18/07/2019 - 14:58

في أسباب الهيمنة!

لقد هيمن "الشيوعيون" في الخمسينيات والستينيات على ساحة الداخل الفلسطيني، في وقت كان التيار القومي يجتاح الوطن العربي كله، ليس لأننا "ديمقراطيون" كما يريد أن يعتقد البعض، بل لأن إسرائيل قمعت التعبير السياسي عن هذا المد والمتمثل بحركة الأرض وأخرجتها

في أسباب الهيمنة!

بعد هدم البنيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي الفلسطيني الذي كان قائما قبل عام 1948 وإقامة دولة إسرائيل على أنقاضه، لم يبق من الحالة السياسية الفلسطينية حتى ما يمكن أن تفرض عليه إسرائيل شروط استسلام مذلة، بعد أن تم تدمير هذه الحالة بشكل مطلق، وذلك رغم ما تركه من بقية أثر بشري فلسطيني في الوطن السليب.

بهذا المعنى، فإن الحكم العسكري الذي فرضته إسرائيل على المناطق المأهولة بالفلسطينيين في الجليل والمثلث والنقب بعد نكبة 1948، لم يكن الهدف منه إدارة شؤون حياتهم كما هو الحال في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد احتلال 1967، بقدر ما كان المُراد منه استكمال مخطط إحكام السيطرة على أراضي الفلسطينيين الذين هُجّروا من ديارهم، والاستيلاء على ممتلكاتهم "المتروكة" واستيطان بيوتهم في المدن إلى جانب تدمير قراهم لمنع عودتهم إليها.

من هنا، لا يمكن الحديث عموما عن شروط استسلام فلسطيني، مُذِلّة أو غير مُذِلّة، يفرضها الطرف المنتصر في الحرب على الطرف المهزوم، في ظل نتيجة أسفرت مجازًا عن قضاء مبرم على الطرف الفلسطيني، ولكن يمكننا استشفاف ذلك في الشروط التي فرضت على الطرف المهزوم من جناحي الحزب الشيوعي (عصبة التحرر الوطني)، وخاصة قياداتها الّذين ناهضوا قيام دولة إسرائيل وعارضوا قرار التقسيم، ويبدو هذا الإذلال بوضوح في اعتذار الدكتور إميل توما الذي قدمه خلال المؤتمر الذي توحد فيه جناحا الحزب الشيوعي بعد قيام دولة إسرائيل، وتحت علمها.

ويضطر د. توما في الاعتذار المذكور، إلى الإعراب عن أسفه لأنه عجز عن قراءة التحولات الاجتماعية والسياسية، التي طرأت على الـتجمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين واعتقد أن "الشعب العربي" هو العامل الوحيد في "أرض إسرائيل"، في "حرب التحرير"، وهو بذلك قام بعمل "غير بولشفيكي" يتعارض مع موقف الاتحاد السوفييتي، ولو قيض له العودة بالزمن إلى الوراء وإصلاح أخطائه لما كانت مسألة "حق تقرير المصير للشعبين" في أرض إسرائيل موضع نقاش لديه.

ويلخص اعتذار د. توما في مؤتمر توحيد جناحي الحزب اليهودي والعربي، الشروط المذلة التي فرضت على العرب لممارسة العمل السياسي في نطاق دولة إسرائيل وحدود هذا النشاط والسقف المتاح له، كما يفسر أسباب هيمنة الحزب الشيوعي على ساحة الداخل دون منافس لردح من الزمن، بعد أن أخرجت السلطات حركة الأرض التي تأسست في الستينيات عن القانون وقمعت في السبعينيات والثمانيات حركة أبناء البلد، مثلما يفسر أسباب عودة الهيمنة المتجددة للحزب الشيوعي في أعقاب إخراج الحركة الإسلامية عن القانون ومحاصرة التجمع الوطني الديمقراطي.

لقد هيمن "الشيوعيون" في الخمسينيات والستينيات على ساحة الداخل الفلسطيني، في وقت كان التيار القومي يجتاح الوطن العربي كله، ليس لأننا "ديمقراطيون" كما يريد أن يعتقد البعض، بل لأن إسرائيل قمعت التعبير السياسي عن هذا المد والمتمثل بحركة الأرض وأخرجتها عن القانون، مثلما يستعيد هذا الحزب هيمنته اليوم، في وقت يضرب التيار الإسلامي في العالم العربي وغير العربي، أيضًا، لأن إسرائيل أخرجت التيار الأكثر أصالة الذي يعبر عن هذا التيار والمتمثل بالحركة الإسلامية الشمالية عن القانون.

نسوق ذلك لنضع الحقيقة أمام من "يطفون على شبر ماء"، منتشين بسكرة القوة الوهمية التي وفّرها لهم إخراج الحركة الإسلامية الشمالية، وما أحدثه ذلك من اختلال في توازنات القوى التي كانت تحكم ساحتنا المحلية، إلى جانب نزع ثقة قطاعات واسعة من جماهيرنا باللعبة السياسية الإسرائيلية، في أعقاب ذلك وعلى خلفية تشريع قانون القومية العنصري.

لقد استدعى كسر "التابو" الذي فرضه هؤلاء على تشكيل قائمة عربية مشتركة، والحاجة الانتخابية لمثل هذه القائمة بعد رفع نسبة الحسم عشية انتخابات 2015، تنازلات كبيرة من قبل الأحزاب الأخرى، منها التنازل المجاني عن "العربية" وعن رئاسة القائمة والأولوية في العضوية، ولم يفطن أولئك الذين تنازلوا لأهمية هذه العناوين وأثرها على محتوى وهوية القائمة المشتركة السياسية، وأنهم كانوا بذلك يفرغونها من مضمونها الوطني المفترض، ويصنعوا منها "جبهة" أوسع هي أكثر اعتدالا من الجبهة الأم، التي ضاق حتى قادتها ذرعا من السلوك السياسي لرئيس المشتركة وانبطاحه على عتبات المؤسسة واعتبروا ذلك خروجا عن المألوف "الجبهوي".

والمفارقة أن هذا الكرم/ التنازل وقع في ظرف لم تكن الجبهة في أحسن أحوالها، بعد أن خرجت مكسورة الجناح من انتخابات محلية خسرت فيها أهم "قلاعها" في الناصرة وسخنين وعرابة ودير حنا وكفر ياسيف والطيبة وغيرها من المدن والقرى العربية.

 لقد ساعد هذا الكرم المفاجئ الأخيرة في الخروج من أزماتها واستعادة زمام المبادرة والزحف نحو احتلال سائر مواقع القيادة على غرار لجنة المتابعة، الأمر الذي مكنها لاحقا من استعادة بعض المواقع التي سبق وفقدتها ووضعها في موقع أفضل عشية انتخابات الكنيست الأخيرة، التي حصدت خلالها أربعة مقاعد، وأصبحت تمتلك قوة مضاعفة من قوة كل حزب آخر على حدة.

ولا غضاضة أن "تحرج" الجبهة اليوم على المقعد الخامس، وهي تلوح للأحزاب العربية الأخرى بالخيار الذي كانت تلوح فيه دائما وهو "الخيار الديمقراطي اليهودي".

التعليقات