المهارات قبل القيادات...

رغم الثورة التكنولوجية والإعلامية لم تنجح الأحزاب باستغلالها لتوسيع صفوفها والتواصل الفردي مع أفراد المجتمع، بل ظلت تعتمد على الفرع كقناة الاتصال الرئيسية مع المجتمع، والمركزية لم تخلق انضباطا حزبيا بل نفرت الناس من الأحزاب وجعلتها هياكل مجردة ومترهلة

المهارات قبل القيادات...

(أ ب)

بداية، لا بد من التحذير من أن عدة أصوات أكاديمية وغير أكاديمية، التي تشن حملة عبر وسائل الإعلام ضد قيادات الأحزاب العربية في أعقاب نتائج الانتخابات ومطالبتها بالاستقالة، تقول كلام حق يراد به باطل، وأنها أبعد ما تكون عن الموضوعية والنزاهة والاستقامة، وبعضها مرتبط بالمؤسسة الإسرائيلية ويقدم لها الاستشارة، وبعضها ساهم وعمل على رفع نسبة الحسم الذي ضرب الأحزاب العربية بالنهاية، وبعضها يحمل "غصة" دائمة بأنه لم ينجح بأن يصبح عضو كنيست بسبب شخصيته وعدم استعداده للتضحية وخوض العمل الحزبي والشعبي المضني. لذا، فإن هذه الأصوات هي جزء من المشكلة وليس من الحل، ولأن مشكلتها بأن العرب ليسوا مؤسرلين بما يكفي لكي يشكلوا قوة احتياط لـ"اليسار الصهيوني" أو "اليمين الناعم"، مثل "كاحول لافان"، بهدف إسقاط نتنياهو.

ثانيا، تظهر نتائج الانتخابات أن هناك أزمة قيادة حقيقية، أو على الأصح أن الناس لا ترى أن لها قيادة، ولذا لا أتردد في الادعاء أن شعار "قيادة جديدة" الذي رفعه تحالف الموحدة والتجمع، لم يفد بل من الممكن أنه أضر، لأن مصطلح قيادة يحمل في أذهان الناس معاني سلبية، حتى لو حمل الشعار مصطلح "جديدة".

وفي الحقيقة، من الصعب تفهم أن هناك من لا يزال يتمسك بمصطلح قيادة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يصبح فيها كل مستخدم للفيسبوك قائدا للرأي العام المحيط به. مصطلح القيادة صار يختلف عما كان قبل عقد ونصف العقد مثلا. صناعة الرأي العام والقيادة اختلفت كثيرًا، لكننا ما زلنا عالقين بتصورات قديمة عن معنى القيادة، ففي النهاية أثبت الشارع يوم الانتخابات أنه هو القائد الحقيقي، وليس طبقة أو نخبة سياسية معينة تقود الشارع.

ثالثا، القيادة بمعناها الحديث لا تقتصر على الزعامة، بل تتطلب أساسا مهارات محددة، والمهارات هي المدخل لتطوير أي عمل في أي مجال. من دون مهارات لا يمكن تطوير أي شيء. لا يكفي الوعي السياسي والثقافة، فالمطلوب مهارة تترجم ذلك.

وهذا يقودنا إلى التساؤل عن إمكانية أن تستوعب الأحزاب العربية القائمة مهارات. معظم هذه الأحزاب قائمة على شكل التنظيم اللينيني من عصر مضى، وأصبحت مقفلة أمام قطاعات واسعة ومحصورة بمجموعة أشخاص، قد يتبدلون، ولكن العقلية والنفسية تبقى كما هي.

والحديث عن ضرورة إشراك الناس في السياسة، كأحد استنتاجات الانتخابات الأخيرة، لا يمكن أن يتطور على المدى البعيد إذا لم تجر الأحزاب تغييرا بنيويا عميقا، يكون أكثر مرونة وأقل مركزية وأكثر حيوية.

لم يعد الحزب، عالميا، تلك المؤسسة التي يحتاجها الفرد اجتماعيا وتوفر له الأطر الثقافية والتعليمية والرياضية والصحية. انعدمت حاجة الفرد لمؤسسة الحزب. هذا ما حصل مثلا مع الحزب الاشتراكي في ألمانيا الذي كان يشكل مؤسسة اجتماعية هامة توفر الرعاية الصحية والاجتماعية والفرق الرياضية. وهذا ما حصل مع حزب "العمل" الإسرائيلي، وهذا ما حصل مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي أيضًا، (الحركات الإسلامية حالة استثنائية وهي ذات هرمية غير حزبية أقامت مؤسسات مجتمعية، ولكن قنوات التلفزة حتى الترفيهية نافستها على جمهورها، بحيث أصبح لكل قناة داعية أو شيخ، وهذا قلل من دور الحركة الإسلامية كحاجة تثقيفية دينية).

كانت الأحزاب في السابق مكملة للدولة، وتسد النقص أو تقصير الدولة تجاه شرائح مجتمعية معينة. كانت عنوانا للفرد، وتقدم له خدمات حقيقية لا تقل عن خدمات الدولة. هذا كله انتهى إلى حد كبير.

باتت الدول المتطورة تسد معظم احتياجات الفرد المختلفة، بالإضافة إلى خصخصة قسم كبير من هذه القطاعات، التي طورت مستوى هذه الخدمات وجعلتها أكثر عملية وحيوية.

ماذا تبقى للأحزاب إذًا؟ في الغرب دور الأحزاب هو تمثيلي برلماني على الأغلب، أي أن برنامج الحزب السياسي والاجتماعي والاقتصادي هو ما يقدمه الحزب للمجتمع والفرد، وهو ما يحفزه للانضمام إليه أو تأييده من عدمه.

وبعد أن تراجع دور الحزب الاجتماعي، وتراجع انخراطه بحياة الناس والمجتمع، صار يلجأ إلى النجومية والشعبوية ويستعين بمستشارين إعلاميين واستطلاعات للرأي العام، لفهم المجتمع وتسويق قادة الحزب كأنهم سلع تجارية مثل منتوجات الحليب أو السيارات. وهذا ما قد يفسر مثلا كيف أن شخصا مثل دونالد ترامب صار زعيما للحزب الجمهوري، وهو لم ينمُ في الحزب بشكل طبيعي، حتى توج رئيسا لأكبر إمبراطورية. هذا يعني أنه حتى أعضاء الحزب أنفسهم صاروا يتأثرون بالتسويق والدعاية، وليس بالأيديولوجيا، وهذا أمر خطير جدا، لأنه حوّل الأحزاب إلى مصنع منتوجات للتسويق، وليس للعقيدة.

وهذا يعني أيضا أن الإعلام بات حلقة الوصل الحصرية بين الأحزاب والمجتمع بدلا من الميدان أو المؤسسات الحزبية الخدماتية. وقد لحظنا تأثير وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في الانتخابات الأخيرة، إذ امتنعت شريحة واسعة عن التصويت تأثرا بما يروجه الإعلام الإسرائيلي ومقولة "ماذا يفعل لنا النواب العرب"، وهذه مقولة تغلغلت جدا في وعي الناس، لدرجة رسمت شكل وحدود العمل البرلماني على أنه خدماتي وليس سياسيا تمثيليا. وكذلك التحريض الإعلامي (والملاحقة) ضد الأحزاب انعكس بشكل واضح على ثقة الناس بالأحزاب والسياسيين وشعبيتهم. ولم تنجح الأحزاب طيلة السنوات السابقة في مخاطبة الناس مباشرة، سواء عبر وسائل إعلامها، المعدومة أصلا، أو عبر وسائل التواصل، ومن أجاد فعل ذلك نال أكبر شعبية في الاستطلاعات، حتى لو كانت شعبية افتراضية قد لا تترجم في صناديق الاقتراع.

وقام الإعلام أيضا بشخصنة السياسة، وتحويلها إلى سباق نجومية، بدلا من التركيز على مواقف الأحزاب العامة، وهذا أدخل الأحزاب في دائرة مفرغة وصارت تبحث عن نجوم لتسويقهم، وهو الحل الأسرع، بدلا من تطوير وبناء حلقات الوصل مع المجتمع والتعامل معه مباشرة دون وسيط، وهذا الحل الأصعب يحتاج لجهود متواصلة على مدار الساعة.

ورغم الثورة التكنولوجية والإعلامية، لم تنجح الأحزاب باستغلال هذه الثورة لتوسيع صفوفها والتواصل الفردي مع أفراد المجتمع، بل لا تزال تعتمد على الفرع ليكون قناة الاتصال الرئيسية مع المجتمع. فبدلا أن يسهل الإنترنت عملية الانتساب للحزب والتأثير في قراراته، لا تزال الأحزاب، هنا، تتمسك بالتنظيم المركزي اللينيني الذي يقزم الفرد أمام دكتاتورية الجماعة. وهذه المركزية لم تخلق انضباطا حزبيا، بل نفرت الناس من الأحزاب، وجعلت منها هياكل مجردة ومترهلة آيلة للسقوط في أية لحظة، وعمليا فقدت دورها المجتمعي.

هذه التحولات مجتمعة تؤكد أن الأحزاب الحديثة يجب أن تقوم على المهارات والكفاءات المتطورة، وليس على الولاءات، فالمسؤول التنظيمي أو سكرتير الفرع في الحزب لم تعد له حاجة كما في السابق لتنظيم الناس أو للترويج لمواقف الحزب أو التثقيف السياسي أو توزيع الجريدة، لأن التنظيمات باتت مجرد هياكل معزولة مجتمعيا، لأن المجتمعات تبدلت والأحزاب تحجرت، والوسيط هو الإعلام و"فيسبوك"، وليس سكرتير الفرع.

إذا ما أرادت الأحزاب البقاء حية فإن عليها تطوير آليات جديدة ووظائف حزبية جديدة، لأن التنوع المجتمعي على مختلف الأصعدة، صار يتطلب مهارات تنتج حلقات وصل وطرق عمل قطاعية، مثل قطاع الأطباء أو قطاع المحامين أو الهاي تيك وغيرها، وعدم الاكتفاء بقطاعات نسائية وطلابية وشبابية، لأن القطاع النسائي، على سبيل المثال، صار أكثر تنوعا وتعقيدا، وكذلك الشبابي والطلابي. القطاعات المهنية لا تلغي باقي القطاعات، لكن من شأنها أن تحول هذه القطاعات إلى طاقة مجتمعية هائلة.

هذا كله، مرة أخرى، يتطلب مهارات لا ولاءات. إذ ليس بالإمكان تطوير مؤسسة سياسية أو اجتماعية عصرية بناء على ولاءات حزبية أو شللية، فهي جزء من المشكلة، بل المطلوب هو إفساح المجال أمام أصحاب المهارات، المهارات العلمية والاجتماعية والتقنية وغيرها، حتى تتمكن من بناء حلقات وصل جديدة بين المجتمع والحزب، أو إعادة أهمية ودور الحزب المجتمعية.

أخيرا، دون المهارات وإعادة النظر في البنية الحزبية، يبقى الحديث عن إشراك الناس بالسياسة كلاما غير عملي أو أمنيات في أحسن الحالات.

ليس المطلوب حزبا كتنظيم من أجل التنظيم، بل إن المطلوب حزب مؤثر سياسيا واجتماعيا، وهذا  لن يحصل باستنساخ شكل المجتمع في الحزب أو ادعاء تمثيل المجتمع، بل أن يتيح للمجتمع أن يعبر عن نفسه ويحقق ذاته الجماعية ويفتح أمامه آفاق التطور والتقدم.

التعليقات