22/02/2019 - 16:44

مرحلة ماتت.. وأخرى لم تولد بعد

إذًا، ما يجب أن ينصب عليه العمل فورًا، هو استحداث تصور بديل، يقوم على الإنجازات التي حققها فلسطينيو 48، وهذا لن يتحقق إلا عبر لقاء كل الناقدين المخلصين.

مرحلة ماتت.. وأخرى لم تولد بعد

لم يعد هناك مفر من الاعتراف بواقع الجسم السياسي العربي في الداخل، الذي أعادت الكشف عن بؤسه جولة الانتخابات الحالية للكنيست، وبأنه واقع بات نسخةً من واقع الساحة الفلسطينية عمومًا؛ واقع التشظي والضياع، وبالتالي لا مفر من الاستنفار لتجديد مجمل الحالة السياسية لفلسطينيي 48.

هكذا عرفنا كيف تنتحر الأحزاب، في وقت نحتاج فيه إلى استشهادها، ليس بمعنى الموت، بل بمعنى التعالي والتضحية بالمصالح الفئوية من أجل الهدف الأكبر، ومن أجل مجابهة ما ينتظرنا، داخليا وإسرائيليا. وليس بالضرورة أن يعني الانتحار الاختفاء الفيزيائي، بل اختفاء الهوية وتآكل الأيديولوجيا، وهذا التآكل وصفة لتفشي الخواء الأخلاقي والانتهازية، ومنفذ للبعض للانبطاح تحت أقدام المستعمر.

ربما هناك من تنبأ، أن ما وُلد بالقسر، يصبح عصيًا على العيش والديمومة. ما معناه أن بعض مركبات القائمة المشتركة، لم تقبل بالانخراط بالمشتركة عام 2015 إلا بعد إقدام المستعمر على رفع نسبة الحسم. وبالفعل هناك من كان يتصرف طيلة الوقت وكأنه بالع للسم، وكان ينتظر اللحظة التي تتيح له التخلص من هذا "السم". وعندما حانت الفرصة، بدل التخلص منه ورميه بعيدا، حاول ويحاول قذفه بوجه الجمهور مضيفا عليه هموما على هموم. هكذا نكون قد دفنا تجربة نادرة، بأيادينا، ولم نمنحها فرصة النمو الطبيعي.

سوف يدرك السياسيون، بغالبيتهم، حجم الخراب الذي ألحقه سلوكهم على المستوى الشعبي في الأسابيع المقبلة.، أما تشعباته الأكثر خطورة، ستتكشف بعد التاسع من نيسان/ أبريل المقبل، يوم الانتخابات، ولن تُخفف من آثاره الوخيمة، حتى لو نجحت القائمتان في تجاوز نسبة الحسم.

لن تنجح كل المحاولات، خصوصًا محاولات البعض، أثناء ممارسة الحملات الانتخابية في تبرير أسباب عدم التوصل إلى اتفاق يوحد القوائم. ما سيرسخ في أذهان الناس ليس ما كان يمكن أن يكسبوه من ثقافة سياسية تخص الاختلافات الأيديولوجية والسياسية الشرعية بين مركبات المشتركة المنحلة، بل الصراع على الكراسي. وحتى الذين لا يتحملون المسؤولية عن فرط المشتركة، كالتجمع والحركة الإسلامية، ستطاولهم الهجمات القادمة، من قبل المركبات التي تدعي الحرص على الوحدة. والحقيقة أن شرائح من الناس تُحمل الطرفين المذكورين أيضًا جزءًا من المسؤولية عن الإخفاق في تطوير التجربة الوحدوية، أو على الأقل في منع التدهور، وكذلك المسؤولية عن مواصلة التعامل مع المشاركة في انتخابات الكنيست، وكأن شيئًا لم يتغير في بنية السياسة الاستعمارية التي لا تتوقف عن استحداث قوانين وآليات، تجعل من وجودنا في الكنيست مجرد غطاء لنظامها الكولونيالي العنصري

لم تعش القائمة المشتركة إلا سنة واحدة من التعاون النسبي، ظهرت خلالها كعنوان وازن في الداخل والخارج، وأكسب الفلسطينيين في الداخل احتراما إضافيا لدى أبناء شعبنا في كل مكان.

بدت هذه التجربة، وتجربة هذا الجزء من شعب فلسطين في إدارة وجوده وتطوره وفي حماية هويته الوطنية، بدت للفلسطينيين خارج الخط الأخضر، الشعلة الوحيدة على الساحة الفلسطينية، والتي كان يمكن أن تكون مصدر إلهام لوحدة وطنية ممتدة. منذ الأشهر الأولى، كانت هناك نقاشات حادة داخل المشتركة وداخل الأحزاب بخصوص المقاربات السياسية والخطاب السياسي، وطريقة العمل وهذا أمرا طبيعيا بالنسبة للناس. ولكن العلاقة الداخلية أو الاختلافات السياسية بدأت تنحدر عندما أخذت طابعا شخصيا، خصوصا الصراع بين أحمد طيبي وأيمن عودة، ولم تُبقه الإذاعة الإسرائيلية طيّ الكتمان، بل بثته على الهواء، وكرست نصف ساعة عن هذا الصراع التافه. لم يكن دافع نقمة طيبي هبوط خطاب أيمن عودة، بل النجومية، إذ كان يشعر بغيرة منه، وهو الشاب الذي يصبح عضوًا في الكنيست لأول مرة ويسرق الأضواء منه، فجأة.

أما السلوك المشين الأكبر، فهو السطو على مقعد التجمع، أولا من قبل طيبي ولم يتنازل عنه إلا بعد ضغوط شديدة، وإشغال الناس بهذا الأمر لأشهر طويلة. وما زاد الطين بلّة هو حذو الجبهة حذو طيبي، وكان هذا صادما من حزب لديه مؤسسات ويتبوأ رئاسة الإطارين التمثيليين الأساسيين: لجنة المتابعة والقائمة المشتركة.

وجاء موقف الحركة الإسلامية الأخلاقي، التي رفضت الاحتفاظ بمقعد التجمع، لتوجه صفعة لهذا السلوك غير الأخلاقي وغير المسؤول من الطرفين، طيبي والجبهة، ولتقدم نموذجا بالوفاء بالعهود. وبدل أن تسعى الجبهة وطيبي إلى إصلاح الوضع والاعتراف بالخطأ، أمعنت في موقفها وذلك من خلال إعلان طيبي الانشقاق عن المشتركة، فقط بسبب المقاعد لا غير. وبدل أن تنضم الجبهة إلى التحالف الثنائي ليصبح تحالف ثلاثيا بين أحزاب لها برامجها ومؤسساتها، فضلت في اللحظة الأخيرة التحالف مع طيبي بدل معاقبته.

إطلاق الرصاص على الذات

ليس أدق من الوصف الذي يقول إن ما يمارسه الجسم السياسي العربي هو حالة عبثية، وإطلاق النار على ما تبقى من مكانة للعمل السياسي. ففي الوقت الذي يتوحد اليمين الصهيوني، القديم والجديد، في دولة الاستعمار، يتفرق ضحايا الاستعمار بسبب المقاعد.

لا يفرّط السياسيون بوحدة انتخابية قائمة، ردًا على محاولة المستعمر تصفية التمثيل العربي في الكنيست فحسب، بل يفرّطون أيضا بسلاح"يوم الدين"، سلاح المقاطعة الذي كان على الأحزاب السياسية أن تحتفظ به، وتمارسه في اللحظة المناسبة. إن مواصلة التشبث حتى الموت بالتمثيل في الكنيست وبطريقة انقسامية، قد تجعل سقوط القائمتين ممكنا، بسبب احتمال عزوف المزيد من الناس عن التصويت احتجاجًا، هو بمثابة تفريط بهذا السلاح، بل أشبه بانتحار سياسي. إنه تقديم هدية مجانية للمستعمِر، الذي يحاول نظامه السياسي وبعد سطوع نجم التجمع أواخر التسعينيات، وتأثيره الإيجابي على أداء قوى أخرى، تصفية هذا التمثيل كليا. لقد واجه هذا النظام عقبات أمام تحقيق مطامعه، تتمثل بتركيبة المحكمة العليا التي كانت ترى ببقاء هذا التمثيل العربي أفضل للديمقراطية الإسرائيلية. واليوم، وبعد التغيرات العميقة التي أحدثها نظام الأبارتهايد، والقيود التي تجعل التمثيل العربي في الكنيست أقل شأنا مما كان، وأكثر هامشية، ربما لم يعد يشعر بحاجة إلى ممارسة أشكال إضافية من التضييق، باستثناء التجمع الذي سيظل ملاحقًا في ظل تفاقم عدوانية المؤسسة الصهيونية. وإذا ما فقد العرب تمثيلهم بسبب انقساماتهم، وليس بسبب إجراء قمعي، فهذا أفضل للمؤسسة الصهيونية، إذ يريحهم من ضجة عالمية يمكن أن تكون أقوى ضربة أيديولوجية ضد إسرائيل.

البديل!

كثير من المقاطعين، خصوصًا الأيديولوجيين، لا يكترثون باستشراف ما بعد المقاطعة، إذ لا يجتهدون فكريا وعمليا في رسم تصور عملي يستطيع جذب الناس أو جزء منهم. ويُشهر بعض المراقبين والمعلقين تجربة الحركة الإسلامية الشمالية وتجربة حركة أبناء البلد، أو المجموعة الكبيرة من رفاق الحركة التي انسحبت من التجمع بعد انطلاقته بوقت قصير، في محاججة المقاطعين. وملخص الكلام أن الحركة الإسلامية الشمالية رغم ما قامت به من بناء مؤسسات كثيرة، تعليمية واجتماعية وخيرية خارج الكنيست، إلا أنها فقدت كل ذلك بعد حظرها. كما لم تحسن تسييس كوادرها سوى في الدفاع عن المسجد الأقصى، وهو أمر هام جدًا ويحسب لها، إلا أن هذه الكوادر، بعد حظرها، لم يكن رد فعلها بحجم الضربة التي أنزلها نظام الأبارتهايد بها.

أما حركة أبناء البلد، فعدا انخراط كوادرها في المواجهات الميدانية ضمن الحراك الشبابي، الذي يضم أيضا ناشطي التجمع الشباب والكثيرين من غير المنتمين حزبيا، لم تقدم برنامجا حقيقيا، بل انكمشت أكثر، ولم تتحول إلى لاعب كبير في السياسة. ليس هذا فحسب، بل عاشت مشاكل داخلية مزمنة لمدة طويلة ليست لها علاقة بالموقف من المقاطعة البرلمانية. بالإضافة إلى ذلك، فإنها قامت بالتصويت في انتخابات رئاسة لجنة المتابعة للمرشح الذي يمثل نقيض مشروع أبناء البلد ومشروع التجمع بطبيعة الحال، أي تحويل لجنة المتابعة إلى برلمان فلسطينيي 48، ومن خلاله بناء المؤسسات المهنية المختصة وفي مقدمتها الصندوق القومي.

بناء على هذا التشخيص، تصبح الأزمة مزدوجة؛ أي ليست مقتصرة على الأحزاب البرلمانية بلا استثناء، إنما، أيضًا، كامنة في البديل أو القوى التي تعرض نفسها كبديل من خارج الأحزاب المذكورة، أو من خارج الهيئات التمثيلية العليا بتركيبتها الحالية. 

إذًا نحن جميعًا، سواء أحزاب برلمانية أو حركات مقاطعة، في أزمة عميقة، وبالتالي فإن الفراغ الذي سينجم عن تفاقم أزمة الأحزاب البرلمانية ولجنة المتابعة، لن تملأه قوى وطنية بالضرورة، إذ قد يمتد زمن الفراغ إلى أطول مما نتخيل، وقد يملأه جزئيا عرب صهاينة أو انتهازيون آخرون. وهنا التحدي الكبير، الذي يقف أمام جميع الناقدين والراغبين في توليد ثقافة سياسية بديلة، وبنى حزبية أو حركية أفضل ومتجددة وجذابة وفاعلة.

ما يطمئن على المستوى المتوسط والبعيد، هو وجود طاقات وكفاءات تعليمية وثقافية وسياسية من الأجيال الجديدة، كخريجي الجامعات والأكاديميات، رجالا ونساء. هناك، أيضًا، مؤسسات تنمو ويتطور دورها، منها الروابط الأدبية والثقافية والفكرية السياسية، التي باتت تحتاج إلى سقف وطني جامع، ذي دور في الفعل السياسي.

إذًا، ما يجب أن ينصب عليه العمل فورًا، هو استحداث تصور بديل، يقوم على الإنجازات التي حققها فلسطينيو 48، وهذا لن يتحقق إلا عبر لقاء كل الناقدين المخلصين. إنّه المشوار الطويل الذي ينتظر فرسانه. لا يجب أن يكون هذا البديل في مواجهة أو على حساب الأحزاب والحركات، التي لعبت دورا هاما في الماضي، وتستطيع أن تلعب دورا أفضل في المستقبل إذا أجرت مراجعة عميقة، وخرجت من أزمتها.

التعليقات