31/10/2010 - 11:02

تشطير الامة لقتل روح المقاومة والرفض../ د. سعيد الشهابي*

تشطير الامة لقتل روح المقاومة والرفض../ د. سعيد الشهابي*
كيف يمكن قتل روح المقاومة لدى أمة تواجه هيمنة خارجية؟ تؤكد تجارب الشعوب التي تعرضت لأوضاع من هذا النوع، أن صمود المجموعات المقاومة كثيرا ما أدى إلى دحر المعتدين من الخارج، مهما كانت قوتهم. بل إن التاريخ يؤكد أن الغزو المغولي لبغداد انتهي بتحول زعمائهم إلى الإسلام.

ولكن انتصار تلك المجموعات مشروط بإفشال محاولات شق الصف، لان الاختلاف آفة تنخر في جسدها حتى تقضي عليها. ولذلك لا تقتصر الوسائل والاستراتيجيات الحديثة ـ القديمة لكسر إرادة المقاومة لدى الشعوب والأمم على استعمال القوة فحسب، بل تشمل أيضا أساليب إحداث شروخ في تلك الشعوب، بوسائل عديدة.

من هذه الأساليب: شراء العناصر التي يغريها المال أو المنصب أو الجاه (وما أقواهما في فل العزائم) والتشكيك في مصداقية المقاومين سواء في مدى قدرتهم على تحقيق التوازن المادي مع الطرف الآخر، أم في مصداقية زعمائهم وتمسكهم بالمبادئ والقيم، أم في نواياهم وانتماءاتهم الفكرية والعقيدية. ومن أشد الأساليب فتكا ما نشاهده في عالمنا العربي والإسلامي من محاولات لا تهدأ لاستهداف روح المقاومة ورفض الاحتلال والهيمنة، بإثارة النعرات المذهبية والطائفية المقيتة، التي هي آفة الآفات، والأشد فتكا بمقولة الوحدة والتفاهم والصف المتراص.

ما المقاومة؟ بمعنى من هم الطرفان المتواجهان اللذان يعبر عن أحدهما بالمعتدي والآخر بالمقاومة؟ الوزن والمقاومة مفهومان يتعلمهما الصغار في بداية توجههم العلمي في المدارس. فلكي يكون هناك توازن طبيعي لا بد من موجود وزن ومقاومة. هذا التوازن له مصاديقه في العالم المادي، وفي عالم العلوم الإنسانية، كالسياسة وعلم الاجتماع. فقانون نيوتن الثالث يقول بأن لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويضاده في الاتجاه. ويندر غياب المقاومة أو رد الفعل في أي ظرف.

ولذلك فما أن يكون هناك عدوان حتى تكون هناك مقاومة من الطرف المعتدي عليه. وهنا يسعي المعتدي للقضاء على تلك المقاومة أو التقليل من شأنها. وفي عالمنا العربي والإسلامي ليس هناك شك في وجود عدوان خارجي، يتمثل تارة بالاحتلال المباشر كما هو الحال في فلسطين والعراق، وأخرى بسياسات الهيمنة والسيطرة على القرار السياسي والاقتصادي كما هو الحال في اغلب الدول العربية التي تطالبها الولايات المتحدة بالتخلي عن سيادتها الوطنية والسير وفق سياسات واشنطن.

وبرغم حالة التداعي والخور في أوساط الأمة، فهناك قدر من المقاومة لا يستهان به، وكان لتلك المقاومة دور كبير في التخفيف من الهجمة الأجنبية على الأمة، كما حدث إبان الحروب الصليبية، وخلال حقبة الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين في مصر والسودان والجزائر والمغرب وتونس وليبيا. مشكلة العالم العربي والإسلامي أن بلدانه محكومة بأنظمة هشة لا تصمد أمام العدوان الخارجي، بل كثيرا ما أصبحت أدوات بيديه. أما عندما انضمت الأنظمة إلى القوى الشعبية المقاومة، فشل العدوان وانتهى.

هذا ما حدث في الجزائر، إذ انصهر الجميع في بوتقة مقاومة الاستعمار الفرنسي، فلم يجد أمامه في النهاية إلا الاستسلام لإرادة التحرير المختزنة لدي شعب الجزائر، والرحيل عن ذلك البلد. وكان لشخصية عبد القادر الجزائري دورها في بلورة تلك المقاومة. وحدث الأمر نفسه في تونس والمغرب، في الخمسينات من القرن الماضي. كما حدث في مصر خلال حملة نابليون، وكذلك في مطلع القرن الماضي بوجه الاستعمار البريطاني. وواجه السودان الاستعمار البريطاني في نهاية القرن التاسع عشر، واستطاع إلحاق الهزيمة بالقوات البريطانية وتمكن الثوار، بزعامة عبد الرحمن المهدي من قتل الجنرال جوردون. ويسجل التاريخ صفحات بطولية للقائد الليبي عمر المختار في مقاومته الاستعمار الايطالي.

الوضع الذي تعيشه المنطقة هذه الأيام يعاني من اضطراب ليس سياسيا فحسب، بل فكريا وإيديولوجيا أيضا. وقد أقحم البعد الطائفي أيضا في هذه المعادلة ذات المتغيرات العديدة، لكي تزداد تعقيدا وتستعصي على الحل. فعلى مدى الثلاثين عاما الأخيرة استمر السعي المتواصل من قبل الولايات المتحدة على وجه الخصوص بهدف الهيمنة المطلقة على العالمين العربي والإسلامي، ولكنها واجهت مقاومة شرسة في أكثر من موقع. كان بإمكان تلك المقاومة أن تحقق قدرا كبيرا من المكاسب، ولكن الوضع العربي معقد بشكل خاص. فالمقاومة تجد نفسها ليس في مواجهة الطرف الساعي للاحتلال أو الهيمنة فحسب، بل الحكومات الاستبدادية أيضا، التي تعتمد في بقائها في الحكم علي أجهزة قمع فتاكة ودعم سياسي أمريكي لكل ما هو استبدادي ورجعي.

ويمكن العودة إلى الوراء قليلا، لاستقراء الوضع في ما يخص المقاومة قبل عشرين عاما. فمع نهاية الثمانينات من القرن الماضي، كانت المقاومة تتصاعد ضد الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية. يومها كانت هناك مصاديق عديدة لهذه المقاومة. ففي لبنان، كانت المقاومة الإسلامية قد انطلقت بقوة هائلة ضد الاحتلال الإسرائيلي، خصوصا بعد الضربات التي وجهتها في 1984 لقوات المارينز الأمريكية والفرنسية. وفي فلسطين كانت الانتفاضة الأولى قد انطلقت، ومعها حركة حماس التي ترفض الاعتراف بوجود إسرائيل . وما أن حدثت أزمة الكويت في 1990 حتى كانت الأجواء مهيأة لمنازلات أوسع مع قوي الهيمنة والاحتلال الغربية والصهيونية. ومع تصاعد الضربات الموجهة للوجود الإسرائيلي في جنوب لبنان، كانت المنطقة علي موعد مع شيء من الانجازات علي أيدي المقاومين في لبنان وفلسطين.

استمرت المناوشات والمواجهات في التسعينات، سواء في الشرق الأوسط أم في أواسط أوروبا أم في أفريقيا وآسيا. ولكن ظهور تنظيم القاعدة بقوة في التسعينات فتح صفحة جديدة في ملف الصراع، وكان له بعدان: فمن جهة كشف توجه ذلك التنظيم مدى عمق الإصرار لدى الجيل الجديد من الشباب المسلم، إذ أصبح مستعدا للموت في مقابل ما يؤمن به. ومن جهة أخرى تحول ذلك الوعي تدريجيا إلى حالة من العبث الفكري دفع أعداءه لاستغلاله بشكل بشع، وحول مساره نحو منحى آخر.

كان بإمكان تنظيم القاعدة أن يحدث تغييرا جوهريا في ملف الصراع العربي ـ الإسرائيلي، لو انه وضع تحرير فلسطين على رأس أولوياته. فمع نهاية القرن المنصرم، كان الاحتلال الإسرائيلي يعاني من هشاشة وضعه العسكري ونفسيات أفراده، خصوصا بعد أن أرغم على الانسحاب من جنوب لبنان بدون قيد أو شرط. وهنا يبدو أن قرارا استراتيجيا اتخذ في الدوائر الغربية. يتمثل هذا القرار بعدم حصر المواجهة مع المجموعات المقاومة بالجانب العسكري. وتقرر استهداف التيار المقاوم في عمقه الفكري، وإبعاده تدريجيا عن الحرب الحقيقية مع الاحتلال والهيمنة الأمريكية.

وهنا فرض المشروع الطائفي على المنطقة، وأصبح الانتماء المذهبي للأطراف المقاومة مدخلا واسعا للتشكيك وكسر الهمم والنيل من المعنويات. وبدلا من تركيز النضال ضد الاحتلال والهيمنة، توسعت النغمة المذهبية بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في ما سمي وقتها عملية غسق الصباح وهي المرة الأولى التي تحقق الأمة فيها انتصارا حقيقيا على العدو. النغمة المذهبية إنما انطلقت بدفع من الذين خططوا لتمزيق صفوف الأمة على أسس طائفية لمنع تبلور جبهة مقاومة عريضة تتعالى على الاختلافات وتركز على القضية الكبرى لدي المسلمين. ويعتقد أن من بين أسباب حرب العراق في 2003 فتح الملف الطائفي على مصراعيه، لتحقيق عدد من الأهداف: أولها إشغال المجموعات المقاومة يبعضها البعض بدلا من التوجه للأعداء المشتركين للأمة، وثانيها فتح جبهة جديدة لمواجهة كافة المجموعات المسلحة سواء من تنظيم القاعدة أم المجموعات الإسلامية الأخرى الضالعة في حمل السلاح. وثالثها أن العراق هو البلد الأكبر الذي جسد وحدة المسلمين عبر التاريخ، وبالتالي فإن التصدي لوحدته الدينية من شأنه فتح الملف الطائفي من أوسع أبوابه.

ولذلك أصبحت لغة النضال اليوم يشوبها الكثير من الشوائب. فالإعلام الموجه لدى أعداء الأمة لا يذكر إيران أو حزب الله أو بعض فصائل المقاومة والأطراف السياسية في العراق إلا ويصفها بــ الشيعية . وتواصل استهداف الأمة حتى أصبح العراق ليس ساحة مواجهة بين القاعدة وقوات الاحتلال الانكلو امريكية، بل ساحة احتراب طائفي لم تشهد المنطقة له مثيلا. انه تكرار لما حدث في لبنان خلال الحرب الأهلية عندما كان اللبنانيون يستهدفون على أساس الهوية. ففي العراق هناك قتل على أوسع نطاق على الهوية المذهبية. بل إن هناك تقعيدا للاستهداف على أسس مذهبية، واعتبار ذلك من الأعمال المشروعة، والتشبث بمقولة أن استهداف الآخرين المخالفين في المذهب باب يؤدي إلى الجنة. والتمايز المذهبي هنا يتركز أساسا على الشيعة والسنة، لأنهما الطرفان الكبيران في المشروع الإسلامي الحديث، وهما الأكبر عدديا والأوسع انتشارا في العالمين العربي والإسلامي. فاتحاد اتباع المذهبين في العراق أو لبنان أو دول الخليج أو باكستان أو إيران من شأنه إضعاف القبضة الغربية علي شؤون العالم الإسلامي.

وللامعان في التشطير المذهبي أصبح التشكيك في المسلمين الشيعة وولاءاتهم وأصولهم ظاهرة مقلقة لأنه جهد ضائع بدون مردود عملي في ساحة النضال من اجل حقوق الأمة. إن من الخطأ الكبير الانخراط في المشروع الطائفي بهذه الأساليب، أما الخطأ الأكبر فيتمثل بالصمت المطبق من ذوي النفوذ والتأثير الديني والسياسي إزاء تصاعد الحالة الطائفية والمذهبية وتكريس النزعات نحو المزيد من التشكيك والاستهداف والتكفير. فالشيعة والسنة هما جناحا الأمة اللذان لا تستطيع التحليق بأحدهما بدون الآخر. وهما الطرفان اللذان استطاعا بلورة أشجع المواقف ضد الاحتلال الإسرائيلي. ففي لبنان حققت المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله اللبناني أكبر انتصار عسكري عربي ضد إسرائيل في حرب تموز (يوليو) العام الماضي. وتزامن مع ذلك تعمق الشعور في الأوساط الفلسطينية بضرورة التصدي للاحتلال وعدم المساومة على النضال من اجله واستهدافه، وما تشهده غزة اليوم ظاهرة مقلقة للاحتلال وداعميه، لأنه يؤكد عودة جديدة إلى منطق رفض الاحتلال بشكل مطلق، وفشلا ذريعا للمشروع الامريكي ـ الصهيوني الذي انطلق من مدريد في 1991.

إن للنضال ثقافته الخاصة، وهي ثقافة ذات بصيرة نافذة لا تحجبها عن الحقيقة تشكيكات المغرضين. فالصامد ضد الظلم يستحق الاحترام والتقدير. فها هو جيفارا ما يزال رمزا لدي الكثيرين بسبب مواقفه الصلبة ضد القوى الهادفة للهيمنة على مقدرات الشعوب وخيراتها. وها هي رايتشيل كوري، الفتاة الأمريكية التي استرخصت حياتها وهي تقف في ميدان النضال دفاعا عن الحق الفلسطيني حتى دهستها دبابة إسرائيلية، يتنكر لها ساسة البيت الأبيض، ولكن أطفال غزة والقدس يتذكرونها وينحنون احتراما لها.

لم يسأل المناضلون عن دين أي منهما أو أصله، فما هو مهم انه صمد أمام الظلم ودافع عن المظلومين، وتصدي للبطش والاحتلال. مع ذلك تثار الضجة حول عماد مغنية، ويتم التركيز علي مذهبه الشيعي، ويتناسى الكثيرون أنه قدم حياته من أجل المساهمة في تحرير فلسطين. لقد استهدف من قبل الصهاينة لدى خروجه من اجتماع سري جدا في دمشق مع قادة فلسطينيي الداخل، ولم يكن للانتماء المذهبي لأي من الطرفين دور في تحديد المواقف. وعندما خاض حزب الله حرب الكرامة ضد إسرائيل لم يفعل ذلك دفاعا عن طائفة مسلمة دون أخرى. وعندما تصر إيران على رفض الاعتراف بـ إسرائيل وتدفع ثمن ذلك غاليا حتى الآن، يتم تمييع ذلك الموقف من قبل أعداء القضية بالإشارة إلى خصوصيتها المذهبية، فماذا يعني ذلك؟

أما المعتقلون حاليا في السجون الكويتية فهم في طليعة مؤسسي لجنة مقاومة التطبيع التي أسست قبل بضعة أعوام والتي تهدف لمقاومة سياسات التطبيع مع الاحتلال. فالمقاومة قيمة مقدسة يجب أن لا يسمح للظالمين والمستبدين والمحتلين بتلويثها وإخضاعها لاعتبارات مذهبية أو عرقية. إنهم يقولون إن الإرهاب ليس له دين، مع ذلك ما فتئوا يربطونه بالإسلام وينسبونه إليه، حتى قال البابا الحالي في 2006 قولته الشهيرة بان العنف سمة لا تنفك عن الإسلام وثقافته وتعليماته. أما المقاومة فطالما تم تلوينها بالانتماء المذهبي، وطالما استهدف أبطالها انطلاقا من الحساسية تجاه ذلك الانتماء. إن أمة تسعي لمواجهة ما يواجهها من تحديات مطالبة بالالتفات إلى خطط الأعداء الهادفة لتفتيت صفوفها وإضعافها عن المقاومة، وقتل روح رفض الظلم والاستعباد في أعماقها. فلتخرس الأصوات الناشزة التي تسعي لتكريس الشتات والفرقة، وليتحد العرب والمسلمون حول شعارات التحرير والنهوض والصحوة، بعيدا عن الخصوصيات الفقهية والانتماءات المذهبية.
"القدس العربي"

التعليقات