21/06/2019 - 15:55

ننسى الضحية ونتقاتل كالقبائل

وإزاء ذلك، لا يسع المرء، مهما كان انتمائه الأيدلوجي أو السياسي، إلا أن يدين بأشد الكلمات هذه الجريمة.

ننسى الضحية ونتقاتل كالقبائل

حالة سريالية عبثية تعود إلى الواجهة عند كل حدثٍ كبير، تُذكرنا بأن المشهد العربي ليس غارقًا بالدماء والخراب فحسب، إنّما غارق في حالة استقطاب قاتلة، تصبح فيه الضحية، شعوبًا أو أفرادًا، هامشية ولا قيمة لها. ونبدو كأننا قبائل جاهلة نتقاتل بدون معنى، ودون اكتراث للضحايا. وخطورة حالة الاستقطاب هذه ليست في كونها قائمة بين الأنظمة العربية والشعوب فحسب، بل بين عامة الناس، المتضررين من أنظمة الاستبداد المتوحشة والرجعية الدموية.

لقد مزّقت الأنظمةُ العائلات والأسر، وأشعلت التنافر بين الأبناء والآباء، وكشفت عن الهشاشة المعرفية والأخلاقية للأحزاب والحركات والفصائل، وعن بؤس شرائح واسعة من المثقفين. وهذا الانشقاق الأفقي، ربما هو أحد أهمّ انتصارات الطغاة، لأنّ هذا الانشقاق، الذي يسعون إليه بكل الطرق، يمكّنهم من مواصلة حكمهم في ظل وحدة الشعوب ضدهم.

لقد أعادت جريمة اغتيال رئيس مصر المنتخب، محمد مرسي، في السجن، على يد نظام عبد الفتاح السيسي، حالة الاستقطاب بقوة أكبر، وأشعلت من جديد الأحقاد والجهل. إذ تتجلى، مرّة أخرى، عملية تسطيح الثورات العربية، وتقزيم الدوافع التي أطلقتها، وتتحول الثورات، مرة اخرى إلى صراع ضد الاٍرهاب، أو صراع بين الدين والعلمانية، وليس صراعًا بين طبقات غنية ومسحوقة، أو بين الاستبداد والحريّة. ويجري تصوير أنظمة قوميّة مستبدّة وفاشلة أو رجعية خليجية تابعة، أو شماليّ أفريقية، كأنها أنظمة علمانية متنورة، وكلها تحول حركة الإخوان المسلمين، وكذلك حزب الله، إلى إعداءٍ للأمّة. فقد بات هذان التنظيمان إرهابيّين في عرف أنظمة عربيةٍ خليجية، في الأساس، تضاف إلى نظام عبد الفتاح السيسي، وهي، جميعها، أنظمة تحالفت مع الكيان الاستعماري الصهيوني علنا.

ويجري تجاهل حقيقة أن دولا عربية مركزية، تفجرت فيها ثورات عارمة، كانت محكومة طيلة أكثر من ستين عامًا من أنظمة قوميّة علمانيّة، وليست إسلامية (باستثناء السودان). وجميع هذه الأنظمة فشلت فشلا ذريعا في تحقيق هدفَين مركزيين، ترسّخا في برامجها وخطاباتها وإعلامها، ألا وهما: تحرير فلسطين، وتحقيق التنمية والرخاء والاستقلال الوطني. واتفق الباحثون والمفكّرون العرب على أن إحدى أهم الأسباب، إن لم يكن السبب الوحيد وراء الفشل في بناء الدولة وتحرير فلسطين، هو الاستبداد وغياب الديمقراطية، وسحق المواطن العربي.

يهمّني في الأساس، وأقلقني دائمًا، النقاش الجاري بين من يُعرّفون أنفسهم بالقوميين واليساريين والعلمانيين العرب بما فيهم الفلسطينيّون، حيث يسود الانقسام الشديد في ما بينهم، لدرجة أنّه تحوّل إلى شكلٍ بدائي أو ثأري، وإلى مناكفات على حساب التفاعل العقلاني والتفكير المستنير المنفتح. والملفت أن الخلاف أو الاختلاف ليس على رفض الدولة الدينية كدولة شمولية، فالجميع يعلن أنّه يريد دولة مدنية ديمقراطية مساوتيّة، تحترم القانون. ولكن هناك من لا يهمه مساندة دولة علمانية شمولية، تحكمها طغمٌ متوحشة كرّست تخلف الأوطان، وأحدثت خرابا هائلا، ومزقت الشعوب، وحولت الملايين إلى لاجئين هائمين في لجة البحار، طالما هي معادية للإخوان المسلمين، وتسعى إلى القضاء عليهم بالقوة، بدل السعي إلى دمجهم في المجال العام والحياة المدنية. ويُظهر هؤلاء وكأن بوصلتهم الوحيدة، هكذا تبدو في الممارسة، العداء المَرَضي لهذا التنظيم. وأنا لا أستخفّ، مثلا، بخوف المصريين، أو الأصح غالبيتهم، من صعود الإخوان إلى الحكم في مصر، خاصّة وأنهم أقلّ نضوجًا من تجارب حركات الإخوان في دول عربية أخرى، بسبب اعتمادهم نهج الجماعة الدينية وليس نهج الدولة، ولكن جيء بنظام أكثر استبدادًا ووحشيّةً من نظام حسني مبارك، هو النظام الحالي، الذي يفتقر إلى أدنى المعايير الإنسانية والأخلاقية في التعامل مع الخصوم، أبناء شعبه وبلده. فأن تجري الإطاحة برئيس منتخب، لأول مرة في تاريخ مصر، بعد أعظم ثورة شعبية مصرية وعربية، وزجه في السجن وإماتته موتًا بطيئًا، ومن ثم دفنه تحت جنح الظلام، هو من أحقر وأشنع الأفعال التي يصعب تخيلها من رئيس دولة، غير شرعي، تجاه رئيس دولة شرعي.

وإزاء ذلك، لا يسع المرء، مهما كان انتمائه الأيدلوجي أو السياسي، إلا أن يدين بأشد الكلمات هذه الجريمة.

إن من خصائص المثقف الديمقراطي، والمثقف اليساري، أو النهضوي، احترام قيمة الإنسان، والاعتراف بالاختلاف والتعددية والبحث عن المشترك والعمل على التغيير. حين يتجرد هذا المثقف من هذه الخصيصة، فإنه يصبح داعشيًا، أو بكلمة ملطفة، فاقدًا للإحساس تجاه معاناة الآخرين، وفاقدًا للمصداقية في كل ما يطرحه عن الحرية والديمقراطية والقيم الإنسانيّة. ويُخيّل لك أن هذا المثقف يمارس ديمقراطيته أو يساريته كطقوس، تشبه بعض المتدينين الذين يتحولون من عبادة الله وتَمثُّل قيمه إلى عبادة الشعائر. عبادة بلا روح، وبلا مشاعر. هذا هو حال بعض المثقفين.

التعليقات