12/01/2019 - 15:42

عن زوبعة معرض حيفا: بعض الملاحظات

إن الهجوم القبلي على عمل فني لم يأت أصلًا لنقد الدين المسيحي بل لنقد ثقافة الاستهلاك الرأسماليّة من خلال استعمال رموز دينيّة تشكل النقيض للرموز المادية ما هو إلا دلالة على الخمول الفكري والتحييد الكامل للعقل في أنماط التدين الدارجة

عن زوبعة معرض حيفا: بعض الملاحظات

الفيلسوف هابرماس والبابا بندكت في مناظرتهما الشهيرة

في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، عندما بدأت دور السينما الأوروبية تجهّز لعرض فيلم المخرج الأميركي الشهير مارتن سكورسيزي بعنوان "الإغراء الأخير للمسيح"، الذي اعتبره العديد من المسيحيين مسيئًا لمعتقداتهم الدينية، طالب اليمين المسيحي في أوروبا بمنع عرض الفيلم في دور السينما. آنذاك، خرج الأب لوكاس ماتيو سكّو، الحاصل على مرتبة الأستاذية في علم اللاهوت والمحاضر في جامعة نافارّا الإسبانية، وهي من أهم الجامعات الكاثوليكية في أوروبا وأكثرها تشددًا لهويتها الكاثوليكية، ليدافع عن الفيلم. إذ ادّعى الأب لوكاس أن المسيح عندما تجسد وعاش بين البشر لم يأت فقط من أجل معجبيه بل من أجل البشرية كلها، لذا يحق للجميع وليس فقط لمعجبيه ولمحبيه أن يعبروا عن رأيهم به.

موقف الأب لوكاس لم يأتِ من فراغ. في عام 1963، أصدر البابا حنا الثالث والعشرون رسالة أبوية شهيرة (Encyclical) معروفة باسم السلام في الأرض (Pacem in terris)، تعتبر هذه الوثيقة من أهم الوثائق المسيحية والدولية في مجال حقوق الإنسان والسلام الدولي. وتشدّد على حق الإنسان في البحث عن الحقيقة بحرية، بل هي تطالبه بأن لا يهمل ملكة العقل الذي وهبها إيّاه الخالق وبأن يسعى دائما للبحث عن الحقيقة مهما كانت. لا يمكن القبول، ونحن في عام 2019، أن نجرد نزعاتنا الدينية من العقل. كما لا يجب أن نتصالح مع حقيقة كوننا مجتمعا معاديًا للحريات، يشبه القطيع الذي يشعر بالتهديد من ظواهر التميز والفردانية. وفقط للتذكير، في عام 2004 جمعت الأكاديمية الكاثوليكية في ميونخ بين الفيلسوف الألماني الشهير يورغن هابرماس كممثلٍ للعقل في الغرب وبين الكاردينال الألماني جوزيف راتسينجر (البابا بندكت السادس عشر لاحقا) وهو من الوجوه البارزة في علم اللاهوت في الكنيسة الكاثوليكيّة آنذاك، وتحاورا حول جدلية العلمنة، العقل والدين. في هذا الحوار أكد راتسينغر على أهمية بناء علاقة متبادلة بين الدين والعقل وأهمية الاعتراف المتبادل ببعضهما بعضًا.[1]

أما في مجتمعاتنا، فالإيمان لا يتحاور بتاتا مع العقل بل يمارس نوعًا من أنواع العصبية القبلية المعادية لقيم الحداثة والديموقراطية وحقوق الإنسان. ليس من المفاجئ إذا أن لا نجد ترجمة للعربية للرسالة البابوية السلام في الأرض على مواقع الإنترنت، لأنّ الحداثة، وفي صلبها حرية العقل، لا تعني لنا الكثير. حرية الإبداع الفني هي من أهم أوجه حرية العقل. لا يوجد أي فكر أو فكرة أو عقيدة فوق النقد، في حرية التعبير لا يوجد مقدسات إلا حياة الإنسان وسلامته الجسدية. أن ترى نصًا ما مقدسًا هذا من حقك، لكن أن تفرض قدسية النص على الآخرين هذا بالتأكيد ليس من حقك. المعايير الدولية لحقوق الإنسان تميّز بين المس بالأشخاص وبين المس بالمعتقدات والأفكار، بالتالي هي تجيز تقييد حرية التعبير فقط عندما تشكل الأخيرة خطرًا على الأفراد كالدعوة للعنف والقتل والتحريض على العنصرية أو الكراهية الدينية، لكنها لا تجيز المس بحرية التعبير التي تنتقد فكرا أو عقيدة ما. 

إن الهجوم القبلي على عمل فني لم يأت أصلًا لنقد الدين المسيحي بل لنقد ثقافة الاستهلاك الرأسماليّة من خلال استعمال رموز دينيّة تشكل النقيض للرموز المادية ما هو إلا دلالة على الخمول الفكري والتحييد الكامل للعقل في أنماط التدين الدارجة في مجتمعاتنا. 

من يشعر بالاستياء من الأعمال الفنية المعروضة في معرض حيفا من حقه أن يقاطعها ومطالبة الآخرين بمقاطعتها، يمكنه، أيضًا، مقاطعة متحف حيفا مدى الحياة ومقاطعة الجهات التجارية التي رعت المعرض إن تواجدت، لكن ليس من حق أحد أن يفرض معاييره الشخصية فيما يتعلق بالمس بالمشاعر الدينية على مجتمع بأكمله. في مجتمع يحترم حرية الفرد وكرامته لا يحق لأحد ولا حتى للمؤسسات الدينية بأن تمارس الوصاية على مجتمع كامل وأن تصادر حق أفراده بأن يقرروا لأنفسهم ما هي الأعمال الفنية التي يريدون الانكشاف عليها. لم يكتف البعض بمطالبة المتحف بإزالة المعرض بل هنالك من طالب بفرض عقوبات على القائمين عليه.

تجريم المس بالمشاعر الدينية هو من سمات الأنظمة القمعية على شاكلة إيران والسعودية.يكفي أن نطلع على قائمة الدول التي سعت جاهدة في الأمم المتحدة لتجريم "تشويه صورة الأديان" على المستوى الدولي لكي نعي أن هذه التشريعات مكانها الطبيعي في دول ليس لديها أي رصيد ديموقراطي يذكر. ليس من الصدفة إذًا أن يجمع مقررو الأمم المتحدة المعنيون بحرية العقيدة ومكافحة التمييز على وجوب إلغاء القوانين التي تجرم"تشويه صورة الأديان"لأنه لا يمكن الوصول إلى تعريف موضوعي لهذا المصطلح، ما يحوله لآلة قمع لطمس ومعاقبة أي محاولات لنقد الأديان حتى لو كان هدفها إصلاح الدين داخليا. كما أن هذه القوانين تطبق عادة على نحو تمييزي، ما يعمق من اضطهاد الأقليات الدينية وغير المؤمنين. في النهاية من يريد وضع نفسه في خانة الدول القمعية والمعادية لحقوق الإنسان كتلك التي تروّج لتجريم "تشويه صورة الأديان" هذا من حقه، لكن ليس من حقه بأن يزج بنا جميعا في هذه الخانة!

(في الصورة: عالم الاجتماع هابرماس والبابا بندكت في مناظرتهما الشهيرة)


[1] يجب أن نذّكر أن راتسينغر قد تعرض وبحق لهجوم كبير بعد هذا الحوار، لأنه استثنى الدين الإسلامي في حديثه عن جدلية الدين والعقل، مقتبسا مقطعا من حوار بين الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني باليولوغ ومثقف فارسي دون طرحه بطريقة نقدية في إطاره الصحيح، ما دفع بعض من المفكرين العرب وغيرهم إلى مهاجمته والرد عليه. نتيجة لهذا الهجوم أصدر الفاتيكان بيانا من خلاله أوضح أنه لم تكن نية راتسينغر القيام بدراسة معمقة للجهاد والفكر الإسلامي، ولا إهانة مشاعر الـمؤمنين الـمسلـمين إنما حاول رفض استخدام الدافع الديني مبررًا للعنف.

التعليقات