31/10/2010 - 11:02

بيع السراب وحرث البحر../ علي جرادات

بيع السراب وحرث البحر../ علي جرادات
في التعليق على نتائج لقاء القمة الفلسطيني الإسرائيلي برعاية وزيرة الخارجية الأمريكية، هناك مَن لم يفاجأ بهذه النتائج، ورأى فيها تحصيلاً حاصلاً، ودليلا عمليا آخر على جوهر السياسة الأمريكية المنحازة حد التطابق مع الرؤية والموقف الإسرائيلي، والمعادية بسفور لشعبنا وحقوقه وتطلعاته.

وهناك مَن ازداد بنتائج هذا اللقاء قناعة على قناعة بأن الحركة الأمريكية تجاه الصراع هي "حركة بلا بركة"، اللهم إلا مزيدا مِن عمليات تمرير فرض سياسات الأمر الواقع الإسرائيلية العدوانية التوسعية على شعبنا، والتغطية عليها، تتجلى على الأرض يوميا استيطانا وتقطيعا لأوصال الأرض وتهويدا للقدس وإعلاء للجدار الفاصل وتجويعا للشعب وقتلا وجرحا واعتقالا لأبنائه.

وهناك مَن استخلص مِن هذه النتائج ما هو أبعد يقول: إن الاهتمام الأمريكي بالصراع لا يخرج عن نطاق التدخل "لإدارة أزماته"، فرضته مصاعب السياسة الأمريكية في المنطقة عموما، وفي العراق تحديدا، عدا الفشل العسكري للعدوان الإسرائيلي على لبنان، ويهدف (التدخل) لتهدئة هذا الصراع ورَكْنِهِ وتجميده في مفاوضات عبثية لصالح التحضير لما يتم التخطيط له في واشنطن وتل أبيب، وعلى نار هادئة، مِن مغامرات عسكرية أخرى محتملة في المنطقة.

وهناك مَن رأى في نتائج اللقاء أول قطرةٍ مِن غيث الضغط الأمريكي الإسرائيلي المُتوقَّع أصلاً على أجواء "اتفاق مكة"، ومحاولات عرقلة توحيد الصف الفلسطيني، وتجاوزه لخطيئة اقتتاله الداخلي؛ وأن قطرة الضغط هذه ستتلوها سيول داخل اجتماع "الرباعية" ودوائر عربية وإقليمية، وذلك بهدف الإبقاء على حصار العزل السياسي والتجويع الاقتصادي على شعبنا، والدعوة لعدم رفعه إلا بالانصياع الفلسطيني الكامل لاشتراطاته الأمريكية- الإسرائيلية، المسماة، زورا وبهتانا، بالاشتراطات الدولية.

وهناك مَن رأى في تلك النتائج حلقة جديدة مِن حلقات الضغط الأمريكي لدفع الطرف الفلسطيني لقبول مدخل "الدولة ذات الحدود المؤقتة"، الترجمة العملية لأربعة عشر تحفظا على خطة خارطة الطريق، التي كان شارون قد أنشأها قبل دخوله في غيبوبته. وذلك بعد أن تمَكَّن الفلسطينيون مِن توحيد موقفهم حول رفض القبول بهذه المصيدة (الدولة ذات الحدود المؤقتة) التي لا جديد فيها سوى العودة إلى لدغات أفاعي "جُحْرِ" الاتفاقات الأمنية الانتقالية والجزئية.

وهناك مَن رأى في نتائج اللقاء دليلا قاطعا آخر على نتائج بؤس ارتهان الموقف العربي الرسمي للسياسة الأمريكية، وعجزه عن إسناد الموقف الوطني الفلسطيني، وتركهِ فريسةً لوحشية السياسة الأمريكية في مرحلة تفردها وتربعها على عرش السياسة والعلاقات والمؤسسات والتكتلات الدولية والإقليمية.

وهناك مَن رأى بنتائج هذا اللقاء مؤشرا قاطعا آخر على ضرورة أن يعي الفلسطينيون أكثر، وبصورة أعمق، وعلى اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية حجم ما يواجهون مِن تحدياتٍ خارجية، ويدركوا بصورة أوضح ما تفرضه عليهم هذه التحديات مِن استحقاقات وأعباء ثقيلة، تنوء عن حملها الجبال بدون مبالغة، الأمر الذي يتطلب منهم مزيدا مِن تمتين وحدة صفهم الوطني، والكف عن أي عودةٍ للَّعبِ في نار احتراب داخلي على فراء دبِّ ما زال بينهم وبين اصطياده (بالحدود والقدس والعودة والمياه واقتلاع المستوطنات) اشتباكات واشتباكات (سياسية وميدانية) مفتوحة ومعقدة مفروضة، وتضحيات وتضحيات غالية وثمينة، لا خيار أمام جيلهم الحالي إلا مواجهتها، تماما كما واجهها مَن سبقهم مِن أجيال، منهم نيِّف ومئة ألف "قضوا نحبهم"، ومنهم نصف مليون ونيِّف ذاق مرارة عذابات الاعتقال، وأضعاف أضعافهم مِن الجرحى والمشردين، ومنهم "مَن ينتظر"، ولكن، وفي كل الأحوال فإنهم كفلسطينيين جميعا عن انتزاع حق العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة بالقدس عاصمة، ما كفوا يوما، و"ما بدلوا تبديلا"، ولا نظنهم سيفعلون، وحتى لو أرادوا، فمع الاحتلال واللجوء يمسَّا كل نأمة مِن نأمات حياتهم وعيشهم لا يستطيعون.

ونحن إذ نتفق مع آنفي الذكر مِن المعلقين، فإننا نود، ونرى ضرورة التعليق على الوجه الآخر للصورة، تعليقا نوجهه على شكلِ رسالة لرأس الدبلوماسية الأمريكية الآنسة غير المؤنسة (رايس) بالقول:

كُنْتِ في جولتكِ سياسيَّةً ماكرة بامتياز، سواء داخل اللقاءات، أو في مؤتمراتك الصحافية المقتضبة، أو عبر مقابلتك مع صحيفة الأيام. فقد تحدثت بحذر ودهاء، فقلت ولم تقولي، وأفصحت ولم تفصحي، ووَعَدْتِ ولم تعدي. وكُنْتِ مع "الحَبَلِ" بدولة فلسطينية ومع تعسير ولادتها في آن، ومع جلب أولمرت للطاولة ومع إطلاق يديه لترجمة خطة "انطوائه" على الأرض بالتفاوض في ذات الوقت. نعم، كنتِ ماكرة بكل ما للكلمة مِن معانٍ، ولكن سؤالنا لكِ، ولسيِّدِ البيت الأبيض مِن خلفك هو:

ترى أيهما أشدُّ مَكْرُكِ أنتِِ أم مَكْرُ التاريخ؟!!! ربما تلتبس عليك الإجابة، ولكن هناك خسائر وحشية فترة سياسات تياركِ (المحافظين الجدد) في السياسة الأمريكية، كما لاحظ الكاتب المغربي عبد الإله بلقزيز دون أن يغفل تعداد المكاسب:

أولا: في العراق مقاومة متواصلة، وحرب لم تحسم نتائجها بعد، وفشلٌ أثقل كاهل دافع الضريبة الأمريكي بأعباء 400 مليار دولار، لا ندري إن كانت تتناسب مع "الإنجازات" أم لا!!!
ثانيا: في أفغانستان نكسات متتالية، وعودة "طالبان" العسكرية، وفقدان السيطرة على مناطق الجنوب "الباشتوني" الأفغاني، وتآكل شرعية نظام كرازاي الداخلية.

ثالثا: في لبنان خسارة حرب ضد المقاومة، أرادها "بيتكم الأبيض" حاسمة وقاصمة، و"نزلتم" فيها بكل ثقلكم العسكري والسياسي وراء إسرائيل، فتجرعتم وإياها كأس الهوان، ودخلتم في حالة ارتباكٍ سياسي مديد، ما زالت معطياته تتفاقم.

رابعا: خسرتم عبر الانتخابات الديموقراطية حلفاء أوروبيين مِن طراز آثنار (اسبانيا) وبيرولوسكوني (ايطاليا).
خامسا: كانت الخسارة الأضخم في "حديقة بيتكم الخلفية" أمريكا اللاتينية، فقد ورثتم عن الإدارات السابقة نصف قارة (أمريكية) مواليا (ما خلا كوبا وفنزويلا)، لكن وحشية سياستكم هناك، أنتجت نقيضها الثوري، فصمدت فنزويلا تشافيز أكثر وتحولت إلى مثال، فكَرَّت سبحة حلفائكم، وتتالت انتصارات اليسار في الانتخابات الديموقراطية في البرازيل وبوليفيا والتشيلي والإكوادور ونيكاراغوا والبقية تأتي. ونضيف لما لاحظه بلقزيز:

سادسا: حصدتم تململ الدب الروسي، وبداية خروجه عن عصا طاعة وحشية القطب الواحد بطبعتكم أنتم المحافظين الجدد تحديدا، وذلك بعد أن فاض كيل هذا "الدب"، وضاق ذرعا بأحلامكم الإمبراطورية الحمقاء، لا تراعي ولو الحد الأدنى مِن مصالح أقطاب دولية، هي وإن كانت أقل منكم قدرة واقتدارا، غير أنها ليست بيادق تحركونها حيثما وكيفما شئتم.

سادسا: في فلسطين، ورغم كل ما جئتم به مِن سياسات إدارة الظهر والتهميش والعزل السياسي، وتبني كذبة "لا شريك فلسطيني" الإسرائيلية، ورغم ما فرضتم مِن حصار تجويعي ظالم، فإن الشعب لم يركع، وننصحكم بالاقتناع أنه لن يركع، ولكم كما لكل "أولي الألباب" في مديد قرنٍ مِن تاريخه النضالي عبرةً ودرس.

خلاصة القول لوزيرة الخارجية الأمريكية: رغم ما تكنه لشعبنا وحقوقه وتطلعاته المشروعة مِن عداء، نزجي نصيحةً، وندعوها لقراءة معنى مَكْرِ التاريخ، الذي هو بتكثيف: حصاد نقيض ما هدفت له الطرق والوسائل والإجراءات التي أتبعت. أما لماذا النصيحة؟!!! فلإن الإدارة الأمريكية بغير هذا ستبقى مصرة على بيع الشعوب سرابا، وهذا وإن حقق لها مكاسب آنية، إلا أنه لن يكون بدون خسائر على المدى البعيد، نراها تتكاثر وتتفاقم وتزيد تأزما، ما يضع السياسة الأمريكية عموما، وطبعة المحافظين الجدد منها تحديدا، في عداد لا مَن يبيع السراب فقط، بل وفي خانة مَن يحرث البحر أيضا.

عليه، للمحافظين الجدد نقول: لكي لا تحرثوا في البحر، كفوا عن بيع السراب.

التعليقات