انتظرت أياما، وكالعادة "الصمت والتكتم" أضحتا سمتين متلازمتين لمراوغة إعلامية وسياسية، وعليك حينها أن تستنتج ما تستنتج.. وفي الإعلام والصحافة ثمة مصطلح يقتحم يومياتنا: الحيادية!
الحيادية باتت من المصطلحات التبريرية للهبوط بمستويات العقول لتصبح على الصراط المستقيم للفكر السياسي الانتهازي المهيمن على القرار، والساعي بكل قوة لخلق "رأي عام" يخدم في النهاية خيارات بعينها.. وعلى مذبح هذه الحيادية المختلقة تبريرا يجري استهبال واستصغار العقول نحو خلق أمر واقع يخدم في النهاية برامج وسياسات طبقة معينة متحالفة على المصالح وفرض الأدوات..
بالنسبة للبعض الإعلامي على الساحة الفلسطينية فإن خبرا بحجم: أعلن منظمو مؤتمر «هرتسليا للأمن والمناعة القومية ( لدولة إسرائيل)» ، أن رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض سيشارك في المؤتمر الذي تنطلق أعماله نهاية شهر يناير الجاري! لم يستحق لا الذكر ولا المناقشة ولا حتى التعليق سلبا أم إيجابا!
قلت بأني انتظرت أياما علي أجد الخبر معللا، على الأقل احتراما للمهنية وقبله لعقل الإنسان الفلسطيني الذي يسمع يوميا عشرات المتناقضات في الخطابين الرسمي والحزبي.. لكننا، فيما يظهر من هذه "الحيادية" القاتلة، صرنا نمر على الخبر كما لو أنه يحدث في غابات الأمازون، وبالتالي يهم أكثر أن يشعر العقل بتخمة من خبر التلاسن حول ما تقوم به "ميليشيات" هنا وهناك.. نعم لنتخيل إعلاما يتحدث بلغة ميليشياوية فماذا سيكون الناتج؟
لا مجال لإنكار أو إخفاء هذا الحجم من بشاعة البحث عن مبررات تهوي بالعقل إلى منحدرات لا يمكن وصفها إلا بكارثية الخطوات. فحين يعرف المرء ما يبحثه مؤتمر هرتسيليا المذكور فلا تصور تآمريا عندي بأن فياض يذهب للمشاركة بحثا عن "الأمن والمناعة القومية" لدولة الاحتلال، كما لا يوجد وهم عند الكثيرين بأن مثل هذه المشاركة ستعني وضع المزيد من "لبنات" مشروع " مؤسسات الدولة الفلسطينية".. يبقى التبرير الذي ساقه بعض الأصدقاء "المناكفين" من الذين نفوا أولا الخبر جملة وتفصيلا.. كما نفى بعض الأصدقاء الخبر الذي تحدث عن ذهاب "رفيق" ضمن وفد نتنياهو لبولندا.. لكن حين تأكد الخبر فإن العلل الجاهزة كثيرة..
أسوأ ما يقدم في تبرير مثل هذه الخطوات أننا حقا أمام "حالة" تبحث عن عرض ذاتها بشكل مهين للتاريخ والعقل الفلسطينيين.. فـ"استغلال المنابر" لما يسمى "التأثير" على صناع القرار والرأي العام يعني أن البعض مستعد وبكل بساطة أن يتحول إلى زينة في رتوش التجميل الواهي لاحتلال قبيح قبح ما مورس في الحرب العالمية الثانية وأكثر منه على مدار عقود المشروع الصهيوني وقمته في طرد ومحاولة إنهاء كل الوجود الفلسطيني ولو بالإنكار..
ثمة حالة أخرى حللها وعرضها المفكر العربي عزمي بشارة عن "طلب الاعتراف" وكأننا أمام مثلين صارخين أتحمل أنا شخصيا مسؤولية إسقاط هذا الطلب في الاعتراف عليهما.. ففي حالة السيد فياض، الذي يرأس حكومة في الضفة المحتلة لا خطوط ولا حدود فاصلة بين المعلن على الشعب الفلسطيني مرارا وتكرارا بالتزام ساسته بشروط معينة، قد لا تصل في حدها الأدنى لمستوى ما يراه الشعب، وبين هذا اللهث وراء تغليف الخطوات الكارثية ببعض مسميات العقلانية والتحضر.. فمزالق إثارة الإعجاب وطلب الاعتراف في حالتي المشاركة في مؤتمر هرتسليا من جهة والسفر ضمن وفد صهيوني لإحياء ذكرى المحرقة من جهة أخرى يكرسان العلاقة الدونية والدوران في حلقة مفرغة يحدد ملامحها الاحتلال المباشر والفصل العنصري..
هل نذهب مثلا لكي نبث وعيا عند واضعي كل الاستراتيجيات الصهيونية في هرتسليا يتسم بإظهار مدى حرصنا على التعايش وقبولنا واعترافنا بما هو أمر واقع مفروض بالقوة؟ أم أن هذه المشاركة سوف تؤدي بالمشاركين للشفقة على الشعب الفلسطيني وبالتالي الاعتراف بأن الانسحاب والإقرار بالحقوق الوطنية يكمن بالاعتراف بوجود قيادة قادرة على التفاوض؟
في حالة المحرقة ثمة لغط غير مفهوم وانتهازية واستغلال صهيونيين لمفهوم "معاداة السامية"، فمن غير المعقول أن تكون نسبة كبيرة من الأوربيين الذين صنعوا الهولوكوست قد وصلوا إلى الاستنتاج بأن الحركة الصهيونية قامت وتقوم باستغلالها واستغلال شعار معاداة السامية للابتزاز بينما يحاول البعض وهما كسب الثقة والرضا على الطريق المحدد لصورة العرب على أنهم يحتاجون لإثبات "ساميتهم".. لا أظن بأن العرب منشغلون كثيرا في مسألة نكران المحرقة، في ذات الوقت ليس مطلوبا إثبات أن العرب جزء من التحريض أو التنفيذ..
إن محاولة الظهور "المتحضر" تحمل من جهة ثانية "مزالقها" التي يستغلها الفكر الصهيوني باعتبار أن "العرب قبل ذلك كانوا أقل تحضرا".. وهل يظن أصحاب تلك الخطوات بأن مثل هذا الظهور سيعني نهاية لتطبيق سياسات الفصل العنصري والتحريض على الوجود الفلسطيني في فلسطين التاريخية؟.. ربما يظن البعض ذلك.. لكنني أشك بأن الليبرمانية وفاشية التستر وراء الدين وتحالفاتهما السياسية في إسرائيل ستقف أمام المرآة لتعترف باكتشاف عبقري بأنه للعرب حق في الحياة.. مهزلة حقيقية أن نبحث عن هذا الحق بعبودية ودونية لا مثيل لها..
وليعذرنا الأصدقاء من أصحاب النظرة التبريرية على إبداء الرأي بما لا يتماشى وقراءتهم السطحية لهاتين الخطوتين!
التعليقات