13/09/2018 - 13:07

يوبيل أوسلو: المأزق والمخرج

عند الحديث عن "فخ أوسلو"، الذي لا يستطيع الفلسطينيون الخروج منه رغم مرور ربع قرن، فإن الموضوع لا يقتصر على الوقوع في المطب الذي نصب بإحكام للإيقاع بحركة التحرر الوطني الفلسطينية وإجهاض أهدافها المتمثلة بالتحرير والعودة وإقامة الدولة المستقلة فقط،

يوبيل أوسلو: المأزق والمخرج

عند الحديث عن "فخ أوسلو"، الذي لا يستطيع الفلسطينيون الخروج منه رغم مرور ربع قرن، فإن الموضوع لا يقتصر على الوقوع في المطب الذي نصب بإحكام للإيقاع بحركة التحرر الوطني الفلسطينية وإجهاض أهدافها المتمثلة بالتحرير والعودة وإقامة الدولة المستقلة فقط، فالمرحلة الانتقالية لم تفض بعد ربع قرن إلى هذه الأهداف، ليس بسبب "الانقلاب السياسي" الذي وقع في إسرائيل، كما يعتقد البعض، بل لأن هذه المرحلة والتي تمثل جوهر الاتفاق صممت أصلا لإجهاض هذه الأهداف وليس لتحقيقها.

فتقسيم الضفة الغربية إلى مناطق "أ" و"ب" و"جـ" وعدم وقف الاستيطان وبناء شبكة الشوارع الالتفافية، شكلت مجتمعة وصفة أكيدة لتقطيع أوصال الجغرافية السياسية الفلسطينية ومنع إقامة دولة ذات سيادة، كما أن تواصل الاستيطان وتعزيزه حول قطعة "الجبنة السويسرية" التي تحدث عنها رابين، والتي كان يفترض رتق مخارمها بإزالة المستوطنات والبؤر الاستيطانية أو ما تيسر منها، حولها إلى شرائح ممزقة ومهددة بالمزيد من القضم والضم.

وإذا كان ما أوقع الفلسطينيين في فخ أوسلو هو "الطعم الدسم"، الذي عرضته إسرائيل، والمتمثل بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني والتفاوض معها، فإن الكمين الذي وقعت فيه الأخيرة وتفشل في الإفلات منه منذ ربع قرن، حولها من حركة تحرير وطني إلى وكيل أمني لإسرائيل، وبذلك خسرت نفسها دون أن تحقق شيئا من أهدافها الوطنية.

في حينه قيل عن الدكتور حيدر عبد الشافي، رئيس الوفد الفلسطيني إلى مفاوضات واشنطن، إنه رفض في الأيام الأخيرة من المفاوضات أن يتزحزح قيد أنملة في المفاوضات قبل حسم مسألة وقف الاستيطان، فكان كلما حاول الوفد الإسرائيلي تجاوز الموضوع أعادهم إلى عقدة منشاره، وذلك لقناعته وقناعة الفلسطينيين عموما، بأن أي تقدم مهما كان كبيرا لن يؤتي فائدة ترجى دون وقف الاستيطان.

وبنظرة إلى الوراء يمكن الاستنتاج أن نقل المفاوضات من واشنطن إلى أوسلو كان هدفها تجاوز "عقدة منشار" عبد الشافي وتيسير الاستيطان. فقد وفر أوسلو إضافة إلى الشرعية الوسائل الضرورية للاستيطان، الهدوء والاستقرار الأمني والشوارع الالتفافية التي فصلت المستوطنات عن قرى ومدن الضفة وقللت من الاحتكاك مع السكان الفلسطينيين، كما قامت بربطها وتقريبها من مركز إسرائيل وأرست بذلك البنية التحتية لـ"دولة المستوطنين".

وإذا كان الاستيطان هو إكسير حياة الاحتلال وديمومته، فإن أوسلو هو الذي أطال عمر الاحتلال بتوفير آليات تبدو للوهلة الأولى "أصيلة" و"شرعية" و"غير عنيفة"، حيث تم استبدال الكتيبة العسكرية التي تقمع الفلسطينيين لتحمي المستوطنة، بشارع التفافي يتجاوز التجمع الفلسطيني المجاور والمضبوط أيضا بقوات أمن "وطني" فلسطيني وظيفتها حماية أمن المستوطنين.

وقد نجحت القواعد والثقافة التي خلقها أوسلو بتحويل العمليات المسلحة الفلسطينية إلى إرهاب وتجريد المقاومين من السلاح وتحويلهم إلى صفوف الشرطة، وحتى الحجر الذي كان الجندي الإسرائيلي في مرماه، وكانت الدولة الفلسطينية على مرمى منه، فقد مفعوله بعد أن صار لا يصل إلى هدفه الفعلي إلا بشق الأنفس، وبعد أن فصلت قوات الأمن "الفلسطينية" بينه وبين جنود الاحتلال.

في ظل هذا الوضع انتعشت دولة المستوطنين، التي انتشرت على كامل مساحة الضفة الغربية بعد أن حشر أوسلو الفلسطينيين في "كانتونات" سميت مناطق "أ"، يحتاج حتى "وزراء" السلطة الفلسطينية ورئيسها إلى إذن الجندي الإسرائيلي للتنقل فيما بينها، وبينها وبين قطاع غزة الذي جرى عزله ومحاصرته بالكامل في إطار مخطط تمزيق الجغرافية السياسية الفلسطينية وقطع الطريق على أي محاولة لإقامة دولة مستقلة.

هذا الوضع الذي يعيشه الفلسطينيون على مدى ربع قرن، أصبح محنة حقيقية ومأزقا تاريخيا كبيرا، إن صح التعبير، لا يسهل الخروج منه، في حين أن جميع التخريجات والحلول التي تتحدث عن "إلغاء أوسلو" و"موت أوسلو" و"تسليم مفاتيح السلطة" لن تكون قادرة على العودة بالوضع إلى الوراء، لأن المياه التي جرت في نهر الأردن خلال ربع القرن الأخير، لم يقتصر تأثيرها على المورفولوجيا السياسية الفلسطينية، بل لامست الطبقات المؤسسة لحركته الوطنية وتشكيلاتها المختلفة.

وإذا كان التاريخ الحديث قد شهد تحول العديد من حركات التحرر في العالم إلى سلطة ودولة، بعد إنجاز تحرير الأرض وتوطيد الاستقلال، فإنه قلما شهد عودة السلطة إلى حركة تحرر وطني، ليس فقط لأن الانتقال من الخنادق إلى الفنادق أكثر سهولة وإغراء من حدوث العكس، بل لأن الانتقال من الثورة إلى الدولة هو صيرورة طبيعية تحكمها العلاقة بين الوسيلة والهدف، وبكلمات أخرى يمكن القول، قد يتحول الثائر إلى بيروقراطي والفدائي إلى "متكرش" ولكن من الصعب أن يتحول البيروقراطي إلى ثائر و"المتكرش" إلى فدائي.

بهذا المفهوم، فإن ما نسميه إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية شعب يقع تحت الاحتلال ولمنظمة التحرير الفلسطينية كحركة تحرر وطني أصبح يتطلب "ثورة في الثورة"، أو "حركة تصحيح وتطهير" تطيح بالطغمة البيروقراطية التي خلقتها وضعية أوسلو وتحسم التناقض، الذي يحاول الجميع طمره، بين من يقبعون في سجون الاحتلال وزنازينه ومن يتولون التنسيق الأمني معه، وذلك بعد استفحال هذا التناقض.

التعليقات