ربما نكون أمام أخطر سبتمبر يواجهه العرب منذ عقود، وبالتحديد منذ بداية السبعينات حين انتهى «أيلول الأسود» الذي شهدنا فيه مأساة القتال بين الفلسطينيين والأردنيين والتي انتهت بمأساة أخرى بفقد الزعيم جمال عبدالناصر بعد نجاحه في وقف شلال الدم في الأردن من خلال قمة عربية طارئة التأم شملها في 48 ساعة لتنجح في النهاية في تحقيق المصالحة.
سبتمبر الذي نواجهه الآن، تمتد المواجهة فيه على طول الساحة العربية، وشلالات الدم في العراق المنكوب لا تخفي تساقط الشهداء على الأرض الفلسطينية، ولا الأوضاع السائرة نحو الانفجار المدمر في لبنان، ولا المأساة التي اعتاد الجميع عليها في الصومال، ولا تقسيم الأمر الواقع في السودان، ولا انتظار الكل في عالمنا العربي لما هو أسوأ.
وكل قضية من هذه القضايا كنا سنصبح أقدر على مواجهتها لو أننا امتلكنا الرؤية الواحدة التي تستوعب الخلافات الجزئية، وتتحرك من أن المصير العربي هو مصير مشترك. وهو أمر لم تستطع أن توفره لنا حتى الآن كل المصائب التي لحقت بنا، وكل المصائب التي تنتظرنا.
والنتيجة أن قضايانا أصبحت جزءاً من صراع بين قوى خارجية على مستقبل المنطقة، وأننا في ـ في غياب الإرادة العربية المستقلة والمنحازة فقط للمصلحة العربية ـ نواجه خطر أن يكون مستقبلنا ـ كما كان ماضينا (قبل الاستقلال) ر هناً بـ «اتفاق ودي» بين أطراف خارجية تسعى لتقاسم النفوذ على أرضنا، أو بحسم عسكري ندفع ثمنه من استقلالنا ومن ثرواتنا التي ضحينا وقاتلنا من أجل استردادها من الذين نهبوها لعقود طويلة.
وهكذا ندخل شهراً شديد الخطورة على أوضاع المنطقة. ففي سبتمبر تتلاحق الأحداث على كل الجبهات: في العراق سيصدر التقرير المنتظر من قائد القوات الأميركية والسفير الأميركي هناك، والذي يفترض أن يكون الأساس الذي تحدد الإدارة الأميركية سياستها المقبلة في العراق بناء على توصياته.
وفي لبنان تبدأ المهلة الرسمية لانتخاب الرئيس القادم والتي تستمر لشهرين حاسمين في تاريخ البلد المهدد بالتقسيم وما هو أسوأ. وفي فلسطين يستمر تثبيت الأمر الواقع المرير القائم على إمارة لحماس في غزة وإمارة لفتح في الضفة، وتأتي وزير ة الخارجية الأميركية رايس للدفع في طريق الاجتماع الذي دعا إليه الرئيس الأميركي لـ «تحريك!!» القضية الفلسطينية كمال قال.
والكل يعرف أن فلسطين آخر ما يفكر فيه أكثر الرؤساء الأميركيين انحيازاً لإسرائيل منذ نشأتها، فإذا فكر (والتفكير على كل حال فريضة غائبة بالنسبة للرئيس الأميركي) فالهدف ابعد ما يكون عن المصلحة الفلسطينية، والنتيجة المطلوبة هي توفير غطاء عربي للفشل الأميركي في المنطقة، وعلى حساب العرب ومصالحهم بالطبع.
والسؤال: ماذا يفعل العرب في هذه الظروف الخطيرة؟ وفي غياب استراتيجية أو حتى مجرد تنسيق للمواجهة؟ وهل سيرضون في النهاية بالدور الذي تحدده واشنطن، فيصبحون مجرد وسيلة لإنقاذ الرئيس الأميركي وهو يتجرع سم الهزيمة في العراق، وتتحول قضية فلسطين ومثلها لبنان إلى جزء من الصراع على مستقبل المنطقة يكتفي العرب فيه بدور المتفرج في الفصل الأول ثم بدور الضحية في الفصول التالية؟
في بداية الغزو الأميركي للعراق، ومع السرعة غير المتوقعة لانهيار الدفاعات العراقية ونجاح العمليات الأولى لقوات الغزو، كانت الاستراتيجية الأميركية تقوم على استبعاد أي دور عربي حتى من الدول التي وفرت قواعد الانطلاق للقوات الأميركية. وكانت كل الخطوات الأولى تسير في طريق واحد هو الهيمنة الأميركية الكاملة والسيطرة على ثرواته البترولية الضخمة ثم استخدامه قاعدة انطلاق لوضع المنطقة العربية تحت السيطرة ثم حصار إيران حتى تقع من الداخل.
ويتحقق بذلك الأساس المطلوب لإمبراطورية أميركية تستطيع أن تمد هيمنتها بعد ذلك إلى دول أواسط آسيا البترولية مستغلة الأوضاع السيئة حينذاك لروسيا، ومن ثم تضع المرشحين المحتملين لمنافستها على زعامة العالم (من الصين إلى أوربا إلى اليابان) في الموقف الأضعف حين يكون تقدمها مرتبط ببترول واقع تحت الهيمنة الأميركية.
المهم هنا هو أن الاستراتيجية الأميركية كانت تستبعد العرب من الاقتراب من العراق وكانت تبني نظاماً سياسياً داخلياً يقوم على الطائفية عن عمد، حيث كان العملاء العراقيون الذين شاركوا من خلال صلتهم بالمخابرات الأميركية أو باللوبي المسيطر على القرار في واشنطون قد أشاعوا نظريتهم بأن شيعة العراق كلهم سيرحبون بالغزو الأميركي، وانهم سيكونون العون على حكم العراق، ومن ثم نشر النفوذ الأميركي في الخليج، وأنهم أيضا يستطيعون أن يلعبوا دوراً في اختراق إيران لمصلحة «المنقذ» الأميركي.
ومن هنا كان «تصميم» نظام الحكم الجديد في العراق تحت الاحتلال على أساس طائفي. ومن هنا أيضا كان الإصرار على استبعاد العرب (والأمم المتحدة أيضا) وعلى زرع نوع من القطيعة مع العالم العربي ونشر حملة كراهية ضد القومية العربية وتحمليها (وتحميل العرب جميعاً) مسؤولية أي أخطاء للنظام العراقي السابق تحت دعوى أنه يمثل القومية العربية التي ينبغي ألا يكون لها وجود في العراق أو في غير العراق من الأقطار العربية التي ينبغي أن ينصرف كل منها لشؤونه الداخلية وحدها. وفي هذا الإطار، ومع التبشير الأميركي بديمقراطية على النموذج العراقي، انطلقت دعوى (مصر أولا، والأردن أولا، وإريتريا أولا.. الخ)!
وفي لبنان، ومع انطلاق الأزمة باغتيال الرئيس الحريري، انطلقت الآلة الأميركية بتصور أنها تستطيع أن تقدم «النموذج» الديمقراطي الذي عجزت عن تقديمه في العراق. ومرة أخرى كان جزء هام من المخطط يقوم على أبعاد الطرف العربي، واعتبار الانسحاب السوري نهاية لارتباط لبنان بمحيطة العربي، ولم يستغرق الأمر طويلا لكي يثبت هذا المخطط فشله حتى قبل حرب يوليو التي كشفت كل الأوراق، وبينت أن واشنطن كانت أكثر عداء للمقاومة اللبنانية من إسرائيل، وأن إسرائيل لم تكن تخوض الحرب من أجل مصالحها فقط، بل من أجل تنفيذ مخطط أميركي اكبر لا يقتصر عند حدود لبنان بل يشمل المنطقة كلها.
ورغم فشل الحرب وانهيار المخططات الأميركية، فمازالت أطراف عديدة حريصة على ألا يكون الحل في لبنان عربياً، ومن هنا السعي لإفشال كل الجهود التي بذلت من الجامعة العربية أو من أطراف عربية لها صلاتها ونفوذها، ومن هنا الحرص على تأجيج الخلاف السعودي ـ السوري وعدم إتمام المصالحة العربية ـ العربية التي يمكن أن تفتح أبواباً للحل تحرص أطراف خارجية على إبقائها مغلقة ويدرك بعض أمراء الطوائف أن فتحها سينهي أدوارهم.
ومن هنا يأتي التصعيد ويتم إفشال أي حل عن عمد، ويتم تهديد كل من يسعي للحل التوافقي الذي لا حل غيره، وتوجه التهديدات لكل من يوافق على الحل الوسط بأنه خائن، ويظل بعض أمراء الطوائف في سعيهم لمنع توافق أظن أنه ليس عسيراً إذا تخلى هؤلاء عن رهاناتهم الخارجية.
وفي فلسطين التي تعيش فصلاً شديد السواد من مأساتها تبدو الصورة مختلفة من حيث الدور العربي ولكن من حيث الشكل فقط. فبعد سنوات طويلة على مسيرة «أوسلو» تبدو الخسارة فادحة على كل المستويات، وتتراجع القضية بفعل أوسلو وملحقاتها، وبفعل الفشل والانقسام في القيادة الفلسطينية، وبفعل العجز العربي والانحياز الأميركي غير المسبوق لإسرائيل.
والنقطة التي نتوقف عندها هي أن العرب الذين طلب منهم الابتعاد عن القضية بعد «أوسلو» تحت زعم أن النزاع هو نزاع إسرائيلي ـ فلسطيني (وليس عربيا) وأن على العرب أن يقبلوا بما تقبل به القيادة الفلسطينية. هؤلاء العرب هم الذين طلب منهم بعد الفشل الأميركي في المنطقة أن يقدموا ما يطمئن إسرائيل، ومع ذلك فعندما قدموا المبادرة العربية وضعت جانباً.
وهاهم اليوم مطالبون بأن يشاركوا في عملية «التحريك» التي يدعو لها الرئيس الأميركي، وأن يحضروا اجتماعاً يدركون أنه لن يحل شيئاً، وأن يقدموا خطوات مجانية على طريق التطبيع مع إسرائيل.. كل ذلك لكي تكون هناك تغطية للرئيس الأميركي لعلها تنقذه من آثار الجريمة التي ارتكبها بغزو العراق، ولكي يكون ذلك مبرراً للتورط في استكمال السياسة الأميركية في العراق و في المنقطة.
وهكذا يأتي سبتمبر، وتدخل المنطقة خريفاً تمتد فيه بؤر التفجر على طوال الساحة العربية وعرضها. وأيا كانت الاحتمالات فلا أظن أن عاقلاً يعتقد أن رئيسا مشلولاً سياسياً مثل بوش يمكن أن يقدم شيئاً له قيمة للقضية الفلسطينية، خاصة إذا كان اولمرت المهزوم هو من يحكم إسرائيل، وأبومازن هو من يتكلم باسم السلطة الفلسطينية المتهاوية.
ولا أظن ان هناك معجزة قادرة على إخفاء الفشل الأميركي في العراق، وتأمين «الخروج المشرف» الذي بحث عنه بوش تجنباً لتطورات داخلية أسوأ قد تقوده هو ونائبه تشيني إلى المحاكمة السياسية إذا لم تتوفر ظروف المحاكمة القانونية الآن!
ولا أظن أن الجهود المستميتة بتصعيد الأزمة اللبنانية تأتي من فراغ، وعندما ينضم البطريرك صفير إلى المنادين بإنضاج الظروف للتسوية المتوافق عليها، ويترك تيار المستقبل الباب مفتوحاً لذلك، فيسرع أمراء الحرب باتهام كل من يسعي للتسوية بالخيانة، فإن ذلك يعني ان هناك رهاناً على أحداث قادمة تغير المعادلة!
والرهان لا يقتصر على هؤلاء، فهناك أطراف عديدة في المنطقة وخارجها، تتصرف انطلاقاً من أن تعقيدات الموقف على الجبهات المشتعلة في المنطقة لا يمكن إن تجد طريقاً للحل ألا عبر حرب أخرى تحقق ما عجزت عنه أميركا في العراق، وإسرائيل في لبنان.. ولا أحد يتمنى الحرب، ولكن المأساة ألا نكون مستعدين لها!
"البيان"
التعليقات