24/06/2019 - 23:21

ملاحظات متأنية عن الانزلاقات في السياسة

عودة المشتركة فقط بالاتفاق على توزيع المقاعد لن يحدث الحراك المطلوب لخلق أجواء حماس وتأييد تقلب المزاج العام باتجاه التصويت بكثافة للمشتركة، وعندها سنندم ساعة لا ينفع الندم

ملاحظات متأنية عن الانزلاقات في السياسة

تأتي هذه الملاحظات بعد تردد وتأن كبير، حيث أنه منذ خروجي للحرية في 27 أيار/ مايو وأنا أتابع ما يكتب وما يقال في مواضيع الساعة التي تهم المجتمع الفلسطيني، ولكني أمسكت عن أي رد أو تعقيب أو مساهمة تاركا لنفسي المساحة والحرية فيما يمكن اعتباره "استراحة محارب" من ناحية، ورغبة في عدم التسرع للقفز في مياه السياسة المحلية التي قد تكذب الغطاس سواء لقلة عمقها أو لقلة صفائها، من ناحية أخرى.

 حزنت، بل وغضبت، وأنا في سجني فاقدا كل قدرة على التأثير، لانهيار القائمة المشتركة، وكنت من بين الأكثر مثابرة في العمل على إقامتها، وبقيت أنتظر حتى آخر دقيقة أن تقام مجددا. توقعت أن أحدا لن يغامر بفض المشتركة، وأنه رغم المشاكل والعثرات والأخطاء وهبوط شعبية المشتركة، خاصة بسبب موضوع التناوب والتلكؤ في تنفيذه، فإن الناس لن ترضى بأقل من المشتركة. وكنت أقدر أن فض المشتركة يعني الاستهتار بالإرادة الشعبية التي أتت بها  عام 2015، وأن رد فعل الناس سيكون قاسيا.

وكنت قد شخصت في مقالات عديدة نشرتها قبيل وبعد الانتخابات عام 2015، التي عززت التمثيل العربي حيث فازت المشتركة بـ 13 مقعدا وتحولت إلى القوة الثالثة في البرلمان، أن المشتركة في نظر الناس هي ليست وسيلة لتخطي نسبة الحسم ولترتيب المقاعد والوصول للبرلمان. واعتبرت أن نسبة التأييد والإجماع الذي تحقق مع إقامة المشتركة كان أشبه بحالات جبهات التحرر الوطني بعد التحرر من الاستعمار. وقد اعتبرت أن تحدي الأحزاب الأكبر هو الرقي بعمل المشتركة لتحويلها فعلا إلى مشروع قومي جامع بقدر توقعات الناس.

 رغم خيبات الأمل من المشتركة التي يتحمل مسؤوليتها كل مركباتها وممثليها، بمن فيهم كاتب هذه السطور، شعبنا لم يتنازل عن المشتركة كمشروع جماعي في سياق الانتخابات الإسرائيلية، وأسطع برهان على ذلك هو رد فعل الناس في يوم الانتخابات الأخيرة في 19/04/2019. من راهن على نجوميته وسطوعه واستطلاعات الرأي التي أعطته بقدرة قادر 8 مقاعد من جهة، وكذلك من راهن على قدراته التنظيمية وتجربته وخبراته اكتشف أن ذلك لا يكفي، وأن قوانين اللعبة السياسية لدى العرب في سياق انتخابات الكنيست قد تغيرت، وأن الناس مستعدة وبسهولة فائقة أن تصوت بالعزوف عن التصويت وفِي هذا أكبر عقاب.

 في سابقة تاريخية ستعاد الانتخابات خلال أقل من نصف سنة، وهذا يوفر فرصة للأحزاب العربية لاستخلاص العبر ولأخذ الخطوات التي يتوقعها الناس، أي خوض الانتخابات من خلال قائمة واحدة موحدة هي المشتركة. والفرصة يمكن فعلا تسميتها كذلك في حال فهم الجميع الدرس الرئيسي مما حصل: المشتركة ليست أداة لوصول فلان أو علان للكنيست، وليست أداة لكي يزيد الحزب الفلاني أو العلاني قوته. وبالتالي ففي المجمل هي ليست صفقة بين الأحزاب بغرض زيادة التمثيل أو حتى المحافظة عليه، وهي بالتأكيد ليست لعبة كراسي وامتيازات، وإنما هي مشروع وطني جامع، وإن كان ليس الوحيد لتعزيز الوجود والتأثير العربي في الساحة البرلمانية في وجه يهودية الدولة وعنصريتها الموغلة في سياسة التمييز والإقصاء.

 لشديد الأسف، ما يجري من نقاشات وسيل الكتابات والتعقيبات في شبكات التواصل، والتي هي بحد ذاتها تشكل أيضا مؤشرا على مدى الأهمية التي ينظر بها المجتمع العربي للانتخابات، لا تعطي أي دليل أن الدرس قد استوعب. الدليل على هذا هو الانشغال الكلي في قضية من سيمثل الأحزاب، وكيفية توزيع المقاعد، وهل سيكون هناك وجوه جديدة من مستقلين في القائمة. وباستثناء اجتهادات قليلة في التعامل مع الموضوع جوهريا واستراتيجيا (أشير هنا إلى كتابات عوض عبد الفتاح، علي حيدر، سعيد زيداني وبكر عواودة وآخرين) كان الانشغال الأساسي في البعد الشخصي، وآلية تركيب المشتركة، وطرح موضوع انضمام أسماء جديدة للقائمة دون الالتفات للموضوع المركزي.

 لست ممن يقللون من شأن قضية تنافس الأحزاب على الكراسي وتوزيع المقاعد، أو من موضوع "الأنا" الفردي والتنافس داخل الأحزاب، ورغبة بعض الأفراد من المهنيين والناشطين أن يخصص مقعد أو أكثر لهم، ولكن المشكلة أن هذه أصبحت القضية المركزية ومحور النقاش الوحيد، وانحرف كل النقاش خاصة إلى قضية انضمام ما سمي "مستقلون" إلى القائمة.

تكمن الخطورة في الموضوع أولا في تحول موضوع التمثيل البرلماني إلى الرافعة الوحيدة لنضال عرب الداخل، والتعويل الكامل عليه والنظر إليه وكأنه السبيل الوحيد لتحقيق الحقوق؛ وتاليا في التشويه الكامل لفهم علاقتنا بالدولة والعودة عند البعض إلى مفاهيم الستينيات وإن كانت بلباس عصري لقضايا مثل معرفة "من أين تؤكل الكتف" و"لعب دور الوكيل"؛ وصولا إلى المساهمة في ترسيخ مقولات صهيونية تقسمنا إلى معتدلين ومتطرفين أو "ناس بتعرف تشتغل" وناس لا تعرف أو "منشغلة في القضية الفلسطينية" مثلا. لسان حال البعض "دعوني أصل للبرلمان، وسأريكم ماذا سأفعل فأنا عندي الكفاءة والقدرة" وكأن الموضوع هو سبق في القفز عن الحواجز أو مسابقة "أراب أيدول"، لا تمييز عنصري ديني استيطاني على أساس قومي، ولا مصادرة أراض، ولا تهويد وهدم بيوت وتهجير أم الحيران والقرى غير المعترف بها وغيرها، ولا يحزنون.

 لا أشكك في حسن نوايا المهرولين للحصول على موطئ قدم داخل المشتركة، ولا في كفاءاتهم الشخصية العالية، ولكن ليس هكذا تورد الإبل يا أصدقاء. لا أجد أفضل من هذه الفقرة التي كتبتها في مقال بتاريخ 12/01/2015، قبيل إقامة المشتركة، أكررها هنا لأننا لا نزال بحاجة لأبجديات العمل السياسي:

"ثمة الكثير من النقد الصادق حول تغيير الوجوه، ووجود شخصيات لامعة تستطيع أن تقوي القائمة برلمانيا ومهنيا، ولكل هؤلاء، وبعضهم أصدقائي، أقول إن الطريق للتغيير في المجتمع والسياسة تكون بالانخراط فيها، والعطاء والتضحية لسنوات وليس عشية الانتخابات، وهذا يعني قبول قواعد اللعبة السياسية مهما كانت غير عادلة، وهذا يكون فقط بالانخراط في الأحزاب بصفتها مؤسسات للتغيير في الوعي والسلوك السياسيين. لا يمكن الترفع عن هذا والتأنف منه واختيار العمل من خلال الوظيفة مهما كانت مهمة أو ذات تأثير أو من خلال مؤسسات المجتمع المدني ثم البدء عند اقتراب الانتخابات بتوزيع النصائح والإرشادات وأسهم النقد للأحزاب. التواضع من أهم قواعد العمل الحزبي والسياسي وأولها، وأنصح هؤلاء جميعا بالقليل منه لو أرادوا مستقبلا الانخراط في العمل السياسي فعلا". هذا ما كتبت قبل أربع سنوات وهو يصلح تماما للوضع الحالي.

 نحن بأمس الحاجة لبناء الوعي الوطني وثقافة العمل الجماعي برؤية جامعة تعزز مشروعنا الوطني كشعب أصلاني يعيش تحت المواطنة في دولة تمييز عنصري (أبرتهايد) واستعمار مستمر ترى فينا أعداء في أحسن الأحوال. حتى حقوقنا المدنية والخدماتية لا يمكن أن نحقق شيئا منها من خلال التشاطر الفردي والتسابق المهين في بناء علاقات شخصية مع الوزراء وأصحاب الشأن أو من خلال الخطاب المعتدل وتخفيض سقف المطالب وما إلى ذلك من أسلوب تذاكٍ هو في الواقع قناع لأسلوب انبطاحي لا يرى أبعد من حسابات الحفاظ على المقعد والحصول على العناوين في الإعلام.

المشتركة توفر فرصة نادرة لرفع سقف المطالب، ولتكوين علاقات عمل مع مؤسسات الحكومة والدولة مرتكزة إلى أرضية صلبة لا تتزعزع ولا تنحني مع أول عاصفة، وهي البرنامج السياسي الواضح والمفصل والمستند إلى المواطنة الكاملة والحقوق الجماعية.

عودة المشتركة فقط بالاتفاق على توزيع المقاعد لن يحدث الحراك المطلوب لخلق أجواء حماس وتأييد تقلب المزاج العام باتجاه التصويت بكثافة للمشتركة، وعندها سنندم ساعة لا ينفع الندم.

التعليقات