01/11/2019 - 16:00

القضية الفلسطينية ليست قضيتنا!

يتعرض الفلسطينيون داخل الخط الأخضر إلى أخطر عملية لنزع السياسة عن نضالهم، وفصلهم عن قضية فلسطين. هذه المرة يتشارك في هذه العملية مندوبون عنهم، وصلوا إلى الكنيست على أكتاف الناس

القضية الفلسطينية ليست قضيتنا!

يتعرض الفلسطينيون داخل الخط الأخضر إلى أخطر عملية لنزع السياسة عن نضالهم، وفصلهم عن قضية فلسطين. هذه المرة يتشارك في هذه العملية مندوبون عنهم، وصلوا إلى الكنيست على أكتاف الناس. كان هذا الجزء من شعب فلسطين، قد وجه ضربة قوية لمجمل سياسة فصلهم عن هويتهم الوطنية وعن كفاح شعبهم المنتشر في كل مكان، وذلك من خلال الهبة الشعبية العارمة، هبة القدس والأقصى، في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2000.

في ذلك اليوم، أعاد مليون فلسطيني وأكثر رسم معالم وجودهم الجماعي، عبر الدم والأرواح، وراحت نخبهم تؤطر غضبهم وتطلعاتهم في رؤية وطنية ومواطنة حقيقية متساوية تقوم على مواجهة مصدر الظلم والتمييز، ألا وهو البنية الصهيونية العرقية والكولونيالية لدولة إسرائيل.

كان التجمع الوطني الديمقراطي قد استبق الأمور، بعد اتفاق أوسلو في العام 1993، ونقل فكرة دولة المواطنين من الهامش الى المركز، عبر بناء حركة سياسية جماهيرية جديدة. وبعدها بعدة سنوات، توالت المبادرات على شكل وثائق تتصور مستقبلا مختلفًا، التي تنطلق من هذه الرؤية الديمقراطية والوطنية.

كان العام 2000 عام انهيار أوهام النظام الكولونيالي وسياساته التقليدية ضد أصحاب الأرض الأصليين. كانت صدمته قوية، خصوصًا أنه رأى جيلا فلسطينيًا كاملا، يحمل المواطنة الإسرائيلية، يخرج بعشرات ألوفه إلى الشوارع كاسرًا حاجز الخوف ويلتحم، سلميًا، مع انتفاضة شعبه العارمة التي كانت تجتاح القدس وقطاع غزة والضفة الغربية.

ردًا على ذلك، ومن أجل إعادة "المارد إلى القمقم"، خاضت المنظومة الإسرائيلية - الأميركية، حربًا مختلفة بأساليب ناعمة مدعومة دوليًا، بهدف كيّ الوعي وخلق وعي بديل مشوه. جرى استبدال القيادة الفلسطينية في رام الله بقيادة جديدة من داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، وجيء بالجنرال الأميركي دايتون ليعيد هندسة مهمة قوات الأمن الفلسطينية، بحيث تصبح مهمتها موجهة إلى الداخل الفلسطيني، بدل أن تكون في مواجهة الاحتلال. واشترطت هذه المنظومة الإسرائيلية – الأميركية على سلطة رام الله إثبات جدارتها الأمنية، حتى تتحصل على كيان أوسع قليلا من الحكم الذاتي، ولا مانع من أن يسمى دولة.

وفي داخل الخط الأخضر، واصلت المؤسسة الإسرائيلية تجديد وتكثيف حملتها ومخططاتها العدوانية ضد مواطنيها العرب، التي باتت تسميهم بعد هبتهم الوطنية المجيدة بالفلسطينيين بدل "عرب إسرائيل"، ليس اعترافًا بهويتهم الوطنية، بل تجسيدًا لنظرتها المتجددة بأنهم جزء من "العدو الفلسطيني" المتواجد في الضفة وقطاع غزة وفي الشتات، والذي يرفض الاستسلام. ولكنهم لم يسارعوا، وتحديدًا نخبهم الجذرية، إلى اقتفاء نهج سلطة رام الله، وواصلوا ممانعتهم وتحديهم لمنظومة القمع والترويض الإسرائيلية المتجددة والمتصاعدة على شكّل ممارسات وقوانين غير مسبوقة بوتيرتها. كما واصلوا نقد الحالة الفلسطينية وهبوط الخطاب الوطني وتجريفه، والتنسيق الأمني مع المستعمر.

لم تتوقف سلطة رام الله عن محاولات اختراقنا من خلال تقويض خطابنا الوطني، والدفع ببعض مندوبي الجمهور العربي بتبني خطابها التطبيعي، والمراهنة على أحزاب صهيونية في كل انتخابات صهيونية.

ورغم تضافر حملات القمع الإسرائيلية وحملات التحريض والملاحقة مع محاولات سلطة رام الله اختراقنا، إلا أن معظم الأحزاب الوطنية تمكنت من الحفاظ على قدر عالٍ من التوازن والرصانة السياسية، وفي التعبير عن حقوقنا الوطنية، وفي مواجهة حملات الترويض الإسرائيلية.

اشتملت إستراتيجية القمع، الخشنة والناعمة، على عنصر التفريق بين القوى السياسية العربية داخل الخط الأخضر، إذ تم تصنيفها كقوى معتدلة وقوى متطرفة. وللصدق، فإن القوى اليمينية الأكثر تطرفًا، لا تفرق بين الأحزاب العربية جميعها، ولكن القوى اليمينية الأخرى، وإن كانت لا تعترف بالحقوق المتساوية بين العرب واليهود، فإنها مستعدة للتعاون مثلا مع قوى تعتبرها أقل تطرفًا من غيرها، ليس خدمة لحقوق العرب، بل لأسباب مصلحية تتصل بحاجتها لمواجهة خصومها داخل القبيلة العبرية.

ومن متابعة سلوك غالبية مندوبي الجمهور العربي، نستطيع رؤية نتائج السياسات المذكورة أعلاه. إن سنوات من التحريض والتخويف والترهيب، والتفريق بين القيادات والأحزاب، عبر حظر حركات ومواصلة ملاحقة أحزاب أخرى، تم إخضاع تلك القيادات التي باتت مستجيبة ومتكيفة مع ما تتوقعه المؤسسة الإسرائيلية، والإعلام الإسرائيلي المعادي، منها.

 كيف يتجلى ذلك على سبيل المثال؟

أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة، جرى الهجوم على نتنياهو وتجاهل جرائم بني غانتس، بدل اعتبارهما مجرمين بالقدر نفسه. القضية الفلسطينية أيضًا أصبحت قضية خارجية، قضية شعب آخر نتضامن معه لفظيًا من خلال تجاهل أحد أخطر الأهداف التي وضعها غانتس نصب عينيه، ألا وهي شن حرب بلا رحمة على قطاع غزة لتدمير حركات المقاومة.

وهذا السلوك الأرعن، والمغالي في اللاواقعية وعدم احترام الذات الوطنية، تجد تجلياته أيضًا بخصوص النظر إلى طريقة الحصول على حقوقنا الكاملة، كمواطنين داخل الخط الأخضر، والذي يجري التعبير عنه في المقابلات الإعلامية. أعضاء الكنيست الذين خطفوا التمثيل العربي من لجنة المتابعة، يتنصلون من زملاء سابقين لهم، ولا يتحرجون من التصريح بأنهم مختلفين عنهم، أي انهم ليسوا "سيئين" مثلهم. كل ذلك يجري وفق المعايير الإسرائيلية، وكل ذلك أيضًا بحجة الخصوصية التي لا ينكرها أحد. النتيجة الفعلية لممارسة هذا النوع من الخصوصية، تكريس الأجندات المتخلفة لكل تجمع فلسطيني.

ولنتذكر هنا إستراتيجية التجزئة والشرذمة المعتمدة من قبل الحركة الصهيونية، والمكرسة بصورة أكثر وحشية بعد أوسلو.

طبعًا، يوجد نموذج آخر يمارس السلوك ذاته ولكن بصورة ضمنية. كل ذلك من أجل تفادي غضب المؤسسة الصهيونية وإعلامها، ولكي يحظى بالرضى منهما، وحتى يستطيع أن يشتغل، نعم يشتغل، بكل ما تعنيه الكلمة، بهدوء وبمتعة.

تنصل أعضاء كنيست من زملاء لهم، ليس بسبب الجانب الشكلي، أي طريقة التعبير، وأنا أدرك أهمية طريقة التعبير وتوفر القدرة على التأثير، بل إنه تنصل من البعد القيمي والوطني لما يمثله الزملاء المغضوب عليهم من المستعمر. والخطير في الأمر، هو استغلال ضائقة الناس التي تسبب بها المستعمر، والسعي إلى مخاطبة غرائزهم بدل رفع الوعي وتسليحهم برؤية وطنية، وخطة عملية تنظمهم على الأرض ليمارسوا السياسة والتأثير الفعلي.

 هذا ما يسمى بنزع السياسة ونزع البعد الأخلاقي عن سلوكنا كقيادات. وهذا الكلام لن يكون غريبًا على من اطلعوا على مؤلفات فرانز فانون عن نفسية المقموع. ما معناه، أن الضحية تُدفع إلى تقمص ما يتوقعه المستعمر منها، وتصبح مسلوبة الإرادة. هل سمعتم عن حركة وطنية أو شعب، يرتكب انتحارًا سياسيًا وأخلاقيًا؟

التعليقات