20/12/2019 - 16:03

15 مقعدًا أو 20 مقعدًا... وماذا بعد؟

في الداخل، شعبنا بحاجة إلى من ينظمه ويتفاعل معه، وإلى من يمتلك الرؤية السياسية والفكر العصري والمتطور، وهذا غير موجود عند النخبة المتنفذة، التي يستحوذ عليها ضمان مكان في قائمة الكنيست

15 مقعدًا أو 20 مقعدًا... وماذا بعد؟

نقرأ على صفحات "فيسبوك" منشورات حماسية تكتب بخفة بالغة، عن قدرة فلسطينيي الداخل على تحقيق أكثر من 18 مقعدًا للقائمة المشتركة في انتخابات الكنيست المقبلة، فيما لو استجابوا لنداءات الاستغاثة بنسبٍ عالية. ولا تصدر هذه الكتابات عن شباب متحمس فقط، لم يدركوا بعد طبيعة وعمق التحولات الجارية في المشروع الصهيوني، بل أيضًا عن باحثين وممثلين لأحزاب. تلك الأصوات باتت تختزل النضال كله في أروقة الكنيست، بعد أن جرى  تحويل أحلامنا وطموحاتنا الكبيرة المتمثّلة بتنظيم مجتمعنا الفلسطيني، وتمكينه من النضال من أجل الحق القومي والمدني، فضلا عن وطنٍ حر يستقر فيها شعبنا مستقلا وحرا.

والغريب أن هذا الاحتفاء الخاوي من أي أساس علمي، مستمر حتى بعد أن تداعت أوهام التأثير من خلال الاستجداء، والمراهنة على مجرمي حرب متوحشين. ما معناه، أن إمكانية المضي في عملية التجهيل الوطني والسياسي، التي كانت مقاومتها في فترة سابقة عنوان المرحلة، مستمرة وكأن شيئًا لم يكن.

يستطيع من لا يزال مقتنعًا بالمشاركة في انتخابات الكنيست، أن يبرر المشاركة بأهداف أخرى كما فعل التجمع الوطني الديمقراطي، على سبيل المثال، في فترة حرجة جدًا، وعندما كانت الحركة الوطنية الفلسطينية قد وضعتنا كشعب أمام خيارات صعبة، اخترنا منها الأكثر فاعلية. وضمن هذا الخيار، لم يتنازل التجمع عن ساحة النضال الشعبي، ولا عن تحدي الطابع اليهودي الصهيوني لإسرائيل كمشروع استعماري. وها هي الأوهام التي نثرتها قيادات هذه الحركة، وتحديداً القيادة الفلسطينية المتنفذة، تتحول إلى كارثة وطنية حقيقية، حيث النتيجة الفعلية لهذا النهج، ليس فقط ترسيخ المشروع الكولونيالي الاستعماري، بل الأخطر في تكريس التجزئة، وتشكل أجندات منفصلة لكل تجمع فلسطيني، وإخماد روح المقاومة. وبدل التعلم من فشل نهج قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، ومن تجربتنا الخاصة داخل الخط الأخضر، نستعير أسوأ الدروس وأسوأ نمط قيادي عرفته الحركة الوطنية الفلسطينية. 

ضمن ظروفهم الخاصة، خاض فلسطينيو الداخل معركة مركبة، تخللتها أنماط مختلفة من السلوك تجاه الكيان الجديد، ابتداء من الخضوع والتصويت للأحزاب الصهيونية، مرورًا بالمقاومة الثقافية والسياسية والمعارك الشعبية الصغرى والكبرى، انتهاءً بمحاولات التنظيم القومي، التي تحقق الكثير منها ولكن من دون أن تتحول إلى قفزة نوعية تؤسس لحركة وطنية مستقلة ومتجذرة، ترتبط فعليا ومباشرة بمشروع التحرر الفلسطيني العام.

لا يتحمل من بقي داخل الأراضي المحتلة في العام 1948، المسؤولية عن الهزيمة ولا عن الأزمة العميقة، التي تعيشها الحركة الوطنية الفلسطينية منذ عقود. كما لا تتحمل القيادة الفلسطينية وحدها هذه الأزمة، بل يتحملها أساسًا النظام العربي الرسمي، بكافة مكوناته، الذي جزء منه ارتبط بالمشروع الأميركي، وجزء آخر منه قدم لشعوبه أنظمة عسكرية مستبدة إجرامية، بدل الدول المدنية العادلة والقوية. 

لا شك في أن ما أصبح يُعرف بـ"لأقلية القومية العربية الفلسطينية في إسرائيل" لم تكن يوماً بمنأى عن التأثيرات العربية والفلسطينية "الخارجية"، الإيجابية والسلبية. وقد كان للنهوض القومي العربي والوطني الفلسطيني، في فترات الخمسينيات والستينيات، بل حتى السبعينيات، ذاك الدور في تعزيز الهوية الوطنية لهذا الجزء من شعبنا الفلسطيني.

رغم ذلك، وفي ظل العيش تحت حكم كيان استعماري غريب وتحت تأثير مخططاته لعشرات السنين، أنتج تجربته الخاصة المركبة، وتعددت واختلفت ردود الأفعال على هذا الواقع المركب، كلما تقدم الزمن وبرزت تحديات جديدة.

وكان أحدث هذه الردود، وأكثرها ثورية نسبةً إلى الحقبة التي ظهر فيها، من حيث ما أنتجته من تفكير سياسي جديد، هو مبادرة تحدي يهودية الدولة، عبر حركة سياسية وطنية هي التجمع الوطني الديمقراطي. كانت هذه الحركة أو برنامجها، بالنسبة لبعض مركباتها الرئيسيّة، مشروعًا اعتراضيًا (أي مرحليًا) من ناحية، ومن ناحية ثانية كانت مشروعًا تعبويا، تنظيميا، ثقافيا، وسياسيا. وقُدّم حينذاك خيار المشاركة في انتخابات الكنيست في إطار هذه الرؤية وهذه الإستراتيجية. كنّا ندرك تمامًا أن الصدام (الأيديولوجي والسياسي والميداني الشعبي) بات حتميًا، وأنه سيأتي في لحظة ما، وهو صدام كان محسوبًا بحيث لا يتعدى اللامعقول وقدرة الناس على الصمود. كانت المشاركة في الكنيست تفصيلا، متروكة للمراجعة وإعادة النظر بين الحين والآخر، لفحص ما تقدمه من مساهمة في مشروع بلورة حركة وطنية فلسطينية في ظروف المواطنة الكولونيالية، وأيضًا فحص ما تُلحقه من ضرر على عملية إعادة البناء، وعلى سلوك الأفراد في الحزب. وفي ما يتعلق بالمسألة الأخيرة، فقد بات الضرر واضحًا وصارخًا، بحيث باتت الأحزاب كلها متشابهة، بحيث لم تعد تنفع محاولة تمييزها عن الأحزاب الأخرى، سوى بعض التعبيرات اللفظية التي لا تصمد في الامتحان العملي. وأخطر ما في هذا الأمر هو إنكار الأزمة والضرر البالغ المستمر بتسارع.

يواجه اليوم مشروع دولة المواطنين تحديات كثيرة، أولها فكرية وعقائدية، أي القدرة والاستعداد على إعادة قراءة المرحلة الجديدة التي وصل إليها المشروع الصهيوني والتقدم خطوة إلى الأمام، وهذا لا يتم إلا من خلال منظور الدراسات الكولونيالية، أي فهم إسرائيل في إطار التجارب الاستعمارية الاستيطانية الكلاسيكية، وليس فقط من منظار دولة المواطنين ويهودية الدولة، واستخلاص النتائج والبناء عليها في مواجهة مشروع كولونيالي استيطاني، تجتمع فيه كل مكونات الاستعمار الاستيطاني: الاحتلال العنيف، الاستيطان، الفصل العنصري، وهو مشروع غير قابل للإصلاح من الداخل.

يرى عالم الاجتماع الأسترالي الشهير، باتريك وولف، الذي شرح تجربة بلاده الكولونيالية بصورة نقدية وجذرية، "أن إسرائيل رفضت، ولا تزال ترفض، أي اقتراح لإدماج السكان الأصليين (على أساس المساواة الكاملة)... إنّ الصهيونيّة تُمثل ممارسة إقصائية لمنطق الإبادة الاستيطاني، أكثر مما نواجهه في أستراليا وأميركا...". 

لقد استعان العديد من الباحثين الأجانب والفلسطينيين (وخصوصًا هنا في الداخل)، بأعمال باتريك وولف وغيره من الباحثين عن الظاهرة الاستيطانية، الذين خلصوا إلى أن المواطنة التي تعتمدها إسرائيل هي مواطنة كولونيالية، تستخدم كأداة للتطهير العرقي، التي تجلت منذ اليوم الأول في الطرد ومواصلة منع عودة اللاجئين الفلسطينيين، من خلال نظام المواطنة الذي ابتكرته؛ وفي صلبه قانون العودة (لليهود) وقانون المواطنة.

أما بخصوص مواطنة فلسطينيي الداخل، فهي فارغة المضمون ومشروطة وهشة وقابلة للإلغاء.  وبات واضحًا أن النظام الإسرائيلي لا يحتوي على ميكانيزم للإصلاح الداخلي، فالمواطنة الشكلية الممنوحة للفلسطينيين لا يمكن تغييرها من الداخل، من خلال الكنيست مثلا. وبعد سن "قانون القومية" بات الأمر أكثر استحالة.

إن الترويج بإمكانية التأثير الحقيقي من خلال تحصيل 20 مقعدًا عربيا هو محض تضليل ودجل وتجهيل. لا شك أن العملية الانتخابية النزيهة هي ممارسة سياسية حقيقية، ولكن في دول يستعصي التغيير فيها من الداخل، يخرج الشعب إلى الشارع ليستعيد السياسة من الفاسدين والمضللين. إن هذا التدجيل هو انقلاب على الفكرة الأصلية للقائمة المشتركة، ألا وهي أن تكون ذراعًا للجنة المتابعة ورافعة لإعادة تنظيم الفلسطينيين على أساس قومي، وتمكينهم كجماعة قومية متماسكة، في مواجهة الإجماع الصهيوني وانتزاع حقوقهم الجماعية.

في الداخل، شعبنا بحاجة إلى من ينظمه ويتفاعل معه، وإلى من يمتلك الرؤية السياسية والفكر العصري والمتطور، وهذا غير موجود عند النخبة المتنفذة، التي يستحوذ عليها ضمان مكان في قائمة الكنيست، أما ما بعد ذلك يأتي التفكير بقضايا الحزب والناس، بصورة تقليدية متهالكة. هذا الانحراف، يظهر تدريجيا كأعراض مرض خطير عند بعض أوساط الأجيال الشابة من الباحثين والنشطاء داخل الأحزاب وخارجها.

كيف نواجه هذا المرض ونبتكر خطا سياسيا وأخلاقيا بديلا، هو التحدي الأكبر أمام الأجيال الجديدة أو من لم يتلوث منها بهذا المرض، ومن يقوم على مدار الساعة بتحدي الجهل والتجهيل، والانشغال في تحرير الخيال من قيود التقليد والتكلس، ومن آفة الذاتية القاتلة.

التعليقات