19/12/2018 - 19:51

فطر سام..

سياسة التهميش والعنصرية المتفاقمة موجهة ضد الجميع كشعب وليس كأفراد، ولا نستطيع مواجهتها إلا كشعب متماسك ومسيّس ويدرك ما دار ويدور من حوله، مجتمع يهتم بالسياسة مثلما يهتم بكرة القدم والشهادة الجامعية والفنون،

فطر سام..

في بداية فصل الشتاء، أحضر شاب من البرّية دلوا مليئا بالفطريات، كان أكثره من النوع السّام، وعندما رأى والده ما أحضره ابنه قال له: يا بني لقد ذهب تعبك هباء، فهذا الفطر من النوع السّام، ألقه في حاوية القمامة.
كان أول رد للشاب، هو الاستنكار، إذ أن الشاب لم يقتنع وقال: لا أظن أنه سام، لقد رأيت غيري يقطف منه! 

- بل هو سام وإياك أن تأكل منه.

رد الابن بعناد: كيف عرفت أنه سام؟

فرد والده: لأنني صاحب تجربة، وأكبر منك سنًا بأكثر من ثلاثة عقود، أعرف أن هذا النوع من الفطر مميت، وأعرف حالات تسمم بسببه. 

- إذن لماذا قطف منه آخرون؟

- قَطفُ الآخرين له، لا يعني أنه صالح كطعام، إنهم مخطئون مثلك، وإذا كنت تعرفهم، اتصل بهم الآن، وأبلغهم بأن هذا الفطر سام. 

لم يقتنع الابن حتى بعد أن سكب والده الفقع في حاوية القمامة، فقد بقيت لديه شكوك. 

كثير من الشبان لا يثقون بخبرة وتجربة الجيل السابق، ويرون به عائقا لحرّيتهم وتطوّرهم الذاتي، والبعض منهم يسعى بهذا لإثبات رجولته، وبأنه بات مسؤولا عن نفسه ومتحرّرا من الالتزامات البيتية الأسرية، فيفعل عكس نصائح والديه تمامًا، فإذا حذّره والده من تأثير الأرجيلة على صحته، صارت الأرجيلة حبيبته التي لن يتنازل عنها أبدًا، وإذا قال له والده إن رفقة فلان لا تروقني، فعل العكس، وصار هذا أقرب أصدقائه، وليس غريبًا أن يحضره في اليوم التالي إلى بيته، ببساطة فهو يرفض السيطرة الأبوية ويحاول التحرر منها. 

لقد طرأت تغييرات كمية ونوعية على مجتمعنا، واختلف نوع الاهتمامات ومسارات التعليم، بعدما كانت محصورة في الطب العام والمحاماة وسلك التدريس، وحطمت ثورة المواصلات والاتصالات كل الجدران والحواجز.

كل هذا مفهوم، إلا أن أخطر ما يواجه الأجيال الصاعدة، هي اللامبالاة لما يدور من حولهم في الشأن السياسي، وهذا في كثير من الأحيان بتوجيه من الأهل، ونصائحهم بأن السياسة لا تطعم خبزًا، وبأن السياسة قذارة ومصالح أنانية وغيرها، لدرجة صار هناك وهم بأن الخلاص يأتي بالابتعاد عن السياسة. ويركز الأهالي على توجيههم لتحصيل شهادة تضمن المال والربح للمسكن وقطعة أرض وسيارة، وهذا يعني شهادة الطب بأي ثمن كان، لضمان مستقبلهم، يضعون الأبناء في تحديات قد تكون أكبر من قدراتهم وطاقاتهم، فيرسلوهم حول العالم، أينما اتفق، فالمهم العودة بالشهادة، الأمر الذي يؤدي إلى اكتئاب البعض ممن لا تسعفهم قدراتهم، ومن ثم إلى ما لا تحمد عقباه.

الشهادة أمر ضروري، وطبيعي أن يبذل الشاب جهدا لنيلها، ولكن الشهادات والتحصيل تبقى ناقصة من دون القيم الاجتماعية الأساسية التي تحفظ سلامة المجتمع، وخصوصا الوعي السياسي لتاريخنا ولما يدور من حولنا، وإلا فما نفع كثرة الشهادات والمتعلمين، إذا كنا لا ندرك ولا نهتم بمعرفة ما جرى ويجري حولنا؟  

سياسة التهميش والعنصرية المتفاقمة موجهة ضد الجميع كشعب وليس كأفراد، ولا نستطيع مواجهتها إلا كشعب متماسك ومسيّس ويدرك ما دار ويدور من حوله، مجتمع يهتم بالسياسة مثلما يهتم بكرة القدم والشهادة الجامعية والفنون، وقادر على التمييز بين المهم والأهم والهامشي، مجتمع يسعى إلى التربية السياسية إلى جانب التربية الروحية والتحصيلات المادية. 

لمواجهة السياسة العنصرية المتفاقمة والصمود في وجهها والقدرة على تحديها، نحتاج إلى جيل يحترم نفسه كشعب وكجزء من أمة كبيرة وعريقة، يحترم تجربة من سبقوه ويقيّمها ويستنتج الاستنتاجات الصحيحة، لأن المستهدف بالأساس هو هذا الجيل الصاعد، ومن الضرورة القصوى عدم تركه للفراغ الذي ستملؤه مفاهيم وقيم وقناعات أخرى بعيدة عن همومه الحقيقية لأنه لا يوجد فراغ فكري بل أفكار فارغة.

هناك تجربة تراكمت عبر عقود كثيرة دفع شعبنا ثمنها، من واجب الجيل السابق أن ينقلها بأمانة، وعدم ترك هذا الجيل في أوهام الخلاص الفردي من خلال إبعاده عن دائرة السياسة، بل يجب اطلاعه على حقيقة وضعه، كي يستطيع المواجهة بالعمل والفكر والتعليم والتنظيم والانضباط، والاستفادة من التجارب المتراكمة لمن سبقوه.

اقرأ/ي أيضًا | يا مدارس يا مدارس..

التعليقات