31/10/2010 - 11:02

حتى تكون غزة بداية النهاية للاحتلال/مصطفى البرغوثي

حتى تكون غزة بداية النهاية للاحتلال/مصطفى البرغوثي
بخروج المستوطنين وتفكيك المستوطنات في قطاع غزة، حلت لحظة بداية النهاية في تاريخ الاحتلال. فلأول مرة منذ عام 1897، يدخل حلم الحركة الصهيونية عالم الواقع العنيد ويبدأ التراجع إلى الوراء.

ووسط التزاحم الفئوي والتنافس الفصائلي على ادعاء الإنجاز ينسى كثيرون أن الفضل الأول فيما تحقق وما سيتحقق يعود للإنسان والمواطن الفلسطيني، الرجال والنساء والشباب العاديون الذين تحملوا معاناة ثمانية وثلاثين عاما من الاحتلال والآثار الفاجعة للنكبة ولم يرحلوا، كما لم يفقدوا الأمل بعدالة قضيتهم. الناس الذين قدموا التضحيات وصنعوا مآثر المقاومة والانتفاضة الأولى والثانية، وأجبروا بصمودهم الحركة الصهيونية على أول تفكيك للمستوطنات عن أراض فلسطينية. وبعد اليوم ليس أمام الاحتلال ومستوطناته سوى طريق واحد... إلى الوراء.

ومثلما يجب عدم التقليل من المغزى التاريخي لهذا التحول الذي نتج عن الصمود والكفاح، لا يمكن الاستهانة بما يحمله من مخاطر وتحديات. لقد أدرك شارون أن هناك ثمنا عليه أن يدفعه للكفاح والصمود الفلسطيني ولانتفاضة الاستقلال وللتضامن الدولي مع شعبنا، ولذلك ناور بمهارة الاستراتيجي المجرب ليجعل هذا الثمن أبخس ما يمكن، وليحاول جعل إعادة الانتشار في غزة أداة لتغيير الاتجاه.

وهكذا وضع أمامنا ثلاثة تحديات رئيسية:

التحدي الأول، إفشال ما يروج له شارون بأن الفلسطينيين سيسيئوا إدارة غزة، بسبب الفساد الداخلي والصراع الفئوي الذي يأمل أن يتحول إلى اقتتال داخلي.

والسبيل الأول لمواجهة ذلك، هو إقرار وتنفيذ الانتخابات الديموقراطية النزيهة للمجلس التشريعي والبلديات وكل الهيئات دون مماطلة أو إبطاء. فالتنافس والتعددية شرعية ما دام حسمها يتم من خلال صندوق الاقتراع وقبول رأي الناس. وهي غير شرعية عندما تتم محاولات فرض الرأي بقوة السلاح في الشوارع وعمليات الخطف المشينة أو من خلال شراء الذمم وفرض الأتاوات. ويثبت مجددا على أرض الواقع أن الديموقراطية والاحتكام لآلياتها شرط للإنقاذ الوطني.
أما السبيل الثاني فيكمن في اعتماد مبدأ سيادة القانون وتطبيقه على الأراضي التي سيخرج منها الإسرائيليون، ويعني ذلك شفافية كاملة من قبل السلطة في استلام واستخدام هذه الأراضي باعتبارها أملاك عامة مملوكة من الشعب وإعادة الجزء الصغير منها الذي صودر من أصحابه لمالكيه الشرعيين بالقانون والقضاء العادل. هناك العديد من الشائعات حول الاستخدام المعد لهذه الأراضي، وحول الاحتكارات التي ابتلي بها الشعب الفلسطيني بعد أوسلو، وحول مساعي أصحاب النفوذ السياسي للاستيلاء على جزء من هذه الأراضي. ولا دحر لهذه الشائعات ومخاطرها إلا بالشفافية الكاملة والمساءلة والقانون.

التحدي الثاني، يكمن في محاولة إسرائيل جعل الخروج من غزة مجرد إعادة انتشار، ومنع الفلسطينيين من ممارسة السيادة عليها، وهذه كما نعلم جميعا خطة شارون الأصلية. خروج للمستوطنات والجيش من داخل القطاع واستمرار السيطرة الإسرائيلية على المعابر والحدود والأجواء والمياه، أي تحويل غزة إلى سجن.

ولا يخلو الأمر هنا من محاولات شرسة للخداع تذكرنا بخداع اتفاقيات باريس الاقتصادية وأوسلو، مثل فصل عبور السكان عن عبور البضائع ونقل المعابر واستخدام التواجد الدولي كغطاء للإشراف الإسرائيلي.
وحتى تكون إعادة الانتشار انسحابا لا بد من الإصرار على السيادة الفلسطينية على المعابر برا وبحرا وجوا، وإزالة أي إشراف أو هيمنة إسرائيلية على من يدخل القطاع ويخرج منه من بضائع ومنتجات، ولا مانع هنا بالطبع من تواجد دولي حقيقي ولكن من دون المس بمبدأ السيادة الفلسطينية.

أما التحدي الثالث، وهو الأكبر فسيكون محاولة إسرائيل فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية والقدس، وتجميد ما يسمى بـ «عملية السلام» والانشغال بالانتخابات الفلسطينية والإسرائيلية ومن ثم الأمريكية في حين تستمر إسرائيل في كسب الوقت وضم القدس وتوسيع مستوطنات الضفة وبناء جدار الفصل العنصري لتفرض من جانب واحد حلها لكافة قضايا الحل النهائي، أي مقايضة قطاع غزة بالضفة الغربية، وتقزيم حلم الدولة الفلسطينية في كانتونات ومعازل على طريقة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ويفيد هنا التذكير بان مساحة كل قطاع غزة لا تتجاوز6% من مساحة الضفة الغربية وما لا يزيد عن 1% من مساحة فلسطين.

أن مواجهة هذا التحدي الخطير يتطلب التحرك الفوري لانتزاع زمام المبادرة السياسية من شارون بعد أن احتكرها بفرض خطته المنفردة لفك الارتباط على المجتمع الدولي، وذلك واقعي وممكن. أولا لأن شارون سيدخل في حالة إفلاس سياسي استراتيجي بعد انتهاء إعادة الانتشار من غزة بحكم انعدام البدائل، وثانيا لأنه يواجه ضعفا داخليا شاملا وانتخابات شبه حتمية بسبب انقسام حزبه وفضيحة فساد ابنه.

وبدل إعطائه الفرصة لالتقاط الأنفاس والاستمرار بفرض الوقائع في الضفة الغربية والقدس لا بد من مهاجمته فورا وهو في حالة ضعف، وتحويل تفكيك المستوطنات في غزة إلى سابقة لا بد من تكرارها ما دام القانون الدولي وحكم القضاء الدولي قاطعا في عدم شرعية كل المستوطنات في الضفة والقدس بقدر لا يقل عن عدم شرعيتها في غزة.
غير أن ذلك يتطلب إنهاء تمترس الجانب الرسمي الفلسطيني في دائرة ردود الأفعال بدل الفعل المبادر.
وانتزاع زمام المبادرة ممكن عبر ثلاث خطوات أولها تبني الدعوة لعقد مؤتمر دولي فورا، يمكن إطلاق تسمية مدريد 2 عليه، ليعالج كافة قضايا الحل النهائي.

ومن شأن عقد مؤتمر دولي أن يحقق خمسة أهداف: إنهاء الجمود السياسي الذي يحاول شارون فرضه، ووقف تفرده بالمسار السياسي وإجباره على التفاوض، وفتح ملفات الحل النهائي حول القدس والاستيطان وحدود الدولة وحق اللاجئين في العودة وزج المجتمع الدولي بأسره في المفاوضات على عكس رغبة إسرائيل، وأخيرا إعادة الصراع الفلسطيني والعربي - الإسرائيلي إلى قاعدة القرارات والشرعية الدولية كمرجعية هي قطعا لصالح الفلسطينيين. ويمثل الترحيب الدولي الذي لقيته المبادرة التي أطلقناها لعقد مؤتمر الدولي دليل على صحة هذا التوجه.

أما الخطوة الثانية فتكمن في التوجه الفوري بقرار محكمة العدل الدولية حول جدار الفصل العنصري إلى مرافق الأمم المتحدة والمطالبة بتطبيقه واستخدام آلية حفظ السلام، مما سيعني فرض عقوبات على إسرائيل إن استمرت في بناء وإبقاء الجدار، وستشكل المذكرة الشعبية التي وقعها الآلاف قوة دفع ايجابية في هذا الاتجاه.
وتتمثل الخطوة الثالثة في تصعيد الكفاح الشعبي الجماهيري السلمي ضد جدار الفصل العنصري والاستيطان محليا ودوليا. ومن شأن ذلك إعطاء صورة ايجابية عن الكفاح الشعبي الفلسطيني للتحرر من الاحتلال والاضطهاد وخلق قوة ضغط على الأرض في مواجهة سياسة الأمر الواقع الإسرائيلية، ومحاولات إسرائيل تجميد الوضع السياسي.

لقد نجحت إسرائيل في امتصاص النتائج الايجابية للانتفاضة الأولى عبر اتفاق أوسلو، وكلفتنا الانتفاضة الثانية خسائر باهظة لكي نعبر نفق أوسلو، ومن المحظور اليوم الوقوع في الجحر ذاته مرتين.

وإذا كان اليوم من المشروع والطبيعي أن نفرح لتفكيك كل مستوطنة تقتلع عن أرضنا، فإنه علينا أن نبقى يقظين حتى تكون غزة البداية وليست النهاية، وواجبنا الوطني يقتضي أن نواصل الاندفاع في طريق التحرر نحو هدف الحرية والاستقلال الحقيقي، نحو الدولة ونحو اليوم الذي ترفرف فيه راية فلسطين فوق القدس.

وعندها سنعرف طعم الفرح والاحتفال الخالي من شعور المرارة الخفي والذنب الدفين تجاه استمرار بطش الجدار والاستيطان في ما تبقى من قرى ومدن فلسطين وتجاه استمرار معاناة الأسرى والمعتقلين.

التعليقات