31/10/2010 - 11:02

هل تغيير الثقافة شرط لحدوث التنمية؟../ د.خالد الحروب

هل تغيير الثقافة شرط لحدوث التنمية؟../ د.خالد الحروب
شروط حدوث التنمية في مجتمع ما، أو دولة ما، أو منطقة ما، بالغة التعقيد والتداخل. وهي شروط حار فيها مفكرو العلوم الاجتماعية والسياسية. وكلـما تقدمت أطروحة بنظرية ووصفة إن طبقت تحقق التقدم، جاء من يفندها بالشواهد التاريخية والتجارب الـمختلفة. هل الفاعلية الاقتصادية هي مفتاح التنمية؟ هل النظام السياسي هو محركها الأساس؟ هل الظرف التاريخي وعلاقة السيادة الـمحلية بالتدخل الخارجي هما العنصر الحاسم؟ هل الـموقع الجغرافي والثروات الطبيعية هما الفيصل؟ هل الثقافة السائدة مساعدة أم معيقة للتنمية؟ ثم ما هي التنمية نفسها قبل كل شيء، وأي الـمجالات تشمل وأيها تستثني؟ تلك الأسئلة وغيرها كثير ليست هناك إجابات حاسمة عنها. السجالات الـموجودة تُقدم محاولات إجابات ونقاشات ثرية وغنية أكثرها يصف أسباب عدم حدوث التنمية ربما ببراعة، لكن قليلها يطرح ما يبحث عنه الجميع "الوصفة التنموية الفعالة". لكن أكثر الطروحات خلافية في هذا الشأن هي أطروحة اشتراط التغيير الثقافي لانطلاق ونجاح التنمية الشاملة.

وقبل التفصيل في ذلك من الـمفيد الاتفاق على تعريف ولو فضفاض لـمعنى ومضمون التنمية. وهنا لنقل إن التنمية، ولغايات التأمل في هذه العجالة السريعة، هي الاندراج في عملية تراكمية تحسّن من الظروف الاقتصادية والـمعاشية والسياسية باطراد للـمجموعة البشرية الـمعنية (في دولة ما، أو منطقة ما). ويكون من النواتج الـمباشرة لهذه العملية ارتفاع مستوى الـمعيشة وانخفاض مستويات الفقر وتزايد الفاعلية الاقتصادية لهذه الـمجموعة وزيادة قدرتها على التنافس مع الـمجموعات الأخرى. من دون أن تكون هذه العملية تراكمية وتُرصد حلقاتها الزمنية على أساس أنها تبنى إيجابياً وتطورياً على بعضها البعض فإن التنمية تكون مفقودة.

الأطروحة الثقافوية في تفسير عسر التنمية تقول إن ثقافات الـمجتمعات والبنية الفكرية والدينية لها هي التي تسهل أو تعسر حدوث التنمية. فبعض الثقافات متوائمة مع منطق الفاعلية الاقتصادية والتراكم الرأسمالي ومنفتحة على استيعاب التغيّرات العالـمية وتتبناها وتعيد إنتاجها بشكل يدرجها في منحى تنموي ونهضوي صاعد. فيما ثقافات أخرى تطرح إعاقات ذاتية تجعل من تحقيق بعض جوانب التنمية، أو كلها، أمراً عصياً. ومن الـمعروف أن أطروحة ماكس فيبر حول "الأخلاق البروتستانية والرأسمالية" هي الأساس لهذا الـمنظور من التفكير. فهو يقول إن القيم التي جاءت بها البروتستانية (والكالفنية)، بثورتها الإصلاحية على تقاليد الكاثوليكية الساكنة وغير الفاعلة، قدست قيم العمل، وقيم تعظيم الربح على أساس أنها قيم تعبدية، ونظرت للعامل نظرة طهورية فيما استرذلت العجزة والقاعدين. لكن تلك الأطروحة تعرضت لكثير من النقد والتطوير على أساس أن تلك القيم ليست حصرية لا بالبروتستانية ولا بأية منظومة فكرية أو دينية محددة. إضافة إلى التجارب التنموية في النصف الثاني من القرن العشرين مثلاً، وخاصة نهوض اليابان وتقدّم دول شرق آسيا (وكلها ذوات ثقافات وأديان غير بروتستانية) تدلل على أن مسألة التنمية تأخذ أبعاداً أكثر تعقيداً، ومن الصعب حصرها في البعد الثقافي.

من أحدث القراءات الاقتصادية الـمتحمسة لـمركزة الثقافة في قلب تحليل عملية التنمية كتاب عالـم الاقتصادات التنموية لورنس إي هاريسون "الحقيقة الليبرالية الأساسية: كيف يمكن أن تغيّر السياسة الثقافة وتحميها من نفسها" Lawrence E Harrison
The Central Liberal Truth: How Politics Can Change) )( 2006) and Save it From Itself a Culture
في هذا الكتاب تقوم أطروحة هاريسون على أساس أن ثقافة الـمجتمع الـمعيّن هي التي تحدد احتمال نجاح أو فشل التنمية فيه. والثقافات برأيه تتنوع ردود أفعالها لجهة انسجامها وقبولها وتشجيعها أو ترددها وخشيتها أو رفضها للتنمية. والنظرة للـمال والربح والوقت والعمل والتمتع بالحياة تختلف من ثقافة إلى أخرى، وبالتالي ينعكس ذلك ــ وعند تطبيقه على نطاق الـمجتمع بأسره ــ على احتمالات وأمدية التنمية الـمقصودة. ويذهب هاريسون في الأطروحة بعيداً إلى درجة وضع مصفوفة تراتبية للثقافات بحسب قدرتها على توفير مناخ موائم ومسرع للتنمية. وهنا يصنف الثقافة اليهودية في الـمرتبة الأولى، تليها الثقافة البروتستانية، ثم الثقافات الهندوسية والكونفوشسية، فيما يضع الثقافة الإسلامية والكاثوليكية والثقافات الإفريقية في قاع تلك الـمصفوفة.

تقترب هذه الأطروحة من حدود العنصرية الأنثروبولوجية هذا وإن كان هاريسون يؤكد في أكثر من موضع في كتابه عدم عنصريته وعدم تفسيره للتخلف باللون أو الإثنية. لكن ما هو أهم، من ناحية جدلية، هو نقاش مضمون الأطروحة نفسها. والـملاحظة الأولى هنا هي أن وضع الثقافات الهندوسية والكونفوشسية تالية للثقافة اليهودية ــ البروتستانية يجيء في ضوء التجربة التاريخية ونجاحات التنمية في اليابان وبعض آسيا ثم الصين، وهي النجاحات التي لـم تحدث أيام ماكس فيبر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهذا يشير إلى أن الاقتصاد والنجاح الاقتصادي دفعا إلى تصنيف الثقافة البوذية والكونفوشسية على أنها داعمة للتنمية وليس العكس. أي أن هذه الثقافات كانت أيام فيبر معيقة للتنمية وأصبحت أيام هاريسون مساعدة لها.

والـملاحظة الثانية التي تنطبق على تحليل فيبر وهاريسون معاً، هي أن حضارات وتجارة واقتصاد ما قبل نهوض رأسمالية أوروبا كانت في معظمها، إن لـم يكن كلها، تقوم في فضاءات ثقافات وأديان متنوعة: آسيوية، متوسطية، إفريقية، هندية ... إلخ. وسواء انطبق كلياً أم جزئياً التعريف الحديث للتنمية على الانتشار الاقتصادي والتجاري لتلك الحضارات وعولـماتها ووصولها إلى آفاق واسعة، فإن الحقيقة التاريخية الاقتصادية كانت أكثر رسوخاً من التحليل الفيبري وأقرب من التحليل الـماركسي. بمعنى آخر أن الحركة الاقتصادية وفعل التاريخ هما اللذان يؤثران في الثقافة وليس العكس.

والـملاحظة الثالثة متعلقة بعالـم اليوم وتحولاته الاقتصادية والعولـمية وانعكاساتها على الثقافات والـمجتمعات، بما يناقض ولا يساير أطروحة هاريسون اللامساومة. فحركة الاقتصاد الـمعولـم والـمبادلات التجارية والـمالية والتشابك متعدد الأطراف والتنافس على الأسواق وعلى تجويد الـمنتوجات هي العنصر الأهم في استجابات الـمجتمعات الحالية، وتلك الاستجابات تلحقها تحولات ثقافية وتبدلات في التقاليد. ومرة أخرى فإن "غزو قيم الحداثة" لكثير من الـمجتمعات الآسيوية جاء محمولاً على الحركة الاقتصادية، وليس العكس. أي أن تلك الحركة لـم تنتج عن "ثقافة محلية" عندها موقف متميّز من التنمية. هذا مع الإشارة إلى أن الحديث عن "القيم الآسيوية" أو عن "الخصوصية اليابانية" حديث مبالغ فيه وأكثره رطانة دفاعية. والأمر نفسه ينطبق على معظم دول الخليج العربي التي حققت في العقدين الأخيرين مستويات تنمية متقدمة من دون أن تكون بروتستانية، بل مستفيدة من الثروات الطبيعية ونمط تعولـم الاقتصاد الراهن.

الـملاحظة الرابعة وليست الأخيرة، لكن ما تتيحه الـمساحة هنا، هي أن حشر احتمالية حدوث التنمية في تراتبية ثقافوية مغلقة يتضمن حكماً بالإعدام عليها في الـمجتمعات ذات الثقافات "الـمضادة للتنمية"، بحسب ما ينطوي عليه تقسيم هاريسون. صحيح أن هناك دوراً للثقافة في مدى سرعة وإيقاع حدوث بعض جوانب التنمية، لكنه يظل دوراً ثانوياً، وليس محدداً جوهرياً. الثقافة قد تعيق جانباً هنا أو جانباً هناك في العملية التنموية الشاملة، لكن تحت وطأة الحركة الاقتصادية وفاعليتها تجد هذه الثقافة نفسها مضطرة لأن تقدم تنازلات ولأن تتواءم وتعيد تشكيل ذاتها بحيث تتناغم ولا تصطدم مع حركة التاريخ. منطق التحول البطيء هذا، وإن كان يثير الأعصاب والحنق بسبب بطئه، هو في كل الأحوال أكثر واقعية من اشتراط تغيير الثقافة لأحداث التنمية.

"الأيام"

التعليقات