08/12/2009 - 19:29

دولة فلسطينية واحدة، من دون تهديد../ علي الصراف*

دولة فلسطينية واحدة، من دون تهديد../ علي الصراف*
بعد 18 عاما من المفاوضات على أساس حل الدولتين، يقترب الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي من الإدراك إن على أحدهما أن يقدم تنازلات للطرف الآخر تقترب كثيرا من الإقرار بالهزيمة. ولأنها هزيمة منكرة، قياسا بالأسس التي بدأ منها النزاع، فان أحدا من الطرفين لا يبدو مستعدا لقبولها. هذا هو السبب الذي يؤدي إلى تعطيل المفاوضات، والى فشلها كلما بدأت.

والهزيمة المقترحة لا تقتصر على التنازل عن الأرض. ولا تتوقف عند ابتلاع كل الخطاب السياسي والأيديولوجي الذي رافق عقود الصراع، ولكن أحد أهم وجوهها هو أنها هزيمة تاريخية. بمعنى أنها شاملة ونهائية لأحد الطرفين. وفي أفضل الأحوال لكليهما معا.

هذا هو الحل المطروح:
الفلسطينيون يقولون للإسرائيليين إن ما نقبل به (وجودكم على 78% من أراضي "فلسطين التاريخية") هو بحد ذاته تنازل كبير وكاف. وبالتالي، فلا سبيل للمزيد من التنازلات. نريد الضفة الغربية كاملة، من دون مستوطنات (أو مع ما يعوضها في تبادل للأراضي). ونريد غزة. ورابطا جغرافيا بين المنطقتين. ونريد القدس الشرقية، بما فيها الحرم القدسي، لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة. ونريد تعويضا للاجئين (وعودة ولو رمزية لبعضهم، و... ولو إلى أراضي الدولة الفلسطينية). ولكن لا سبيل للإقرار بيهودية إسرائيل لأن ذلك سيعني تدمير حياة ومستقبل 1.4 مليون فلسطيني يعيشون على أرضهم وراء "الخط الاخضر"، وذلك فوق الدمار الذي لحق بالملايين من أشقائهم الذين يعيشون اليوم في الشتات.

هذا هو الحد الأدنى الفلسطيني. وهو يعني من منظور الخطاب الإسرائيلي التنازل عن يهودا والسامرة، وعن وجود إسرائيل في المستقبل بسبب التهديد الديمغرافي الداخلي الذي يمثله عرب الداخل كما انه يعني التضحية بجبل الهيكل.

في المقابل، يقول الإسرائيليون للفلسطينيين إن أقصى ما يمكن أن يحصلوا عليه هو شيء يتراوح بين 60 و90% من أراضي الضفة الغربية وغزة (أي أقل من الـ22% الباقية من أراضي "فلسطين التاريخية"). ومن دون القدس التي يجب أن تبقى عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل. ومن دون التفكير بعودة اللاجئين إلى ديارهم، ومن دون إزالة المستوطنات الكبرى التي تحتل أفضل الأراضي المتنازع عليها في الضفة الغربية.

وبعد ذلك كله، فان على الفلسطينيين الإقرار، ليس بحق إسرائيل في الوجود ضمن حدود آمنة ونهائية فحسب، وإنما أيضا بكونها دولة يهودية. بمعنى أن على فلسطينيي عام 1948 أن يقبلوا، بصفة نهائية، بأنهم لن يشكلوا أغلبية داخل إسرائيل، في أي وقت من الأوقات في المستقبل. وان عليهم يقبلوا العيش كأقلية، من دون حقوق قومية بل ومن دون حق بالحياة على سوية الإسرائيليين الآخرين، أو أن يهاجروا مقابل الحصول على تعويضات، وأن يظلوا يتعرضون لضغوط تجعل بقاءهم في ديارهم أمرا مستحيلا.

وبالنسبة للفلسطينيين، فمن الجلي، أن بقاء الصراع واستمرار أعمال العنف، أهون كثيرا من القبول بهذا "الحل". وفي مقابل شمولية الهزيمة التاريخية المعروضة عليهم، فان الفلسطينيين يرون أنهم إذا كانوا لا يملكون شيئا من اجل المقاومة لكسب الصراع بالقوة، فإنهم يملكون التاريخ على الأقل.

بمعنى آخر. إنهم يقولون: اترك الصراع جاريا. واترك متغيرات التوتر تفرض نفسها، لتجد إسرائيل أنها عاجزة عن البقاء بالقوة. والعامل الديمغرافي يمكن أن يلعب في النهاية دورا حاسما. والسؤال الذي يردده الوعي الفلسطيني هو: لماذا نخسر التاريخ إذا كان هو الشيء الوحيد الذي يعمل لصالحنا؟

وينظر الفلسطينيون إلى الأمر على النحو التالي:
وجود واستمرار الصراع (الخارجي) مع فلسطينيي الضفة الغربية وغزة، يحرم إسرائيل من القدرة على تهجير سكانها الفلسطينيين. أترك قنبلة الصراع (الداخلي) تكبر. وستنفجر يوما ما. ومع تزايد معدل الولادات بين فلسطينيي 48، في مقابل تراجع معدلات الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، وتراجع معدل الولادات بين اليهود الإسرائيليين، فان غزة ثانية وثالثة ورابعة يمكن أن تنشأ، مع مرور الوقت.

الأرقام، والتوقعات المستقبلية بشأنها، تزيد الرؤيتين الفلسطينية والإسرائيلية تعقيدا. وهو ما يعني أن الصراع الدائر اليوم يمكن أن يكون مجرد مزحة قياسا بما يمكن أن يحدث في المستقبل.

المعطيات الإسرائيلية تشير إلى أن عدد سكان إسرائيل يبلغ اليوم 7,337,000 نسمة، منهم 5,542,000 يهودي، و1,477,000 عربي (تشمل القدس والجولان المحتلين)، و318,000 يُعرفون كـ"آخرين"، بينهم 200 ألف عامل أجنبي. ويبلغ معدل الكثافة السكانية315 نسمة لكل كيلومتر مربع واحد، وهو واحد من أعلى المعدلات في العالم. أي أن إسرائيل مزدحمة اليوم بما فيه الكفاية، بحيث أنها لا تستطيع عمليا أن تجد مكانا يتسع لأكثر من معدل النمو الطبيعي الراهن لسكانها.

وفي حين تبلغ نسبة التكاثر بين الفلسطينيين 2.5% سنويا، حسب التقديرات الإسرائيلية، و3.7% حسب تقديرات جهاز الإحصاء الفلسطيني، فان هذه النسبة لا تزيد عن 1.5% بين اليهود.

وتقول الإحصائيات الإسرائيلية إن نسبة العازبين والعازبات ترتفع في وسط اليهود في كافة الفئات العمرية، وخاصة لدى الشباب، وذلك بسبب تأجيل سن الزواج. وتبين أنه في العام 2006 بلغت نسبة العازبين اليهود من جيل 20-29 عاما 76%، مقابل 73% في العام 2000.

ولا تتوفر إحصائيات حول النسب المقابلة بين الفلسطينيين، إلا أن المرء يستطيع أن يفترض أن العادات الاجتماعية الفلسطينية، والمستوى المعيشي المتدني، والوعي الفلسطيني بأهمية "القنبلة الديمغرافية"، يجعل نسب الولادات أعلى بينهم، وكذلك نسب الزواج المبكر.
تقول الإحصائيات الإسرائيلية إن نسب الهجرة إلى إسرائيل تراجعت في السنوات الأخيرة. وعلى سبيل المثال، فقد قدم إلى "أرض الميعاد" في العام 2002 حوالي 33 ألفاً، مقابل 44 ألفا في العام 2001، وحوالي 60 ألف يهودي في العام 2000.

وكانت ذروة الهجرة اليهودية قد تمثلت بقدوم 200 ألف شخص في العام 1990، و176 ألفاً في العام 1991، ثم تأرجح العدد حول 60 ألفاً في الأعوام 1997 – 2000، في حين بدأت الهجرة العكسية من إسرائيل إلى الخارج تشكل ما نسبته نحو 30 بالمئة من مجموع القادمين.

وفي مقابل عرب الداخل الذي يشكلون نحو ربع مجموع السكان، فالحقيقة هي أن "العرب اليهود" (السفارديم) يشكلون ربعا آخر. وهو وضع يُضعف بقوة مكانة اليهود (الأشكناز) الغربيين الذين قامت إسرائيل وأيديولوجيتها الصهيونية على أكتافهم.

لقد كان على إسرائيل، لكي تبرر طبيعتها كدولة قومية لليهود، أن تجعل حدودها مفتوحة لكل اليهود (السفارديم والأشكناز معا). وتمكنت في الفترة من 1948 إلى 2006 من استجلاب نحو مليونين و900 ألف يهودي إلى فلسطين. وفي السنوات الأربع الأولى التي أعقبت نشوء إسرائيل (1948-1951) كان عدد اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل بلغ 687 ألف يهودي، وكان نحو 442 ألفاً منهم من "العرب اليهود". ويشكل "العرب اليهود" اليوم نحو 36% من مجموع السكان اليهود في إسرائيل.

وعلى الرغم من أن السياسات الإسرائيلية تحاول استبعاد مظاهر التمييز ضد "العرب اليهود"، ولكن الحقيقة هي أن هؤلاء يمثلون "بروليتاريا" إسرائيل، وحصتهم من "أرض اللبن والعسل" تنطوي على الكثير من الفقر والمرارة.

وتتوقع دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية أن تنخفض نسبة السكان اليهود في إسرائيل بحلول العام 2025 إلى 70% فيما كانت هذه النسبة في العام 2000 حوالي 78%. وسيصل إجمالي عدد السكان في ذلك الوقت إلى 9.3. وسيبلغ عدد السكان اليهود بينهم قرابة 6.5 مليون وعدد العرب 2.3 مليون وسيشكلون نسبة 25% مقابل 19% في العام 2000.

ويقول الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أنه بافتراض ثبات معدل الزيادة الطبيعية للمواليد بنحو 3.7 في المئة وعدم عودة لاجئين فلسطينيين من الشتات، فان عدد الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية سيتضاعف ليبلغ نحو 3.4 ملايين مع نهاية العام 2026، كما سيصبح إجمالي اللاجئين في العالم نحو 12 مليون، بافتراض معدل نمو ثابت بـ 3.5 في المئة.

وقد يبدو الحال الراهن وكأنه كارثة. ولكن إذا أُخذت الضغوط التي ستشكلها هذه المتغيرات السكانية، فان الكارثة التي يمكن لطرفي النزاع انتظارها، ستكون أكبر بكثير.

إذا أثبتت السنوات الـ 18 الماضية أن "حل الدولتين" فاشل سياسيا، ومستحيل أيديولوجيا، فانه في الواقع أكثر فشلا من الناحية السكانية.

فلا "دولة فلسطين" الافتراضية قادرة على استيعاب فلسطينييها إلى جانب عرب الداخل وفوقهم اللاجئين الفلسطينيين في الشتات. ولا "الدولة اليهودية" قادرة على البقاء تحت وطأة "التهديد" الداخلي الذي يمثله "عرب الداخل" فضلا عن التهديد الذي يمكن أن يمثله في المستقبل "العرب اليهود" أنفسهم، وفوقهم الأقليات الأخرى.

إن الكيانين (الفلسطيني والإسرائيلي) غير قابلين للعيش عمليا ككيانين مستقلين. وسيظلان عاجزين عن استقبال مواطنين جدد. والتوترات فيما بينهما لن تزول، حتى ولو تم التوصل إلى تسوية توصف بأنها "نهائية". والحل على أساس الدولتين لن يعدو كونه هدنة سرعان ما سوف تنهار عند أول انفجار تثيره الصراعات الداخلية في أحد الكيانين، أو في كليهما معا.

هذا الواقع لا يُبقي إلا طريقا واحدا. هو "حل الدولة الواحدة". وهو الحل الذي عادة ما يقترن بالقول إنها يجب أن تكون "دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها"، أو دولة "ثنائية القومية".

إذا كان هذا هو الحل الواقعي الوحيد. فمن الحري بنا أن نكون حقيقيين بشأنه على الأقل. ليس من المعقول أن يكون لدينا حل واحد، ونقوم بإفساده. هذه وصفة لصراع يمتد إلى الأبد.

يجب أن نعترف: الفلسطينيون الذين يعرضون هذا الحل اليوم، لا يعرضونه بوصفه حلا، بل بوصفه "تهديدا". لأنهم بالأحرى يراهنون على "القنبلة الديمغرافية". والإسرائيليون يرفضون هذا "الحل" لأنهم يرون التهديد، ولأنهم يريدون أن يقولوا لنظرائهم الفلسطينيين "نحن لسنا سذجا، كما قد تتصورون".

ولكن، إذا كان لحل الدولة الواحدة أن يعيش، وأن يكون حلا حقيقيا، فان أول ما يتوجب فعله هو إبطال مفعول "القنبلة الديمغرافية" فيه.
إسقاط مُعامل العدد من المعادلة هو المدخل الأول لجعل هذا الحل واقعيا ودائما. السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل يمكن للديمقراطية أن تتجاهل "العدد"؟

أقول: نعم، يمكن.
يجب أن تحل "ديمقراطية القيم" محل "ديمقراطية العدد". فلحل تنازع قومي (يستجلب انقساما كليا مسبقا للعدد) فان قيم الديمقراطية يجب أن توضع قبل وفوق القيمة العددية التي يمثلها المتنازعون.

التنازل عن العدد كقيمة مسبقة للديمقراطية، سوف يُبطل تلقائيا كل "التهديدات" المتبادلة التي تعنيها "الهجرة" أو "عودة اللاجئين" للطرف الآخر. فوجود "عدد إضافي" يجب ألا يؤدي إلى زيادة التهديد، بل ألا يظهر كتهديد أصلا.
وضع "ديمقراطية القيم" في المقدمة، سوف يدفع "العدد" و"العدد الآخر" ليكونا مظهرا من مظاهر العيش المشترك، ويخرجهما من مجال المنافسة والتهديد.

لنقل، أن الكيان الذي يدعى "إسرائيل"، والذي سيترجم اسمه إلى العربية كـ"فلسطين"، هو كل "فلسطين التاريخية"، من النهر إلى البحر، ومن أقصى نقطة في الجليل إلى خليج العقبة.

هذا الكيان سينظر إلى مواطنيه على أنهم متساوون في الحقوق والواجبات. ولكنه، من اجل حفظ المساواة على المستوى القومي، فانه سيأخذ في الاعتبار أن مواطنيه يمثلون قوميتين رئيسيتين وبضعة أقليات صغيرة.

دستور هذا الكيان سيقر بأنه لا غلبة لقومية على أخرى. الفلسطينيون لا يحكمون الإسرائيليين بمفردهم، ولا يحكم الإسرائيليون الفلسطينيين بمفردهم.

القاعدة الدستورية الذهبية التي يمكن البدء بها تقول: إن الحكومة يجب أن تكون تحالفا يضم ممثلين عن القوميتين الرئيسيتين. وسواء كان رئيس الوزراء إسرائيليا يهوديا، أو فلسطينيا مسلما، أو واحدا من ممثلي الأقليات، فان حكومته ستكون حكومة يتناصف مقاعدها ممثلو القوميتين، وان يكون للأقليات نسبة معقولة بينهم.

ناخبو القومية "أ" سينتخبون عددا متساويا من النواب إلى البرلمان لما يختاره ناخبو القومية "ب". وسيُنتخب عددٌ معقول من النواب ليمثلوا الأقليات. وهذا سوف يعني أن الزيادة أو النقصان في عدد السكان بالنسبة للقوميتين سوف تصبح باطلة، أو غير ذات صلة.

أحزاب القومية "أ" تتنافس في بيئتها. كما تفعل أحزاب القومية "ب" في بيئتها أيضا. والفائز بالأغلبية في بيئته (حسب واحدة من الصيغ الانتخابية) سيكون هو المرشح الطبيعي المؤهل لتشكيل الحكومة. وعلى هذا "المرشح" أن يبحث عن قوة من بين ممثلي القومية الأخرى تعطيه الأغلبية الكافية داخل البرلمان لكي يحكم.

وفي كل انتخابات برلمانية، سيكون هناك "مرشحان طبيعيان" لقيادة تحالف حكومي. ومن يمكنه أن يكسب تأييدا أكبر بين ممثلي الطرف الآخر، هو الذي يقود الحكومة.
حزب "س" الإسرائيلي قد يتحالف على هذا الأساس مع حزب "ص" الفلسطيني، لتشكيل حكومة، إذا كان يستطيع أن يقود تحالفا، أو تحالفات، تعطيه تأييد أغلبية المقاعد في البرلمان.

كما يمكن أن يحصل العكس. إذ يقود حزب "ص" الفلسطيني تحالفا مع حزب "س" الإسرائيلي، لتشكيل حكومة وطنية مشتركة من ممثلي الطرفين.

والأولوية، في المشاورات لتشكيل الحكومة تذهب، بطبيعة الحال، للحزب الذي يكسب العدد النسبي الأكبر من المقاعد في البرلمان. فاذا فشل، تذهب المشاورات للحزب الذي يستطيع أن يشكل تحالفا أكبر.

هذه الصيغة أفضل، وتراعي الواقع الملموس، أكثر بكثير من الصيغة التي انتهت إليها الديمقراطية في جنوب أفريقيا، حيث كان للأغلبية العددية السوداء اليد العليا. والإسرائيليون يجب أن ينظروا إلى هذه الإمكانية على أنها حل واقعي، ليس لان التوازن الديمغرافي هو الذي يفرضها، بل لأنها تبطل أهمية المتغيرات الديمغرافية المستقبلية وتخرجها من الصراع.

ثم إن الانقسامات السياسية داخل الكنسيت ليست قليلة اليوم. وهناك وجود ملموس ومؤثر لنواب عرب. والإسرائيليون يملكون الكثير من الخبرة في التعامل مع حكومات إئتلافية. بل إن التحالفات هي جزء طبيعي من الحياة السياسية في إسرائيل. وعلى هذا الأساس، فلو دخل الفلسطينيون إلى اللعبة فإنهم لن يزيدوا الأمر تعقيدا. بالعكس تماما.

فالخيارات هي التي ستزيد. والحيوية والفاعلية هي التي سترتفع، وقيم الشراكة والتعايش هي التي ستنتصر في كل مرة ينشأ فيها تحالف حكومي إسرائيلي- فلسطيني جديد في البرلمان.

سوف تقتضي الحاجة أن تكون هناك حكومات محلية تحكم التجمعات السكانية القائمة حاليا. هذه "الحكومات" يجب تتلقى ميزانيات متساوية، على المستوى القومي، ولكنها تأخذ بالاعتبار حصة كل مواطن من الميزانية.

نعم. سيعني الأمر أن الإسرائيليين سوف ينفقون على الفلسطينيين الكثير من الأموال التي يكرسونها اليوم لأنفسهم. ولكن الأمر لن يكون تضحية أكبر من التضحية التي ما يزال يقدمها الألمان الغربيون لتنمية وتحديث ألمانيا الشرقية. ثم أن أموال المعونات الدولية يمكن أن تساهم بقسط كبير في ردم الفجوة.

مؤسسات الحكم المحلية، والتي غالبا ما ستكون ذات غلبة قومية واحدة، سوف تحكم مكوّنها السكاني، كما تحكم الأرض التابعة مباشرة لهذا المكون (المنازل، المراكز الخدمية، المزارع الخاصة). بقية الأرض تعود للدولة، لتقرر بشأنها المشاريع والأعمال التي تتلاءم مع الاحتياجات المشتركة للتنمية والتطوير.

وهذه المكونات السكانية يمكن أن تتوسع بنسب معقولة، عبر استقبال مهاجرين، أو من خلال النمو الطبيعي، من دون أن تتغير حصتها في التمثيل البرلماني.

التجمعات السكانية التي تضم قومية واحدة، تنتخب سلطتها المحلية من قومية واحدة. والتجمعات السكانية التي تضم أغلبية وأقلية، تنتخب ممثليها على هذا الأساس. أما التجمعات السكانية التي تتساوى فيها القوميتان إلى حد معقول، فإنها تنتخب ممثلين على غرار ما يتم فعله بالنسبة للبرلمان والحكومة المركزية.

ويمكن القبول سلفا بان التوازنات القائمة اليوم في البلدات والمدن لن تتغير. فما يشكل غلبة يهودية يجب أن يحافظ على غلبته. وما يشكل غلبة فلسطينية يجب أن يحافظ عليها أيضا.

يمكن أيضا الجمع بين نوعين من وسائل انتخاب السلطة التشريعية بحيث يجري انتخاب مجلس نواب، وفقا لصيغة، بينما يتم انتخاب مجلس للشيوخ وفقا لصيغة أخرى. وساعتها فان التشريعات، والتشكيل الحكومي، يجب أن تجتاز المجلسين معا.

التفاصيل والخيارات بالنسبة لهذه الوسائل كثيرة للغاية، ويمكن للإبداع الدستوري أن يتوصل إلى صياغات لا نهائية لمعالجتها. إلا أن القاعدتين المتلازمتين اللتين يقوم عليهما هذا الحل هما:
أولا، الشراكة على المستوى القومي.
وثانيا، المساواة على مستوى الأفراد.

هذا الحل، سوف لن يُبطل التهديد الديمغرافي وحده، ولكنه يُبطل التنازع على الأرض أيضا. كما يُبطل كل الأسس الأيديولوجية للنزاع، من دون أن يكون الأمر سببا لإثارة مشاعر بالهزيمة.

الأيديولوجيا التي صنعت الصراع وأججته، هي التي سوف تسقط في آخر المطاف، وليس المزيد من البشر. وستظهر حاجة لمقاربات فكرية جديدة بين الطرفين.
انه مجرى آخر للتاريخ، غير المجرى الذي بقينا نسير عليه حتى الآن.

الإسرائيليون يستطيعون أن ينظروا إلى "فلسطين التاريخية" على أنها وطنهم النهائي. وكذلك الفلسطينيون. ويستطيع كل من يرغب من اليهود أن يأتي للعيش في إسرائيل. كما يستطيع كل من يرغب من اللاجئين الفلسطينيين أن يعود أيضا، وذلك في إطار برنامج وطني مشترك لـ"سياسات العودة" يأخذ بعين الاعتبار ضغوط الكثافة السكانية وامكانيات الأرض نفسها على الاستيعاب.

التاريخ الذي يقدم نفسه اليوم كتهديد وككارثة، سيكون تاريخا مختلفا كليا. سيكون تاريخ شراكة، لا تاريخ صراع.
هذا الحل، معقول ومقبول، إذا أمكن النظر للمسألة من زوايا الواقع الأخرى:

يوجد مهاجرون عرب ومسلمون يعيشون في أوروبا، أكثر مما يوجد مهاجرين يهود في فلسطين. ويحمل ملايين العرب والمسلمين جنسيات أوروبية أكثر مما يحمل يهود جنسيات إسرائيلية. ومثلما أن من المعقول والمقبول أن تجد 1.5 مليون مهاجر عراقي يلجأون الى سورية هربا من الظلم، فيجب أن يكون من المعقول والمقبول أن يلجأ 1.5 يهودي عربي إلى فلسطين هربا من الخوف. هؤلاء اليهود، هم عرب. ومثلما يستطيع اليهودي المغربي أو اليمني أن يذهب ليعيش في دمشق أو القاهرة، من دون أن يبدو الأمر وكأنه كارثة، فليس كثيرا على الفلسطينيين أن يقبلوا بيهود عرب على أرضهم، ولا أن يضيفوا عليهم يهودا آخرين، طالما أن الوجود السكاني سيخرج من سياق الصراع ليدخل في سياق العيش المشترك.

ومثلما أن حل الدولة الواحدة، سيوفر الفرصة أيضا للكثير من الإبداع السياسي والأيديولوجي لإعادة بناء علاقة الفلسطينيين مع "العرب اليهود"، فانه سيمكن لليهود الغربيين أن يعيدوا النظر في تاريخ العلاقة مع العرب ككل.
غرناطة جديدة، أمر ممكن حقا.

هذا هو الحل الإيجابي الوحيد. وليس أمامنا دونه، سوى الجحيم. الإسرائيليون لن يقبلوا هذا الحل بسهولة، وذلك لسببين اثنين على الأقل:

الأول، لأنه سيشكل تحديا لمدى قدرة "الديمقراطية الإسرائيلية" على أن تكون ديمقراطية للجميع، لا ديمقراطية ذات طبيعة عنصرية.

والثاني، لأن الإسرائيليين يتصرفون كطرف "منتصر" بالمعنى العسكري للكلمة. وكأي منتصر، فان أول شيء يسعى إلى فعله هو إملاء شروط الهزيمة على الآخرين.

ولكن الواقع يقدم تحديا حقيقيا لهذين السببين.
أولا، إن اجتماع مصالح "عرب الداخل" و"العرب اليهود"، والعثور على سياسات استقطاب فيما بينهم، سوف يدفع في آخر المطاف إلى تفجير "قنبلة الديمقراطية" داخل إسرائيل نفسها.
وثانيا، الهزيمة العسكرية قابلة للرد. ومع ذلك، فحتى لو لم يأت الرد، فان "الانتصار" العسكري الإسرائيلي في ميدان المعركة، ما يزال يترافق مع هزيمة ديمغرافية مكشوفة ومعلنة وتزداد وضوحا كل يوم.

حل السلطة الفلسطينية، وتحول النضال الفلسطيني إلى حركة حقوق مدنية، سوف يفتح طريقا آخر لإنهاء الإحتلال ولبناء ديمقراطية حقيقية تجمع بين الشعبين على أسس المساواة والاعتراف المتبادل بالحق في العيش بأمن وسلام في وطن مشترك.

السلطة الفلسطينية الراهنة، وعلى الرغم من استقالة رئيسها، ما تزال تتعلق بأهداب الوهم بإمكانية المضي قدما بـ"حل الدولتين".
هذا الوهم سوف يتبدد في آخر المطاف. فالمعروض من خلاله هو اعتراف بالهزيمة وليس حلا. وحتى إذا تم فرضه، فانه لن يعيش.
دولة ديمقراطية واحدة، هي الحل التاريخي الصحيح.

التعليقات