «و بشرتنا» مرة أخرى أن اللقاءات ستتابع بين الرجلين! ولكنها هنا تحدد وبدقة وللمرة الأولى أن الرجلين سيجتمعان كل اسبوعين وهو «إنجاز » لو تعلمون عظيم لم يتحقق بسهولة واستلزم ضغطاً كبيرا على الحكومة الإسرائيلية وعلى رئيسها أولمرت!.

ولا يهم في هذا الشأن أن تسأل عن جدوى هذه الاجتماعات إذا كان أولمرت قد رفض كل المحاولات لبدء التفاوض على قضايا الحل الدائم التي هي لب النزاع، وإذا كان أقصى ما يبحثه الرجلان بعد ذلك هو ما يتعلق بأمن إسرائيل والضغوط التي تمارسها من اجل دفع السلطة الفلسطينية للتخلي عن كل ما يتعلق بالمقاومة، ثم المطالب الإنسانية التي تتعلق بشعب تصر الولايات المتحدة الأميركية أن يبقى تحت الحصار وأن يتعرض للجوع والمهانة حتى يقبل الأمر الواقع الذي تفرضه إسرائيل بتواطؤ أميركا ودعمها اللامحدود!.

ولا أظن أن « أبو مازن» سوف يسعده أن يشاهد الطلعة البهية لرئيس الوزراء الإسرائيلي كل أسبوعين، ولا أن يشرب الشاي معه، ثم يسمع كلاماً يسمعه منذ اتفاقيات أوسلو التي كان أحد مهندسيها، بينما شعبه يعاني الجوع ويتعرض للقتل، والقدس يتم تهويدها، والضفة يتم ابتلاعها، وزيرة الخارجية الأميركية تكتفي بشراء الوقت حتى تخرج من ورطة العراق، أو حتى تهرب من فشلها هناك إلى حرب جديدة ضد إيران.

وسوف نصدق أن الإدارة الأميركية تريد بالفعل تحقيق « إنجاز» ما في القضية الفلسطينية، وأنها اقتنعت بما أوردته توصيات لجنة بيكر ـ هاملتون من أن مفتاح الاستقرار في المنطقة في حل عادل لهذه القضية، وأنها ترى في هذا «الإنجاز » إذا تحقق ما يحقق المصالح الأميركية في اكثر من اتجاه:

فهو يهيئ فرصة لخروج مشرف من العراق، ويضمن التعاون العربي في هذا الخروج إذا كان مرتبطاً بالتسوية العادلة في فلسطين.، وهو يعطي للرئيس بوش وإدارته ما يدخل به التاريخ ويغطي على الكارثة التي ألحقها بأميركا وبالعراق وبالعرب بحربه غير الشرعية وغير الأخلاقية في العراق.

وهو يمنح لأميركا فرصة حشد صفوف القوى العربية التي تناصرها في صراعها مع إيران . وربما يكون ذلك حافزاً لإيران لتسوية أزمتها سلمياً و التنازل عن طموحاتها النووية، إذا رأت أن الموقف في المنطقة لم يعد مؤيداً لها كما كان.

وهو يستعيد للولايات المتحدة بعض التحسن في سمعتها التي بلغت الحضيض بفعل حرب العراق والانحياز لإسرائيل والتآمر من أجل ضرب استقرار الأوضاع العربية تحت دعوى «الفوضى الخلاقة » التي رأينا تجلياتها في اكثر من قطر عربي.

سوف نصدق أن الإدارة الأميركية تريد بالفعل اختراقاً على الجبهة الفلسطينية ليس حباً في سواد عيون الفلسطينيين والعرب، ولكن من اجل النجاة من كارثة العراق، ومن اجل ضمان المصالح الأميركية التي تعرف أنها تواجه المخاطر، ومن أجل ترتيب الأوضاع التي تساعدها في مواجهتها مع إيران ثم مع القوى التي تنافسها علي النفوذ العالمي من الصين إلى روسيا إلى أوروبا.

وسوف نصدق أيضا أن الولايات المتحدة عاجزة عن ممارسة الضغط على إسرائيل لكي تقبل بمخططاتها لوضع القضية الفلسطينية على طريق الحل، وأن أولمرت قد رفض كل «توسلات» الآنسة كوندوليزا رايس من أجل الموافقة على مخططات أميركية لا يمكن أن تكون إلا في صالح إسرائيل! وسوف لا نستمع لكل الأقاويل التي تذكرنا بعشرات «المسرحيات!!» المماثلة التي لا تستهدف ـ من الحديث عن خلافات إسرائيلية أميركية ـ إلا كسب الوقت من ناحية، وابتزاز العرب ومحاولة انتزاع تنازلات جديدة منهم من ناحية أخرى.

سوف نصدق كل ذلك، ولكن تبقى المشكلة الحقيقة التي تكشف عنها التطورات الأخيرة هي أن الآنسة كوندوليزا رايس، ومع كل ما أعلنته الأطراف العربية من نوايا حسنة، وقفت في نهاية الأمر لا لتتحدث عن رفض إسرائيل لأي تفاوض جاد حول القضايا الأساسية (القدس واللاجئين وحدود 67) وإنما وقفت لتضع المسؤولية على الفلسطينيين وعلى العرب.

فتشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي مثلت خطاً معتدلاً يقبل المبادرة العربية بما فيها من اعتراف بإسرائيل، ويقبل الدولة في حدود 67، ويلتزم بتهدئة الموقف.. هذه الحكومة التي تمثل الغالبية العظمي من الشعب الفلسطيني هي ـ عند الآنسة رايس ـ تمثل تعقيداً للموقف!! و كأن الموقف قبلها كان رائعا، والطريق إلى السلام كان ممهداً!

وكأن حكومات فتح التي تولت السلطة بمفردها على مدى خمسة عشر عاماً بعد أوسلو نالت شيئاً من «البركات» الأميركية! وكأن أبو عمار لم يقتل بعد حصار إسرائيلي وقرار أميركي حوله من صديق وشريك في عملية السلام إلى هدف للتصفية، وكأن أبو مازن الذي تسلم المسؤولية بعده حصل من أميركا على شيء ينقذه وينقذ فتح من خسارة الانتخابات التشريعية!

وكأن ادارة بوش لم تستمر لمدة ست سنوات تضع كل إمكانياتها في خدمة حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني بحجة أنها لا تجد شريكاً في عملية السلام على الجانب الفلسطيني، وإنما تجد شعباً من الإرهابيين يستحق التصفية على يد رجل السلام والبر والتقوى شارون وجنرالاته وخلفائه!!

بعد ذلك تأتي رايس لتحمل مسؤولية الفشل في تحقيق أي خطوة إيجابية في القضية الفلسطينية على الفلسطينيين أنفسهم، ثم تعود فتكشف أن «اكتشاف» أميركا للمبادرة العربية ليس تسليماً بالحق العربي والشرعية الدولية، وإنما هو ـ عند الإدارة الأميركية ـ مجرد مدخل لانتزاع تنازلات جديدة من العرب على حساب الفلسطينيين وقضيتهم، ليبدو الأمر وكأنه ليس محاولة للتعامل الجاد من أجل تسوية عادلة.

بل هو محاولة للالتفاف من أجل تصفية القضية الفلسطينية التي اعترفت الادارة نفسها بأنها أساس كل المشاكل في المنطقة! تعود الآنسة كوندوليزا رايس إلى الطرح السقيم الذي طالبت فيه الدول العربية بالتطبيع مع إسرائيل ثم بعد ذلك يبدأ الحديث عن حل القضية الفلسطينية، والأدهى أنها تفسر ذلك الآن بأن الدول العربية مطالبة بإثبات حسن النوايا.

من يسمع الآنسة رايس يتصور أن الدول العربية هي التي شردت شعباً واستولت على أرضه، وهي التي تحتل أراضي ثلاث دول أخرى، وهي التي شنت على مدى ستين عاماً حروبها العدوانية المتوالية، وهي التي ارتكبت من المجازر ما يخجل منه النازيون أنفسهم من دير ياسين وحتى حرب لبنان الأخيرة!

ومن يسمع الآنسة رايس يتصور أن الدول العربية هي التي تملك في جيبها الفيتو الأميركي الذي يكفل لها أن تقتل وتذبح وتدمر ثم تنجو من العقاب، وهي التي تملك من التأييد الأميركي ما يحول قرارات الأمم المتحدة ضدها إلى قصاصات ورق لا قيمة لها وأحكام محكمة العدل إلى أشياء للذكرى!

بعد أوسلو .. طالبوا الفلسطينيين بإثبات حسن النوايا قبل إنهاء الاحتلال، ومازال الفلسطينيون بعد اكثر من خمسة عشر عاما يجاهدون من أجل أن ينالوا شهادة حسن السير والسلوك من أميركا ليس من أجل إنهاء الاحتلال بل فقط من أجل أن تنتهي حرب التجويع ويرفع الحصار المضروب عليهم.

والآن يريدون من العرب أن يدخلوا نفس النفق، أن يعترفوا بإسرائيل، ويثبتوا حسن نواياهم تجاهها بشهادات أميركية موثقة، وأن يعلنوا صراحة أن اللاجئين مسؤولية العرب لا إسرائيل، وأن القدس لن تسمع فيها كلمة عربية بعد الآن، وأن حدود 67 تصلح للحديث عنها في كتب التاريخ فقط، أما المتاح فهو ما يتفضل به الإسرائيليون بعد أن يلتهموا نصف الضفة.. وبعد ذلك فقط سوف يتم التفاوض ويحل السلام!!

* بعد الغزو الأميركي للعراق وإعلان واشنطن إنها ستبني هناك نموذج الديمقراطية الذي سيتم تعميمه على باقي الدول العربية، كان وصول كوندوليزا رايس للمنطقة نذير شوؤم للعديد من الأنظمة العربية، بعد أن عبرت عن ندم أميركا لأنها قضت عقوداً من الزمن تنحاز للاستقرار في المنطقة على حساب الإصلاح والديمقراطية، وبعد أن أطلقت اكثر من تحذير بضرورة تبني مسيرة الإصلاح السياسي من جانب حلفائها في المنطقة وإلا فقدوا دعم واشنطن.

الآن تأتي كوندليزا رايس فلا تذكر الديمقراطية ولا تتحدث عن الإصلاح إلا على الهامش، وتحاول تقديم العزاء لبعض من صدق أن الديمقراطية يمكن أن تأتي على الدبابات الأميركية ثم اكتشفوا أن أميركا ستختار في النهاية أن تنحاز لمصالحها لا للديمقراطية، وستعود لدعم ما تسميه «الاستقرار» الذي دعمته منذ الحرب العالمية الثانية ولو على حساب الإصلاح والتقدم، مادام ذلك يضمن المصالح الأميركية وأهمها إسرائيل والبترول والسيطرة الاستراتيجية.

والآن ومع نهاية لعبة الديمقراطية، ينتقل الأمر إلى فلسطين، وبدلاً من استثمار النفوذ الأميركي في تحقيق حل عادل هو في النهاية لمصلحة أميركا والمنطقة معاً يراد استدراج العرب ـ كما تم استدراج الفلسطينيين من قبل ـ إلى نفق يدخلونه بعد الاعتراف الإسرائيلي، ويبدأون فيه رحلة «التطهر» من أوهام عروبة القدس وعودة اللاجئين والدولة الفلسطينية الحقيقية، ويحاولون فيه إثبات حسن نواياهم تجاه إسرائيل المسالمة الطيبة التي لا تقتل ولا تشرد ولا تغتصب أرضا ولا تطلق التهديدات ولا ترتكب المجازر!!

فإذا خرجوا من النفق ولم يجدوا شيئاً من فلسطين إلا كانتونات متفرقة وشعبا يموت من الجوع ومن المجاري.. كانت واشنطن جاهزة بخريطة طريق جديدة لحل المشكلة في.. لبنان أو السودان أو أي قطر عربي يكون جاهزا للدخول في النفق المستعد لاستقبال الضحايا من العرب على الدوام!

"البيان"

التعليقات