31/10/2010 - 11:02

"محكمة العدل العليا"- الملك عارٍ../ حسين أبو حسين

تنتهك إسرائيل، منذ 42 عامًا، بشكل مستمر ومنهجي حقوق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، خلافاً لواجباتها المفروضة عليها بموجب القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، بمباركة محكمة العدل العليا، التي قبلت الموقف الرسمي الإسرائيلي بعدم سريان اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي المحتلة، وصادقت على استخدام وسائل تتناقض مع تعليمات معاهدة جنيف مثل هدم البيوت والإبعاد والتعذيب والاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيين ونقلها إلى ملكية المستوطنين.

فسحت المحكمة الإسرائيلية العليا، منذ عام 1967، المجال أمام سكان الأراضي المحتلة اللجوء للمحكمة لمراقبة عمل قانونية أجهزة الجيش، كونها الهيئة القانونية المحلية الوحيدة التي يستطيع الفلسطينيون اللجوء إليها ضد سلطات الاحتلال.

تشير تجربة السنين الطويلة إلى أن المحكمة تنازلت عن دورها بمراقبة الجيش، وأضفت الشرعية على نشاطاته العدائية، المرة تلو المرة، مما يستدعي إعادة النظر في مدى الجدوى بالتوجه إليها.

سنسلط الضوء هنا على بعض القضايا العشوائية التي صدرت حصراً خلال الأسبوعين المنصرمين عن هذه المحكمة لاستقراء موقفها من قضايا الفلسطينيين المقدمة أمامها، بهدف تعريه وجهها وتعريف عامة الناس على مدى "عدلها وإنصافها".

يقتبس محاضرو الحقوق وطلابه قرارات المحكمة العليا، التي تتطرق لحقوق الإنسان وكرامته، وكأنها كلام مُنزل، ولكن هذا الحق يصبح إسفافاً وكلاماً فارغاً غير قابل للتطبيق عندما يكون المستهدف منه عربيًا.

أكدَّت القرارات العديدة لهذه المحكمة المكانة الدستورية المميزة لحق الإنسان في الكرامة، كرامة الإنسان في حياته وفي مماته وفي حق أقاربه الذين يجلُّون له الاحترام في إحياء ذكراه. لقد تطرقت المحكمة كثيرًا لهذا الحق، وقررت أن لعائلة الميت الحق الكامل في حفظ ذكرى فقيدها بالطريقة التي يرونها مناسبة، وجميعنا يذكر الجهود التي بذلتها إسرائيل لاستلام رُفات جنودها لدفنهم وإحياء ذكراهم. لقد أعادت إسرائيل لسوريا، بعد حرب 67، 572 أسيراً لقاء أسير إسرائيلي واحد ورُفات ثلاث جنود، كما أعادت إسرائيل في عام 1998 رُفات 40 محارب لحزب الله لقاء رُفات جندي البحرية ايتمار ايليه.
من جهة أخرى، ما زالت إسرائيل تتعامل بمنطق منافٍ للغاية عند الحديث عن رُفات الفلسطينيين والعرب.

إنَّ فظاظة تعامل الاحتلال مع رُفات الشهداء الفلسطينيين والعرب أصبحت بمثابة مُسَلَّمة، ومنذ عام 67 أضفت إسرائيل ضباباً كثيفاً على سياستها بشأن مقابر رُفات أعدائها وحفظ هويتهم، وامتنعت منذ العام 1994 من إعادتها، إلا في حالات نادرة، ناهيك عن أن رُفات غالبية الفلسطينيين المدفونين في إسرائيل مدفونة بإهمال وإهانة، مما يُعْسِر عملية التعرف على هويتهم في المستقبل، كما أشار مركز "بتسيلم" قي تقريره المنشور عام 1999.

قام مركز "الدفاع عن الفرد" في القدس بتقديم التماس للمحكمة في العام 2003، طالب فيها بإعادة رُفات أربع فلسطينيين اثنتين لأخوين قتلهما الجيش عام 1998، وأخريين، الأولى محتجزة منذ العام 2001 والأخرى منذ عام 2003.

اعترضت الدولة في البداية على إعادة الرُفات بحجة أن العائلة تنوي دفنها على مقربة من إحدى المستوطنات، الأمر الذي من شأنه نشوب أعمال شغب وإخلال بالأمن. تراجعت الدولة عن موقفها بإعادة الرُفات، بعد تقديم الالتماس، واشترطته بضرورة تنسيق الأمر مع السلطة الفلسطينية لمنع المس بالأمن وسلامة الجمهور. على الرغم من موافقة السلطة الفلسطينية على الشروط الإسرائيلية، بالحفاظ على الأمن أثناء تشييع الجثث وعلى إجراء جنائز مختصرة، تراجعت إسرائيل مرة أخرى عن موافقتها في العام 2006، مطالبة بضرورة إجراء فحص الحمض النووي، للتحقُق من هويتهم وتحميل الأهالي- وهم صاغرون- تكلفة الفحوصات المكلفة للغاية، مع إنها سارعت إلى هدم بيوت أهاليهم دون التقيد بحمضهم النووي!

قبل إنجاز الفحص المخبري، تراجعت الدولة عن موقفها بإعادة الرُفات مرة أخرى بعد أسر جلعاد شاليط وريجف وجولدفاسر من أجل استخدام الرُفات كورقة مقايضة في عملية التبادل المستقبلية.

في مطلع العام 2009، وفي إطار النظر في الالتماس، أعلمت النيابة العامة المحكمة موافقتها على إعادة رُفات الفلسطينيين التابعين لتنظيم فتح، وأنها لن تعيد رُفات أعضاء حماس والجهاد الإسلامي، ومع ذلك نكثت تعهدها مرة أخرى، مما اضطر "مركز الدفاع عن الفرد" للالتماس مجدداً للمحكمة. رغم أن جلسه النظر في الالتماس أجريت يوم 09/12/2009 المنصرم، وبعد مرور مدة لا بأس بها من إنجاز عملية التبادل الأخيرة مع حزب الله، التي أعادت رُفات ريجف وجولدفاسر، وإقرار النيابة بعدم طلب الفلسطينيين شمل الرُفات في عملية التبادل المستقبلية، استحسنت المحكمة العليا موقف النيابة بضرورة تأجيل النظر في الالتماس، بناءً على رغبة الدولة في استخدام الرُفات كورقة مقايضة.

هي نفس المحكمة التي تقول كلاماً مدراراً عن كرامة الإنسان الحي والميت وأقاربه، تغلق الباب على رُفات الشهداء الفلسطينيين، وتجافي أهاليهم وتعاقبهم على ذنب لم يقترفوه، وتلجأ مرة أخرى إلى خاتمها المطاطي الممسوح لإضفاء الشرعية على استمرار ممارسات الاحتلال البغيضة، ناهيك عن التسويف وتقلب المواقف.

طالب "مركز الدفاع عن الفرد"، منذ عام 1988 وحتى الآن، بإعادة رُفات 100 فلسطيني لعائلاتهم، أعيدَ 20 منها فقط، وما زالت باقي الطلبات قيد البحث، ويعود الأقدم منها إلى بداية تسعينيات القرن الماضي.

تُشَّكِّلُ هذه السياسة لبنة إضافية في العقوبات الجماعية المفروضة على الشعب الفلسطيني، وتمس في صميم العقيدة الدينية والعادات والتقاليد المتعلقة بإكرام الميت ودفنه.

في سياق آخر، رفضت المحكمة التماس عائلات سجناء من قطاع غزة، المطالبين بالسماح لهم بزيارة أقاربهم الأسرى في السجون الإسرائيلية، استناداً إلى سياسة الحكومة بعدم السماح بحرية الحركة من والى قطاع غزة منذ كانون الثاني 2006، موعد صعود حماس للسلطة وحالة الحرب والمواجهة القائمة بين السلطة هناك وبين إسرائيل.

لم تطلق إسرائيل سراح عشرات الفلسطينيين الغزيين الذين أنهوا فترة حكمهم، بناءً على تقارير أمنية تشير إلى إحتمالية عودتهم إلى "دائرة العنف"، وردت المحكمة التماسهم بناءً على قانون المحاربين غير الشرعيين الذي تم تشريعه في العام 2002.
كما تم ردّ التماس قاصر من سكان الضفة الغربية مسجون في إسرائيل منذ كانون أول 2008 طلب السماح لعائلته بزيارته في السجن.

لم يكن أفضل مصير الطالبة الغزية، برلنتي جريس بولص أفضل، وهي من مواليد عام 1990 في الكويت، التحقت بجامعة بيت لحم عام 2005، وأنهت أربع سنوات وبقي عليها فصل واحد لإتمام دراستها والحصول على اللقب الأول، إلا أن حظها ساء، عندما تم فحص مستنداتها عند أحد الحواجز حيث أبعدت إلى قطاع غزة، دون السماح لها بالعودة لإكمال تعليمها، بحجة أنها لم تحصل أصلاً على تصريح بالخروج من قطاع غزة.

ذات المحكمة ألغت السجن الفعلي لمدة أربعة شهور (!) الذي فُرِضَ على قاصرة إسرائيلية أدينت بتهمة الاعتداء على فلسطينيين والتنكيل بهم، كانوا يقطفون ثمار الزيتون عام 2005 وإتلاف محصولهم والاعتداء على رجال الشرطة بحجة أنها بلغت سن الرشد وأصبحت أمًا لقاصر.

هذه عينة عشوائية لعدالة المحكمة العليا خلال أسبوعين إذ أنها تقوم، المرة تلو الأخرى بإضفاء الشرعية على ممارسات الاحتلال وسياساته، مثلما فعلت خلال عمر الاحتلال بأكمله مما يستدعي موقفاً فلسطينياً واضحاً وصريحاً بضرورة مقاطعة المحكمة العليا وعدم اللجوء إليها قطعياً.

لقد أضفت المحكمة العليا شرعية على جرائم الاحتلال وممارساته القمعية في شتى الميادين: قتل وسجن وإبعاد عشرات الآلاف من الفلسطينيين، مصادرة الأراضي الفلسطينية وإقامة المستوطنات عليها، سياسة هدم المنازل والإبعاد، إقامة جدار الفصل العنصري، فرض التقييدات على حرية الحركة داخل الأراضي المحتلة من خلال مئات الحواجز الثابتة والمتنقلة، العقوبات الجماعية ومنع مئات آلاف الفلسطينيين من السفر إلى الخارج، منع المرضى من العلاج الطبي، الاعتقالات الإدارية، التصفيات الجسدية والسماح لقطعان المستوطنين السائبة بالتنكيل بحياة الفلسطينيين. أما قطاع غزة، فقد أصبح، وبمصادقة المحكمة العليا، بمثابة السجن الأكبر في التاريخ البشري، جراء فرض العزل والإغلاق ومنع الماء والغذاء والدواء عن مواطنيه منذ صعود حركة حماس إلى السلطة مطلع العام 2006.

بلغت جرائم إسرائيل على الشعب الفلسطيني خلال العام المنصرم ذروة لم يكن ليتصورها عقل بشري، إذ أنها قامت أمام بصر العالم وسمعه باستعمال أسلحة محرَّمة وقتلت وجرحت وشرَّدَت الآلاف المؤلفة.

إن المراقب الموضوعي لموقف المحكمة العليا من فلسطينيي الأراضي المحتلة في آلاف القرارات الصادرة عنها لا يسعه إلا أن يرى أن هذه الهيئة القانونية ما هي إلا جزءٌ من سيرورة الاحتلال التي لم تنصف ولا تستطيع أن تنصف الفلسطينيين.

إن مصلحة الفلسطينيين الوطنية تقتضي عدم اللجوء للمحكمة العليا لعدم ثقتهم بها، ولتوصيف حالها على أنها مؤسسة قضائية من مؤسسات الاحتلال، والاستعاضة عن ذلك باللجوء إلى المحافل القضائية الدولية،التي يمكن التعويل عليها، وخير دليل على ذلك الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بخصوص جدار الفصل العنصري الصادر عام 2004، وتقرير جودلستون حول جرائم الحرب على غزة. إن المؤسسات الحقوقية الفلسطينية وناشطي حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة مطالبون بإعادة النظر في موقفهم من مسألة اللجوء للمحكمة العليا، وتفضيل مصلحة شعبهم الوطنية على سياسة الصناديق المُمَوِلَة لمشاريعهم، وموقف شركائهم من مؤسسات حقوق الإنسان الناشطة في الداخل، والتي تقوم بتقديم الالتماسات المشتركة للمحكمة العليا.

إنني أتحدى أن يقوم أحدهم بلفت نظري- الذي ربما زاغ – عن قرارٍ واحدٍ أنصفت فيه هذه الهيئة القضائية شأناً فلسطينياً طيلة 42 عامًا، ابتداءً من "ألون موريه" في آخر سبعينيات القرن الماضي وحتى قرار قطع التيار الكهربائي والماء ومنع الغذاء والدواء عن غزة عام 2008.

إنَّ اتخاذ موقف جريء من هذه القضية يعيدنا إلى أبجديات السياسة ويتوافق مع موقف خبراء القانون البارزين في العالم وموقف المجتمع الدولي الذي يعتبر القدس الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان بمثابة أراضٍ محتلة خاضعة لمعاهدة جنيف الرابعة ومعاهدة لاهاي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وهذا الاعتقاد مبنيٍ على مبادئ قانونية سليمة وعلى تفسير المعاهدات.

من منا لا يعرف قصة الملك العاري، الذي نسج له الخياطون المحتالون ثياباً لا يراها الحمقى وصدق الملك الأحمق كلامهم وخرج للناس عاريًا كما ولدته أمه، ولم يجرؤ أحدٌ من الرعية على قول الحقيقة إلى أن صاح طفلٌ في الجمهور: الملك عار... فانتبه الجمع إلى حقيقة أنهم كانوا يكذبون على أنفسهم ويصدقونها.

يجب أن نكون ذلك الطفل الذي يصرخ وربما كانت صرخاته هي منفذ النجاة الوحيد، وعلينا أن لا نُمَوِّهْ الأمور أو نغير من حقائقها، وحرصًا من أي خياط محتال، لنرفع أصواتنا مؤكّدين عدم ثقتنا بكل مؤسسات الاحتلال ومن ضمنها هذه المحكمة، ولتأخذ الأسماء حقائقها ولنقل أنها ليست محكمة عدل عليا بل محكمة احتلال عليا عارية.

التعليقات