07/12/2019 - 16:04

عن مكانة قضية التحرر الفلسطيني في المؤتمرات الدولية

تنبع أهمية هذه النشاطات، الثقافية والأكاديمية، بأنها تجري خارج الحالة الانقسامية وخارج الأطر التقليدية والكيانات التي رسختها وأدمت الشعب ونسيجه الوطني والاجتماعي، الذي يرزح تحت نظام استعماري كولونيالي وفصل عنصري

عن مكانة قضية التحرر الفلسطيني في المؤتمرات الدولية

أن تكون مع عشرات الوفود، اليسارية والنقابية والتقدمية، من مختلف أنحاء العالم، ومع مناضلين ملتصقين بالروح الثورية، وملتزمين بفضيلة الكفاح من أجل تغيير مجتمعاتهم، وتغيير النظام العالمي، في زمن السقوط الأخلاقي المدوي لنظام عالمي قاتل، هدفه الربح وفقط الربح، يضعك مجددًا أمام وقفة تأمل وتمعّن في كل ما يجري، خصوصًا أن هؤلاء من المناضلين الذين لم تهن عزيمتهم رغم الانكسارات الكبرى.

قد تختلف مع بعض توجهاتهم، وتمقت شعبوية بعضهم، لكن لا يسعك إلا أن تحترمهم على مدى التزامهم وانضباطهم. قد يبدو هذا الكلام مثاليًا أو رومانسيًا حالمًا، لكن كم من النخب توقع عودة عصر الجماهير والثورات، تلك التي تجتاح العالم العربي وتهز أركان الاستبداد والإفساد والإجرام، وتلك التي تتفجر في عشرات دول العالم النامي والرأسمالي المتوحش؟

 

نهاية الأسبوع الماضي وعلى مدى ثلاثة أيام، شاركتُ في مؤتمر التنسيقية الدولية للعمال والشعوب في مدينة باريس، بمشاركة مندوبين من حوالي سبعين دولة، أُختتم باجتماعٍ عامٍ حاشد في قاعة ضخمة. وقبل ثلاث سنوات، عشت تجربة أكثر إثارة، على مدار أسبوع، في قرية تثقيفية في البرازيل، وبحضور مئات المندوبين من دول عديدة، بدعوة من منظمة "الفلاحين بلا أرض" (MST)، وهي منظمة اشتراكية شعبية غير برلمانية تضم ملايين الأعضاء والأنصار، وتخوض نضالات جسورة من أجل توزيع الأراضي على الطبقات الفقيرة. لم أكن أعرف عن هذه المنظمة، وخاصة عن ضخامتها وحجم عضويتها وإمكانياتها. وجاءت دعوتي بتوصية، ودون أن أعرف، من الصديق، روني كاسرل، أحد أبرز قادة الحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا وقادة المؤتمر الوطني الإفريقي، والذي شغل منصب وزير الأمن الداخلي بعد سقوط نظام الأبرتهايد.

وفي إسطنبول، تزامن بالصدفة عقد المؤتمر الأول حول مناهضة الأبرتهايد، الذي لم أتمكن من تلبية الدعوة وحضوره، إذ إنّ الدعوة لحضور مؤتمر باريس، كانت قد وصلتني قبل ثلاثة أشهر. وتابعت لاحقا، مداولات هذا المؤتمر من خلال الإنترنت، حيث تم نشر فيديوهات لجميع المتحدثين. شاركت في هذا المؤتمر الهام شخصيات أكاديمية أجنبية بارزة مساندة للحق الفلسطيني والعدالة، ولها باع طويل في مقارعة أنظمة الفصل العنصري والاستعمار، خاصة في جنوب أفريقيا وإسرائيل، مثل رتشارد فولك والبروفسور فرجينيا تلي، والكثيرون من الحقل الأكاديمي، وهما شريكان في التقرير الذي قدمته السيدة ريما خلف، رئيسة المنظمة العالمية لمناهضة التمييز العنصرية والفصل العنصري، إلى منظمة "الأسكوا"، التي استقالت من المنظمة المذكورة على خلفية رفضه.

وفي نهاية الشهر الماضي أيضًا، جرى نشاط فلسطيني في العاصمة التركية، حيث عقد للمرة الثالثة ما بات يعرف بـ"ملتقى فلسطين"، الذي يضم أكثر من مئة مثقف وأكاديمي وناشط، في غضون عامين، وعلى مدار يومين، بهدف المساهمة في تشكيل رأي عام فلسطيني باتجاه إعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني التحرري، الذي من شأنه أن يوحد أجزاء الشعب الفلسطيني، التي ولّدها المشروع الصهيوني وكرّسها اتفاق أوسلو، وأن يفتح أفقًا واضحًا امام الأجيال الفلسطينية الشابة، الباحثة عن طريق نحو التحرر.

تنبع أهمية هذه النشاطات، الثقافية والأكاديمية، بأنها تجري خارج الحالة الانقسامية وخارج الأطر التقليدية والكيانات التي رسختها وأدمت الشعب ونسيجه الوطني والاجتماعي، الذي يرزح تحت نظام استعماري كولونيالي وفصل عنصري، يتكئ على سلطة صممت لتكون وكيلا له في الحفاظ على الوضع القائم. وبكلمات أخرى، تنبع أهميتها، من الرفض بالتسليم بالواقع الاستعماري الصهيوني، والدعم الإمبريالي العالمي، والرفض لواقع الانهيارات الداخلية والعجز الصارخ لكل البنى الفلسطينية، الرسمية والمعارضة التقليدية (الفصائلية). 

بطبيعة الحال، ليست هذه النشاطات، الدولية وغير الدولية، وحيدة أو معزولة عما يجري في ميدان المواجهة المباشرة مع المشروع الاستعماري على أرض فلسطين التاريخية، من حَراكات ومبادرات وأشكال متعددة ومتنوعة من المقاومة. وفي ظل انحسار الفعل الشعبي العارم والمستمر، وفي ظل تهتك الخطاب السياسي الرسمي، تبرز أهمية الفعل الثقافي المقاوم، المتجلي في الحقل الأكاديمي والفكري والفني. هي معركة ناعمة، شكليًا، ولكنها في العمق هي معركة الروح والجسد، ضد مخططات التيئيس والتخريب والإخضاع. هي معركة إعادة بناء الوعي التحرري الإنساني المؤسسة على مفاهيم الماضي ومفاهيم العصر الحديث، مفاهيم التحرر التي ترتكز على الإنسان وحقوقه وكرامته قبل الدولة. وهذا ما يستوجب إعادة ربط التحرر الفلسطيني بالتحرر العالمي، ومع قواه المكافحة.

في مؤتمر باريس، الذي بحث أوضاع عشرات الدول والانتفاضات والدول التي تدور فيها، وجد المنظمون القياديون ضرورة أن يخصص لفلسطين حيز كبير، وأن يبحث شكل الحل المطلوب. وكنت قد فوجئت بدعوتهم التي وجهت إلي كمنسق لحملة الدولة الواحدة في فلسطين، لعرض ما نطرحه كمجموعة جديدة ناشطة في هذا المجال، وذلك على أثر متابعتهم لحراكها، وكمؤشر على اهتمامهم بهذا الحل. مُنحتُ فرصتين للحديث، واحدة في المؤتمر الداخلي، وثانية في الاجتماع الحاشد. كما منح صوت العمال الفلسطينيين في الداخل كلمة ألقاها النقابي والمحامي وهبة بدارنة، رئيس نقابة العمال العرب الوطنية في مدينة الناصرة. أما عن الشتات الفلسطيني، فمثله القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، صلاح صلاح، عضو الهيئة التنسيقية.

ماذا يقول لنا هذا المؤتمر الثوري والنقابي، وكذلك المؤتمر ضد نظام الأبرتهايد، وكل الحَراكات المساندة للحق الفلسطيني على الساحة العالمية الشعبية المستقلة؟ تقول لنا إن قضية فلسطين تعود مجددًا، وبصورة قوية، إلى مقدمة اهتمام قوى التحرر الإنسانية العالمية. السؤال هو كيف نستفيد من ذلك؟ والأهم بأي خطاب نتقدم، بخطاب دولاتي، أسلوي، بانتوستاني؟ أم بخطاب تحرري ديمقراطي إنساني يستعيد قضية فلسطين كقضية تحرر، ويُصوّب على إسرائيل باعتبارها نظام أبرتهايد - كولونيالي، يجسد جريمة حرب مستمرة ضد الشعب الفلسطيني والإنسانية؟

عن ذلك نكتب في المقال القادم...

التعليقات