12/07/2019 - 17:26

هذا ما يريدونه منا في الانتخابات المقبلة: "الانتصار" لكن على من؟

في زمن الهزيمة والانكسار، يُخيّل للبعض أن هذا هو المآل النهائي للمشروع التحرري، وحين تطول فترة الانكسار، تتوالى الدعوات إلى العقلانية، والعقلانية ليست أمرا معيبا بل هي سلوكٌ إنسانيّ، يلجأ إليه الإنسان لتدبر أموره وتفادي ما يمكن من الخسائر، وفِي

هذا ما يريدونه منا في الانتخابات المقبلة:

في زمن الهزيمة والانكسار، يُخيّل للبعض أن هذا هو المآل النهائي للمشروع التحرري، وحين تطول فترة الانكسار، تتوالى الدعوات إلى العقلانية، والعقلانية ليست أمرا معيبا بل هي سلوكٌ إنسانيّ، يلجأ إليه الإنسان لتدبر أموره وتفادي ما يمكن من الخسائر، وفِي فترة الهزيمة تشتعل العواطف، كالحزن والغضب، والإحباط، وهي صفات إنسانية طبيعية، لكن الدعوات إلى العقلانية والواقعية تكون مُدمرة عندما تكون ناجمة عن هزيمة داخلية، ويُراد بها تذويت الاستسلام، بوعيٍ أو بدون وعي.

وينبلج من هذه الحالة أكثر من نمط واحد من السلوك، أو مسار لمواجهة الهزيمة؛ هناك مسار النجاة بأي ثمن والانسحاب إلى الذات، وهناك مسار معاكس تماما يوصف بالمغامر الذي يعجز عن تقدير معطيات الواقع، ويميل إلى تغليب الإرادوية على الإمكانات الواقعية المتوفرة فيه، وهو عادة ينحصر في أقلية نخبوية. من المهم الإشارة إلى أن هذا المسار أوالاتجاه، رغم أقلويته، إلا أنه في أحيان كثيرة، يوفر مادة نقدية وضوابط أخلاقية تُفَرمل نزعةَ التفريط، ولكنه في غالب الأحيان ينقرض أو يبقى صغيرا وهامشيا بغض النظر عن كيفية النظر إلى ذاته، أما المسار الأهم هو ذلك الذي يحاول التأثير والحد من نتائج الهزيمة، وهو النهج المعروف بالبراغاماتية، أو النهج العملي، وهذا النهج ينقسم إلى شقين، واحد يوصف بالبراغماتية المفرطة أو المبتذلة، والذي لا يقيم وزنا أو لا ينتبه إلى العواقب بعيدة المدى، إما بسبب البنية الانتهازية للجهة التي تعتمد هذا النهج، أو بسبب الافتقار إلى عامود فقري، فكري، وإلى بوصلة صحيحة. وغالبا يكون أصحاب هذا النهج ممن ذوّتوا الهزيمة النهائية، وشقٌ آخر، يتّسم بالعقلانية والاتزان، ويحاول الربط بين التكتيك والإستراتيجية، أو بين الآني وبعيد المدى دون أن يتعسف أي منهما ضد الآخر، لأن الانشداد إلى الاستراتيجية وإهمال الآني، يؤدي إلى العزلة عن الناس، ويُفقده التأثير على المجتمع، مما يوسع الباب أمام قوى أخرى انتهازية، أو غير عقائدية، لتملأ الفراغ. وتحقيق هذا التوازن مرهون بأخلاقية القيادة بقدرتها على التعامل مع جملة الظروف الموضوعية الصعبة الناشئة التي يعمل فيها هذا الاتجاه.

لو أخذنا مثالا في حركة أبناء البلد، وهي حركة وطنية يسارية، ظهرت على ساحة فلسطينيي الـ48، في منتصف السبعينيات، كحركة محلية، لتتطور لاحقا إلى حركة قطرية، بعد جهود وصراعات وانشقاقات لتستقر في نهاية المطاف كإطار وطني مقاتل (سياسي)، انحصر ثِقَله الأساسي بين الطلاب الفلسطينيين داخل الجامعات الإسرائيلية. مَوْضَعَت هذه الحركة، نفسها سياسيا، وفكريا، وثقافيا (ليس تنظيميا)، في خانة الحركة الوطنية الفلسطينية الشاملة، وتبنت مشروع منظمة التحرير الأصلي؛ حل الدولة الديمقراطية العلمانية، ولكنها لم تتمكن من التحول إلى حركة جماهيرية، رغم كفاحيتها وجرأتها وأصالتها.

في لحظة تاريخية معينة، وخاصة بعد تكاثر إخفاقات الحركة الوطنية الفلسطينية، وانكسار النظام العربي، في النصف الأول من التسعينيات، بدأت قيادة الحركة تدرك عجزها كحركة نخبوية، عن لعب دور سياسي فاعل ومؤثر في المجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر، الذي كان يتفاعل اقتصاديا وثقافيا وذهنيا مع الحقل الإسرائيلي، وينتج أنماط سلوك تبدو مناقضة لانتمائه. على خلفية هذه الإخفاقات والانكسارات، وما ترتب عليها من انعكاسات فعلية في سلوك المواطنين العرب؛ ازدادت الحاجة إلى مخرج وطني يأخذ بعين الاعتبار هذه التحولات التي لم يكن ممكن مواجهة أو تفادي تأثيراتها السلوكية من خلال الشعارات الوطنية الكبيرة، دون مخاطبة الهموم اليومية مباشرة، ما احتاج إلى قدر عالٍ من البراغاماتية الموجهة ببوصلة قومية، وبالفكرة الديمقراطية الليبرالية، وأصبحت هذه الحاجة أكثر إلحاحا، بل باتت وجودية للتيار الوطني القومي، بعد اتفاق أسلو.

ومن هنا جاءت فكرة إقامة التجمع الوطني الديمقراطي، كتطور ينتقل، من النخبوية الكفاحية، لهذه الحركة، التي لعبت في السابق، دورا هاما في تذويت الوطنية الفلسطينية، داخل أوساط واسعة من الطلاب الجامعيين، إلى الإطار الجماهيري ليواصل نفس الدور الوطني، ليس بين الطلاب فحسب، بل بين عموم مجتمعنا داخل الخط الأخضر، ولكن بحلة جديدة حديثة وراقية.

وقد جاء إنجاز هذا الإطار حصيلة تعاون غير مسبوق بين الحركة، وبين حركات وطنية محلية وشخصيات وطنية ومثقفة بارزة ومعروفة. لقد تجاوز صدى هذا الإطار الجديد وتوجهاته ورؤيته، حدود فلسطين المحتلة عام 1948، إلى جميع تجمعات شعبنا الفلسطيني في الداخل والشتات، والأهم أن التجمع كان حريصا على إبقاء الرابط، غير المباشر، في برنامجه وفي خطابه، بين ما يطرحه لصالح فلسطينيي الـ48، والمشروع الوطني الفلسطيني المستقبلي، وللتوضيح، إنّ التجمع لم يذوت الهزيمة، ورفض منح الصهيونية شرعية عملية أو أخلاقية، كما فعلت القيادة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية من خلال الاعتراف بإسرائيل (كدولة طبيعية)، وجسّد هذا الرفض من خلال تحدي الطابع اليهودي الصهيوني لدولة إسرائيل، عبر رفع شعار دولة المواطنين (بدل شعار تحرير فلسطين)، وأظهرنا التناقض الصارخ بين الصهيونية والمساواة. هذه هي البراغماتية التي تربط التكتيك بالإستراتيجية، والجانب العملي بالجانب المبدئي، وهكذا لم نقع في استدخال الهزيمة الأيدلوجية، وأبقينا الصدام مع الصهيونية، كأيدلوجية وممارسة، كتاريخ وكحاضر، قائما وعاملا تحشيديا، أُسوة بقوى أخرى تعمل في أوساط المجتمع المدني العالمي (حركة المقاطعة مثالا).

واقعنا الحالي داخل الخط الأخضر

أسباب كثيرة أوصلتنا، كتجمع وكأحزاب عربية داخل الخط الأخضر، إلى ما وصلنا إليه، منها الذاتية التي تتعلق بقصورنا أو عجزنا، أو تنافسنا على مقاعد الكنيست وغيرها، ومنها الحملات العدوانية الإسرائيلية، ومنها الحالة الفلسطينية الرسمية الراهنه، ومنها التدخل التخريبي لسلطة رام الله، وفي ما يتعلق بنظرة سلطة رام الله و بدورها تجاه فلسطينيي الـ48، فقد اتسم بالنهج الاستخدامي، الآداتي، أي استخدامنا كأصوات احتياط تلعب دور الداعم المباشر لائتلاف حكومي في إسرائيل، يكون مريحا لها في المفاوضات، أو من خلال كتلة مانعة يشكلها أتباعها من الأحزاب العربية في الداخل، والحقيقة هو أن هذه السياسة أو هذا النهج من بنات أفكار السيد محمود عباس، منذ أن كان مسؤولا عن ملف فلسطينيي الـ48.

المَهُولُ في الأمر هو أن سلطة رام الله تريد منا، نحن فلسطينيي الـ48، "الانتصار" على إسرائيل. والانتصار بالنسبة لها يعني إسقاط حكومة نتانياهو، ومساعدة البديل اليميني الآخر، "كاحول لافان"، المكوّن من جنرالات قتلة، ليس لأنه الحزب الصهيوني البديل، لديه برنامج سياسي مختلف، أو أنه اقل فتكا بالشعب الفلسطيني، بل فقط لأنه، على خلاف حكومة نتانياهو، يُثمن، -أسوة بالمخابرات وقيادة الجيش الإسرائيلي- دور السلطة الأمني في حماية المستعمرات، والمساهمة في ضمان حياة مستقرة غير محفوفة بالمخاطر لهؤلاء اللصوص، سكان هذه المستعمرات.

لم يتغير نهج سلطة رام الله منذ زمن بعيد، نهج استخدام فلسطينيي الـ48، الذين تقول فيهم شعرا، ولكنها تتعامل معهم كجزء من المجتمع الإسرائيلي عمليا، إذ ترى فيهم جسرا يسير نحو حكومة إسرائيلية تحترم وظيفة السلطة الأمنية، لتنخرط السلطة معها مرة أخرى في مفاوضات على كيفية تقسيم الضفة الغربية. الخطورة الأكبر، هو أن غالبية القوى السياسية، البرلمانية، أي المشاركة في الكنيست، التحقت بالنهج الاستخدامي الأداتي لمليون ونصف فلسطيني، ومسخ دورهم الوطني الديمقراطي، المُأَسّس على وجودهم في وطنهم، وداخل بطن الوحش، وعلى تجربتهم السياسية الغنية على مدار أكثر من سبعة عقود من التكيف والتمرد والبناء. إن هذا النهج الاستخدامي يأتي في سياق سياسة الانتظار البائسة، واستمرار الهروب من مواجهة الاحتلال والاستعمار الكولنيالي، والفصل العنصري. لا يضير هذه السلطة، ومعها أتباعها، الضرر الوطني والسياسي الذي يلحق بالقيم الوطنية والانتماء لفلسطينيي الـ48 عندما يُطلب منهم أن يمارسوا دور الاحتياط للأحزاب الصهيونية.

إن القوة الأساسية التي تغرد خارج هذا السرب، رغم القصور الداخلي الذي تعانيه، وحملات التحريض والحصار ضده، هو التجمع الوطني الديمقراطي، بقيادة لجنته المركزية.

والمفارقة الأكبر، في الجانب الإسرائيلي، وتتمثل في يقظة الحزبيْن الاسرائيييْن؛ الليكود و"كاحول لافان"، الذين خاضا معركة انتخابية ضد بعضهما البعض، والتي وصفها المراقبون الإسرائيليون أنها من أقذر الحملات، يقظة إزاء المواطنين العرب. ليست هذه اليقظة نابعة من الشعور بالندم على التحريض الذي رافق حملاتهم ضد الأحزاب العربية، والمواطنين العرب، أو تعبيرا عن نية لفتح صفحة جديدة تجاه حقوقهم القومية واليومية، بل لإنهما استنتجا، أن لا أحد منهما يستطيع الانتصارعلى الآخر بدون الأصوات العربية، وإذا أعدنا قراءة برامجهما، ورصدنا تصريحات قادتهما، والأهم؛ ممارستهما، فسنصل إلى نتيجة مفادها أن المطلوب منا هو بيع هويتنا الوطنية، والاحتفاظ بها كفلكلور، أو مقايضتها بالفتات الذي يكرسنا على هامش نظام العنصرية و التمييز والسرقة والحصار، والتهويد. لقد رأينا كيف دغدغ مقال مستشار نتانياهو، نتان إيشل، عن ضرورة التعاون مع العرب، عواطف قيادات أحزاب عربية مركزية، ما ينذر باتساع رقعة الانهيارات السياسية والاجتماعية والأخلاقية، في الجسم السياسي العربي داخل الخط الـخضر.

ترميم الحركة الوطنية وتصليب موقفها

يعتقد الآخرون، ومعهم المؤسسة الإسرائيلية، أنهم يضعون الحركة الوطنية هذه الأيام أمام خيار واحد هو الخضوع. ليس أمام الحركة الوطنية سوى خيار واحد، هو الصمود والبقاء، ومن ثم خوض معركة إعادة البناء، والتوسع نحو الحلفاء، ومن خلال تطوير برنامجها الوطني، وإطلاق حملتها المعطلة، أي إعادة تنظيم مجتمعنا الفلسطيني داخل الخط الأخضر، من خلال إشراك الناس مباشرة: انتخابات وطنية عامة، لبرلمان عربي، يكون بمثابة مرجعية وطنية عليا لكل الحركات السياسية والأطر الشعبية والمهنية. هذه المهمة هي التي تستحق الانشغال بها، وخوض النقاش بشأنها، وتنشئة الأجيال الصاعدة وطلائعها،عليها، وليس "الكتلة المانعة" أو "إسقاط اليمين"، وغيرها من الشعارات المضلِّلة والمشوِّهة للوعي. في مواجهة ذلك كله لا مندوحة عن إعادة ترميم الحركة الوطنية، وتوطيد موقفها السياسي الوطني، ومدّ شعار دولة المواطنين إلى كل فلسطين التاريخية، ومحاصرة نهج الابتذال والانحراف. إن التأخير في خوض هذه المهمة السياسية الوطنية التاريخية هو وصفة لتبديد منجزات فلسطينيي الـ48 التي حققوها على مدار سبعة عقود من العمل والتعلم والنضال.

التعليقات