31/10/2010 - 11:02

لا تَدَعوا الجرحَ يبرأ على صديد!!!../ علي جرادات

لا تَدَعوا الجرحَ يبرأ على صديد!!!../ علي جرادات
كان واضحا أن تحديين مباشرين يعترضان سبيل الحكومة الفلسطينية الوليدة ونجاحها، الأول مالي والثاني أمني. وإذا كان التحدي المالي لا يتعلق بالإرادة الوطنية إلا بمقدار قدرتها متراصة على توظيف الدعم العربي وما يمكن كسبه مِن دعم أوروبي متدرج في وجه الصلف الأمريكي الإسرائيلي الرامي لإستبقاء الحصار الاقتصادي كعامل استنزاف إبتزازي للإرادة الوطنية على قاعدة قاسية تقول: " أيها الفلسطينيون إما خبزكم أو حريتكم"؛ نقول إذا كان هذا هو حال التحدي المالي، بما يعني أن التغلب عليه لن يكون إلا متدرجاً وصعباً ومعقداً، فإن التحدي الأمني، وإن تداخل التغلب عليه بهذه النسبة أو تلك بين الخارجي والداخلي مِن العوامل، إلا أنه يتعلق أساساً وجوهرا بالإرادة الوطنية الداخلية، وهذا ما يسمح بعقلانية تفاؤل أن يكون الخلاص منه أسهل وأقل تعقيدا.

ويغذي هذا التفاؤل الإجماع الرسمي والشعبي على ضرورة تجاوز هذه المعضلة الداخلية الفضيحة. لكن يبدو أن التحدي الأمني الداخلي بلغ مِن التعقيد والتشابك ما لا يتيح فرصة تجاوزه على أرض الواقع بسهولة ويسر، وأن تجاوزه على صعيد الورق والنصوص شيء آخر عنه على مستوى الممارسة العملية، ويزكي هذا الاستخلاص سعة وعمق ماخلقه هذا الاقتتال مِن احتقان وآلام وأوجاع في نفس وعقل أهالي وأقرباء وعائلات وأصدقاء ضحاياه، ذلك أنه (الاقتتال) لم يكن حدثا عرضيا، بل كان واسعا ووقع في أكثر مِن موقع جغرافي ودام كمظهر عام على مدى زمني غير قصير وتشابك فيه العائلي بالتنظيمي والسياسي، ولم يترافق إيقافه باتفاق مكة بإجراءات قانونية وقضائية عملية ضد مَن قام به أو تسبب في حدوثه أو غطاه وشجع عليه بهذه الطريقة أو تلك، هذا ناهيك عن عدم التوقف أمام ثقافة سياسية غذته وشحنته وقادت إليه.

إن ما جرى خلال الأسبوع المنصرم في شمال قطاع غزة مِن تَجدّدٍ لعمليات الخطف والحرق والقتل الداخلي، يؤكد فعلاً أن تجاوز التحدي الأمني ليس بهذه البساطة والسهولة التي يمكن أن يتخيلها أيُّ منا، وأن استعصاء تخطيه أصبح أعمق وأكثر تشابكا مما نظن ونعتقد جميعا، وإلا ما معنى تكرار مشاهد الاقتتال المشؤوم رغم "اتفاق مكة" الذي مهد لإستقالة حكومة اللون السياسي الواحد، وأعطى فرصةَ تشكيل حكومة ائتلافية؟!!!

وأظهر السيد سعيد صيام وزير الداخلية السابق في حكومة "حماس" المستقيلة، في مقابلة صحيفة، أسفا وألما باديين على ما ساد فترة توليه لمهامه مِن اقتتال داخلي وتفاقم لحالة الفلتان الأمني، وقال أن توفر التوافق الوطني والإرادة السياسية، وتحديدا لدى قيادتيْ "فتح" و"حماس" هو وحده الكفيل بتجاوز حالة الفلتان الأمني والاقتتال الداخلي، وأنه لن يكون بمقدور وزير الداخلية الجديد تحقيق إنجاز يُذكَر على هذا الصعيد بدون توفر ذاك التوافق وتلك الإرادة. وأضاف أن العامل السياسي هو سببُ ما جرى مِن اقتتال داخلي مؤسف.

هنا ومع موافقتنا الجزئية على هذا التشخيص، وبرغم اتفاقنا النسبي مع صحته ودقته، وما يشير إليه مِن سبيل صحيح لوقف حالة الفلتان ومظهره الأخطر، أي الاقتتال الداخلي، إلا أننا، وعلى ضوء أحداث شمال غزة الأخيرة برغم تشكيل حكومة ائتلافية كشرط سياسي للجم الاقتتال الداخلي، نرى ضرورة إثارة السؤال الأهم فيما يخص الأعمق مِن أسباب الاقتتال الداخلي والفلتان الأمني عموما، ونصوغه على النحو التالي:

هل حقا أن العامل السياسي، وبمعنى آخر الخلاف السياسي، هو سبب ما جرى مِن اقتتال داخلي مؤسف ومفجع وتدميري، أم أن هذا السبب السياسي لا يعدو كونه تجليا لسببٍ أعمق وأكثر خطورة ؟!!! يجيز هذا السؤال، وإن بدا غريبا بعض الشيء، أن الشعب الفلسطيني هو ليس الشعب الوحيد الذي يعيش واقع الخلاف السياسي الداخلي، إذاً لماذا يا ترى لا يكون عامل الخلاف السياسي سببا لوقوع الاقتتال الداخلي والفوضى الأمنية لدى الشعوب التي لديها خلافات سياسية؟!!!

وأكثر مِن ذلك، هل كان الداخل الفلسطيني يوما بدون خلاف سياسي؟!!! بل ألم يشهد في تاريخه، وفي مراحل سابقة ما هو أعمق وأعقد مِن مظاهر ودواعي الخلاف السياسي الحالي؟!!! إذاً لماذا لم يؤدِ ذاك الخلاف إلى الاقتتال الداخلي والفلتان الأمني بصورة دائمة، أو على الأقل بغير الصورة التي شهدناها خلال العام المنصرم؟!!! ثم، ألم تتم معالجة وتجاوز ما وقع من اقتتال داخلي محدود خلال مسيرة النضال الوطني الطويلة بالحوار الديموقراطي؟!!! وألم يتم ضبطه والتغلب عليه سريعا، وقبل تغلغل ثقافته السياسية وممارساته العملية في النسيج العائلي والاجتماعي للشعب؟!!! بل ألم يكن هذا النسيج الاجتماعي المتلاحم المتراص في وجه الاحتلال وجرائمه عاملا مِن عوامل دفن ما كان يقع مِن احتراب سياسي تنظيمي محدود وعرضي ومتباعد ولم يشكل مظهرا عاما في المشهد الفلسطيني عموما وفي مشهد العلاقة بين الفصائل السياسية خصوصا؟!!!

هذا إذا استثنينا ما حصل مِن اقتتال فلسطيني داخلي بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وهو الاقتتال الذي لا يمكن سحبه على المسيرة الفلسطينية، أو دمغها به، وذلك باختصار لأن ذاك الاقتتال، وبعيدا عن تبريره، كان له ظروفه الخاصة، ولعبت فيه عوامل خارجية ترتبت على ضرب المقاومة أكثر مما كان له مِن الأسباب الفلسطينية الداخلية المحضة.

ما أسلفنا يشير إلى أن هناك عاملا أعمق مِن الخلاف السياسي كسبب ظاهري للاقتتال الداخلي، وإن بدا الأمر في الظاهر، وللوهلة الأولى أن الخلاف السياسي هو السبب الجوهري للاقتتال. والسؤال: ترى ما هو هذا العامل الأعمق؟!!! بدون إطالة للشرح، وبعيدا عن القلب غير المقصود للحقائق، وخارج التحويل غير الواعي للمظهر إلى جوهر، فإن ثقافة سياسية لا تطيق الخلاف والإختلاف هي التي تحوّل الخلاف السياسي الطبيعي الذي لا يمكن أن نصحو يوما فلا نجده إلى سببٍ للاقتتال الداخلي.

هنا، وحتى لا يكون كلامنا مجردا نسأل: إذا سلمنا جدلا أن الخلاف السياسي هو سبب اقتتال ألوان التنظيم السياسي ذات البرامج والمواقف المختلفة، ترى كيف نفسر، وما هو سبب حرق مؤسسة ثقافية تراثية مثلا، وهل تملك هي الأخرى عضوية تنظيمية تختلف في البرنامج والموقف السياسي مع مَن أقدم على إحراقها؟!!! كلا، وعليه، وحتى لا نبسط الأمور ونسطحها، وحتى نقبض على حقيقة الجرح، وحتى نتمكن مِن اقتلاع سبب الاقتتال مِن جذوره، وحتى لا نختزل معالجته بمواصلة الدوران حول سطحه ومظهره، وحتى لا نكرس مِن حيث لا ندري قناعة أن الخلاف السياسي ينطوي بذاته على الاقتتال الداخلي أو يبيحه، وحتى لا نقع بدون قصد في خطيئة أنه لا يمكن منع الاقتتال الداخلي إلا بإلغاء إختلافنا وخلافنا السياسي، وإلا إذا أصبح كلُّ منا نسخة كربونية عن الآخر.

نقول حتى لا يكون كل ما تقدم، وحتى يغدو بمقدورنا دفن مأساة الاقتتال الداخلي وجرحه الوطني الغائر، نرى أن علينا معالجة ومداواة ما هو أعمق مِن أسبابه الظاهرية. وهذا ما لا يمكن أن يكون (برأينا) إلا بتحويل إدانة الاقتتال إلى ممارسة قانونية رادعة فضلا عن صراحة القول:

إن خلف ظاهرة الاقتتال ثقافة سياسية تربي على القتل والحرق، وأنها هي مِن يُحوّلُ الخلاف السياسي مِن عامل ثراء وتنوع طبيعي، وبالمقدور ضبطه والسيطرة عليه عبر قانون ديموقراطي يتيح ويضمن حق الاختلاف والتعبير والاجتهاد وابداء الرأي والتنافس الديموقراطي البرنامجي السياسي والاجتماعي الاقتصادي داخل الوحدة السياسية المبنية على أساس القواسم المشتركة في البرنامج الوطني العام المعبر عن المصالح العليا للشعب والوطن. هذا هو عمق الجرح، وعلينا أن لا نواصل الدوران حول سطحه، بل علينا أن ننكأه بجرأة لا تدعه يبرأ على صديد.

التعليقات