16/12/2019 - 19:12

حول "ملاك السلام" وشيطان عشتار

الحرية والوطن الحر يعني التسليم بوجود قناعات مختلفة بين أبناء الوطن نفسه، سواء في فلسفة الحياة وخلق الكون أو في تعريف الفن الراقي أو المبتذل، وما هي القيم الجمالية وفي كيفية وطريقة قضاء الوقت والفراغ.

حول

لا لوم على أولئك الشبان السّاعين إلى مجدٍ فني ومزيد من الشهرة، ربما أنهم ظنوا بأن السلام قد تحقق أو أنه قاب قوسين، وربما ظنوا أنهم بأغنيتهم هذه، يسهمون بسلام يتعطش شعبنا وشعوب المنطقة إليه. 

كان ممكن تقبل هذا الأوبريت (ملاك السلام) لو أنه أتى بعد تحقيق السّلام حقًّا، ولو أن المعاناة والتوسّع والضمّ والهدم، الاعتقالات والحصار والقتل المجاني وغيرها توقفت. الغناء بهذه الطريقة لـ"ملك السلام" ليس سوى ردح لا يليق إلا بنظام دكتاتوري، ولكن في حالة السيد محمود عباس فهو ليس الدكتاتور الذي يفرض على الناس قبضة حديدية مباشرة، فهناك نوع ما من حرّية التعبير نلمسها من الأخوة على شبكات التواصل، الذين يعيشون في نطاق سلطة رام الله دون التعرض لهم، إلا أن هذا الأوبريت يتضمّن هروبًا من الواقع، أو حالة اغتراب أو انفصام عن الواقع اليومي تحاول السلطة ترويجها في وعي الناس.

في هذا الواقع، يتحول الغناء للسلام وملاك السلام إلى ذريعة لهبوط سياسي، ولا علاقة للفن بالموضوع، فهو موقف سياسي بامتياز، أراد منتجوه أو من أوصوا بإنتاجه تسويقه عبر الفن، أو ربما يكون مجرد تملق للرئيس عبر الفن.

على كل حال، من حق الناس أن يسمعوا ويستمتعوا، ومن حقهم أن لا يسمعوا أو أن يسمعوا ويسخروا.  

تزامن هذا الأوبريت مع وقف عرض فني لمسرح عشتار في جامعة النجاح، بدعوى أنه لا يتفق مع قيم ومعايير جامعة النجاح.

كثيرًا ما نسمع أولئك الذي يوقفون هذه العروض ويعترضون عليها، يتحدثون بإعجاب عن الشعوب الأوروبية، وعن الحرّية التي يتمتع بها الناس والفنانون بشكل خاص في تلك البلدان، وعن الرقي والذوق العظيم.

بينما نجد عندنا صعوبة في تقبّل عرض فني أو غض الطرف عنه على الأقل، فنوقفه خلال عرضه، ونثير زوبعة كبيرة وجدلا وثرثرات كثيرة.

بهذين الموقفين نلمس نفاقًا مزدوجًا، من ناحية تواطؤ مع أوبريت "ملاك السلام" التافه، ومن ناحية أخرى نُظهر نزقًا وحَميّة فنوقف عرضًا فنّيا موضوعه عن العنف ضد النساء بطريقة الجميع بين السيرك والمسرح.

لم أشاهد عرض عشتار، ولكن مجرّد قبول العرض أصلا، يعني أنه لا توجد مشكلة مع العرض، فهو ليس عرضًا إباحيًا، ليس عرض عِرْي، لأنه لو كان كذلك لما أدرج أصلا، أما وقفه المفاجئ فهذا يعني أن المدير رضخ إلى ضغط كبير لإيقاف العرض، فذهل وأوقفه دون التفكير بالعواقب المعنوية والأخلاقية لهكذا عمل. لا أريد أن أتحدث عن قيمة العرض الفنية إيجابًا أو سلبًا لأنني لم أشاهده، ولكن ما أريد قوله هو أن التعددية الثقافية في أي مجتمع هي جزء لا يتجزأ من عملية التحرر، وقمع التعددية الثقافية هو قمع للحرية التي لم يحلم بها شعبنا والتي لم تولد بعد.

الحرية والوطن الحر يعني التسليم بوجود قناعات مختلفة بين أبناء الوطن نفسه، سواء في فلسفة الحياة وخلق الكون أو في تعريف الفن الراقي أو المبتذل، وما هي القيم الجمالية وفي كيفية وطريقة قضاء الوقت والفراغ.

من حقك أن تعرض أوبريت ملاك السلام رغم تفاهته من وجهة نظر أكثرية أبناء الشعب الفلسطيني، ناهيك عن الشعوب العربية التي ممكن أن تراه عبر الفضائيات، ولكن من حقك أيضًا أن تتحمل عرض عشتار بغض النظر عن رأي هذا أو ذاك في العرض، ما دام أنه ليس عرضًا إباحيًا في حركاته وألفاظه.

أتوقع أن هناك حركات أو كلمات أو إيحاءات جنسية، رأى البعض أنه غير قادر على تحملها وهذا وارد جدًا، ولكن هذا لا يتنافى مع موضوع العرض، ألا وهو العنف والتحرش ضد النساء، بمعنى أن الإيحاءات الجنسية ليست مقحمة على العمل الفني بل هي من صلبه ومتوقّعة.

وقف العرض هو هزيمة ليس لفئة ما أمام فئة أخرى، بل هزيمة أمام الذات، يبدو أن الكبت الجنسي جعل البعض يرى العروض الفنية وحتى الرياضية بعيون وآذان من الجنس والإغواء.

المجتمع الفلسطيني ليس متجانسًا فكريًا وثقافيا وعقائديا ولا يمكن أن يكون كذلك، لا يوجد مجتمع متجانس كله وفي كل تفاصيل حياته.

المجتمع اليهودي القريب منا يعيش في خلافات فكرية وعقائدية أعمق مما لدينا الفلسطينيين بكثير، مثل قضية العمل أو عدم العمل في يوم السبت، كذلك هناك نظرات ومعايير مختلفة لما هو أخلاقي أو غير أخلاقي، ليس جميعهم يتقبلون ما يعرض في السينما أو المسرح ولا حتى في البرامج الترفيهية التلفزيونية، ومنهم من هو متزمّت أكثر بكثير من الموجود في المجتمع العربي والفلسطيني، ويرى في الفنون انحرافًا وفجورًا وخطرًا على شعب إسرائيل، ولكن هذا لا يمنح أحدًا الحق بأن يوقف عملا فنيا خلال عرضه. من حق المسؤولين في مؤسسة ما أن لا يطلبوا أي عرض، ولكن أن تطلبه ثم توقفه خلال عرضه! فهذا يعني الاستهتار بنفسك خصوصًا إذا كنت صرحًا تعليميا جامعيا لأناس بالغين، ويفترض أن تتقبل وجود المختلف، من حقك أن تشاهد أو لا تشاهد، من حقك مواصلة الجلوس في قاعة العرض أو ترك الممثل لوحده على المسرح، أما وقف العمل وكأن هناك شيطانا أو قنبلة موقوتة على وشك الانفجار، فهذا اعتداء على قيمة الحرية من أساسها، وهذا مرفوض.

جيّد أن إدارة الجامعة أعلنت أنها ستحقق في الموضوع، وأن ما حدث لا يمثلها.

التعليقات