31/10/2010 - 11:02

نهضة الأمة العربية... أم تنمية التخلف../ مطاع صفدي

نهضة الأمة العربية... أم تنمية التخلف../ مطاع صفدي
ربما لم تعرف الأمة العربية حقبة معاصرة لنهضتها أسوأ من اللحظة الراهنة، لا من حيث الضعف الشامل لمختلف مقومات الوجود الطبيعي السوي لمفهوم الأمة فحسب، ولا من حيث انعدام الشخصية السياسية لمجمل أنظمتها الحاكمة، ولا من حيث افتقارها إلى الحدود الدنيا من مقدرات الدفاع الغريزي أو الاكتسابي المنظم.

فكل هذه الخصائص السلبية يمكن اعتبارها عائدة إلى حال التخلف الذي يصم وجود الأمة منذ لحظة نهضتها المعاصرة. لكنها مع مرور الزمن والتجارب السياسية والاجتماعية الغزيرة التي عانتها، فإن خاصيات التخلف هذه أضحت من نوع الأعطال الاستراتيجية الآخذة بتلابيب حركات التطور، الموجهة لها من داخل محركاتها التاريخية عينها، بما يجعل هذه التطورات مصابة مقدماً بتوائمها من الانتكاسات المصاحبة لها.

الأعطال الاستراتيجية هي البدائل المشؤومة عن المشاريع النهضوية. كما لو أن كل مخطط اصلاحي أمسى محكوماً عليه مقدماً بالانتكاس إلى عكس أهدافه. هكذا تختلط النوايا أو الأفعال الإصلاحية بنقائضها. سواء تلك النقائض النابعة من عطب أصلي في سيرورة التغيير، أو ناجمة عن عقبات كأداء تقوم في وجهه فجأة دون أن يكون من الاساس متوقعاً حلولاً جاهزة لأمثالها. فما تعنيه الأعطال الاستراتيجية هو تحول نفايات التغييرات الفاشلة عينها إلى قوى وعوامل فاعلة في أرضية المجتمع؛ حتى تصير لها استراتيجية تدمير ذاتي، ليست من وضع أو تأليف أحد، لكنها طاغية على إرادة كل أحد. إنها حركة انقلاب المجتمع على نفسه. ففي الوضع النهضوي تتدافع إمكانيات المجتمع كلها في تيارات من التجديد والتحديث المتكاملة، بما يعطي للواقع صورة أخرى تسمح بولادة هوية وطنية بمضمون مدني كابح لسلطة التخلف المتوارث في خلايا العادات والتقاليد السائدة. أما في حال الوضع النهضوي المضاد، فإن سيوف التقدم المتكسرة تنقلب إلى حراب مسمومة طاعنة في جسد صاحبها عينه، المنهزم والمتهالك. تنبعث قوى التخلف مجدداً، مزوَّدةً هذه المرة بطاقات حركية زائفة، أو مكتسبة من فشل (الآخرين) من أضدادها. لكنها عازمة على اجتياح مساحات العمل العام كلها، ودون أن تقيم وزناً لأي منازع، من الصنف القديم أو المستجد.

فهذه ليست قوى (الردَّة) حسب مصطلحها التراثي. ذلك أن (التخلف) لم يتعرض، طيلة معاركه مع رموز النهضة إلى تصفية نهائية، حتى يقال أنه يستعيد سلطانه المنزاح قليلاً أو كثيراً. فهو التخلف الموجود دائماً، وفي كل مكان. وكل ما تعرض له من أقوال - شعارات - التقدم أو أفعاله، لم يغير شيئاً من أصوله وآلياته. كانت مجرد تناصّ هامشي على نصه الأصلي. لكن التخلف ربما كان هاجعاً مساكناً، تم أيقظه صراخ التقدم وزعيقه. ثم اكتشف (عقل) التخلف أنه هو الوطني والمتجذر في أرضه، وأما الآخر الموصوف بالنهضوي، فهو الطارئ والغريب والأجنبي، وبالتالي فهو القابل للطرد والتهجير. فليست هي (ردة) نحو التخلف. إنه التخلف عينه الذي يتجدد بعقله وسلوكه ومؤسساته. كأنما عصر النهضة الذي يعتقد بعض العرب أنهم لا يزالون يعيشون إرهاصاته، مشيرين إلى إنجازات مشاريع التنمية في كثير من الأقطار، قد بلغ ـ هذا العصر ـ مرحلة التصفية الشاملة لأفكاره ومطامحه؛ وما على من تبقى من المتفائلين إلا الاقرار بأنها لم تكن سوى تنمية التخلف عينه. ولم تأت أبداً ضداًَ حقيقياً على عوامله وآلياته المستمرة. بل إنها أمدَّته بقوى (عصرية) لم يكن يتمتع بمثلها في أحلك حقبات ماضية.

من الأعطال الاستراتيجية المسيطرة على حركية السياسة العربية أنها في حين عملت أنظمتها الحاكمة على قلب وجهة التاريخ من البعثرة إلى التضامن، ومن التجزئة إلى الوحدة، ومن سلطة الاستبداد والحكم المطلق إلى ديمقراطية الرأي والعمل والمسؤولية، فقد سيطرت أزمات بنيوية وكوارث وإحباطات من كل جنس بصورة وحَّدت المشهدية العامة البائسة لواقع مختلف الأقطار القائمة. إنها مشهدية المعاناة لأخطر ما يفتك عادة بالدول المرشحة للزوال. بكلمة أخرى فالعرب الذين عجزوا عن إنتاج أبسط حدود التعاون العادي بين دولهم وليس الاتحاد الكياني، أمسوا يواجهون وحدة المصير المعكوس. إنهم يترنحون على حوافي الهاويات، وإن كانت لكل قطر رقصته الخاصة في طور النَّزْع الأخير. ليس ثمة قطر واحد لا تتهدده سراً أو علناً، فوق المسرح أو في كواليسه، نوازعُ التدمير الذاتي المتنافسة مع صولات وجولات من أشكال التدمير بل التآمر الخارجي.

الخارطة السياسية أمست خارطة مرحلية. والمستويات الحضرية أو المدنية التي بلغتها بعض الأقطار، والبعض الأقل من نخبها، ليس في أحسن مظاهرها سوى أقنعة مستعارة. إنها لوحات من سرابات ملونة طافية على أديم الصحاري العريقة. فالأعطال الاستراتيجية أمست لها الغلبة الميدانية على خطط التقدم في كل ميدان بنيوي أو حيوي. إنها لحظة الإعلان الأهم، عن انتهاء المباراة المصيرية بين الثورة والثورة المضادة، لصالح هذه الأخيرة التي اختطفت قيادة الاستراتيجية، فجعلتها حكراً على الأعطال وحدها. فتعيد إنتاج أصولها الماضوية، عبر سلالات معاصرة من أعطال حاضر عقيم ومنهزم مقدماً أمام تحديات مستقبل آخر مختلف. إن الأعطال ليست لها استراتيجية في الأصل. لكن ديمومتها واستعصاءها على الحلول المعطوبة والزائفة، يزودها بقدرات جديدة على إعادة الإمساك بتلابيب المجتمع ككل، حتى تغدو كأنما هي قائدته الفعلية. بينما يتراجع التحديث الحقيقي إلى هوامش المجال العام. يقبع أهلُه في قفص الاتهام. فقد يكونون مدانين فعلاً، تارة لدى أنفسهم بالذات، كونهم لم يصيروا حداثيين حقيقيين. وتارة أخرى لدى أعدائهم (الطبيعيين)، لأنهم عجزوا عن تأصيل دفاعاتهم الموضوعية في أرض الواقع، بما يجسّدونه من أفكارهم وسلوكهم، وقدرتهم في ابتكار المؤسسات الحديثة الشاهدة على معالم التغيير المشع بتنويره القاشع لظلمات في القلوب، وليس في العيون وحدها.

خيبات التنوير المتراكمة لا تصيب العقل فحسب. إنها تحرم المجتمع من ثقافة الحقيقة، تفكك بنية الوعي الجمعي، تجرده من قدرته على تبيان الصواب من الخطأ. تفرض عليه أن يعيش أسيراً لأفكار الآخرين من ما وراء الزمن. تشلّ فكره عن إنتاج المعقولات الجديدة المساعدة على قطع حبال الانسياق الغريزي والاستسلام إلى آليات الانحطاط السائدة في محيطه. وتمنعه من إرادة الاستطلاع والكشف عن إمكانيات أخرى مقموعة، وقابعة في صلب البنية الإنسانية للجماعة. لكنها محرومة حتى من قابلية الدلالة على وجودها. وبالتالي فهي الممنوعة مقدماً من حق التعبير عن خطاب آخر مختلف، حتى قبل السماح له أن يصير إلى موضوع حوار وأخذ ورد. فقبل أن تُمنع حرياتُ التعبير، قد لا يكون لدى المجتمع المقموع ذاتياً ما يعبِّر عنه، حتى يطالب من ثَمَّ بحرية أدائه له. ليس فاقد الحقيقة كمن هو ليس دارياً بالحقيقة أصلاً. وهنا فداحة المأساة حقاً. فالمجتمع الممنوع من نهضته قد ينسى ما كانت تعنيه. ويألف الانحطاط والقمع حتي يعتبرهما في النهاية من مجريات الأمور الطبيعية. فالفساد والخيانة والغدر والقتل الفردي والجماعي هي وقائع الحياة اليومية. لكن لا تكاد الألسن تتداول أسماءها الأصلية.

هنالك عملة أخرى من ألفاظ التحرير والسيادة والاستقلال وعناوين الطوائف والمذاهب، والأصوليات بجذورها وفروعها، تغطي وجبات يومية من الأكاذيب والقتلى والثكالى والمحرومين وأبناء السبيل.

خطوط متوازية ومتداخلة من أشكال العنف الدولي والإقليمي والمحلي. لم يعد أحد مهتماً بالكشف عن مسؤوليتها، عن هويات عملائها، عن خططها التآمرية لليوم والغد، عن حصائلها التدميرية، حتى عندما تُعلن أخبارُها، وتُذاع بياناتها، فليس ثمة متغيرات ما قد تعتري أمزجة الناس أو سلوكهم الرتيب. فهل هي النظرية النفسية حول تلاؤم المنكوبين مع واقع النكبة. وهل هي نظرية التشفّي من الذات بإيقاع المزيد من الجَلْد والتعذيب السادي في ذاتها، أم أن المسألة أبعد من أية نظريات جاهزة. ثمة علم معرفي جديد ينبغي أن ينشأ حول ما يعنيه مفهوم آخر للمدنية، يخص تجارب الأمم المصنفة في عداد العالم الثالث. وقد تكون قصة النهضة العربية وأطلالها واحدة من التجارب الرائدة في نشأة هذا العلم المعرفي غير المطروق بعد. فهي تلك التجربة التي أُتيحت لها أفضل الإمكانيات المادية والحضارية، لكنها سريعاً ما عايشت النهضة مقترنة بأطلالها في وقت واحد.

لعل المحور الرئيسي لهذا العلم المعرفي ينبغي أن يدور حول هذه الإشكالية الفريدة في كيفية انقلاب الموارد النهضوية الواعدة إلى أعطال استراتيجية، تكون وظيفتها المركزية تجفيف هذه الموارد من ينابيعها التاريخية والطبيعية والإنسانية، وتحويلها إلى نقائضها. كأن تكون نهضة العرب من أغنى نهضات العالم المعاصر، فهي المُزوَّدة أرضاً وتاريخاً وإنساناً بأهم ما يبني مشروع حضارة ذات بعد كوني. ومؤهلة لأن تلعب أصدق دور في أنسنة المدنية، وفي المساهمة النبيلة في لجم وحوشها الكاسرة.

لكنها كانت هي الهدف المركزي لهذه الوحوش عينها. وقد حاولوا، ولا يزالون يحاولون أن يسبقوها إلى تدمير ذاتها.. حتى تبنى حكامها أنفسهم عقيدة التدمير الذاتي هذه، كما لو كانت آخر الحلول الممكنة للبقاء.
فلماذا دعوناها دائماً بالنهضة المغدورة..

"القدس العربي"

"القدس العربي"

التعليقات