04/01/2020 - 20:56

سؤال الشباب.. بعد عقد من الحراك

كل هذا الانهيار الأخلاقي السياسي، يستحق التوقف مليًا أمامه والانشغال في تقديم المزيد من المساهمات التحليلية، من أجل تحديد العلاج الشافي، وإنقاذ الناس من عملية نزع السياسة والتجهيل.

سؤال الشباب.. بعد عقد من الحراك

من بين الأمور والأسئلة المحلية التي تشغلني في السنوات الأخيرة، وبعد انقضاء عقد عاصف من الأحداث الكبرى، عقد الثورات العربية وحركات الاحتجاج العارمة في عدد من دول العالم، هو السؤال الذي يتصل بدور الشباب الفلسطيني، وتحديدًا داخل الخط الأخضر، في عملية التغيير السياسي وإعادة الاعتبار للمسألة الوطنية. إذ إنه في الشق الثاني من الوطن، الأرض المحتلة عام 1967، تابعتُ عدة دراسات وندوات مهمة حول هذه المسألة، التي عالجت خلفيات ومآلات الحَراكات الشبابية الفلسطينية التي استلهمت "الربيع العربي"، وانطلقت في رام الله ومدينة غزة في آذار/ مارس عام 2011، والتي جرى قمعها من السلطتين المنقسمتين. وهذا يعني أن الانشغال في هذا السؤال ليس شخصيًا أو فرديًا (مع أني عملت مباشرة مع هذا الجيل طيلة حياتي السياسية)، بل هو سؤال وطني بامتياز، ينشغل فيه الباحثون الفلسطينيون من مختلف الأعمار .

لا أسعى في هذه العجالة إلى الإجابة عن الأسئلة المتفرعة من السؤال المطروح، بل لتحفيز الباحثين والنشطاء، الشباب تحديدا وهم كثر، إلى التصدي بجدية وشمولية للإجابة عليه، ليس لغرض البحث فحسب، بل لتحويل طاقة هذه الشريحة العمرية إلى فعل سياسي وشعبي مباشر، خصوصًا وأن الظرف الحالي يلحّ أكثر على الفعل.

تنبع وجاهة هذا السؤال من عدة معطيات مهمة:

الأول؛ تميز العقد الأخير بحَراكات شبابية وطنية واجتماعية جريئة، مثقفة وصدامية، عابرة للأحزاب والحركات، والذي امتد فعلها من ساحات الجامعات إلى الشوارع، وكان أبرزها قيادة المواجهات ضد مخطط برافر الاقتلاعي على مدار عام 2013. وهذا الأمر شكل تطورًا إضافيا ومتقدما عن الحَراكات الطلابية الفلسطينية الوطنية الجريئة، التي شهدتها الجامعات الإسرائيلية منذ أواسط السبعينات وعلى مدار الثمانينات، في مواجهة مع تركة الحكم العسكري. كان جيلنا، الخارج بعزة ومرفوع الرأس من يوم الأرض، يريد تأكيد حضور هويته الوطنية الفلسطينية في الساحة الطلابية الجامعية.

الثاني؛ ظهور شريحة واسعة من الشباب الأكاديميين والمثقفين والنقديين (من الجنسين)، الذين يملكون وعيا وحسًا بمعنى التغيير بمفهومه الشامل، الوطني والعصري والحديث، وبحاجة مجتمعنا وشعبنا إليه. ولهؤلاء مقومات من إنتاج فكري وثقافي وأدبي مرموق، وللعديد منهم مساهمة ميدانية، وإن متقطعة. وهذا المعطى هو جزء من صيرورة اجتماعية يتصل بتوسع الطبقة الوسطى، متنوعة الاتجاهات السياسية والسلوكية بين فلسطينيي الداخل، والذي يبحث قطاع واسع منها عن موقع على هامش الاقتصاد الإسرائيلي.

الثالث؛ وصول العديد من أبناء وبنات هذا الجيل إلى مواقع متقدمة في الأحزاب والحركات، بل بعضهم يقف على رأس هرم هذه الأجسام السياسية، وآخرون أصبحوا أعضاء كنيست، وآخرون يتولون قيادة مؤسسات في المجتمع المدني.

الرابع؛ ظهور أعداد كبيرة نسبيًا من مهندسي الهايتك، والذي بات لبعضهم سمعة وشهرة، هذا ناهيك عن الاختصاصيين في حقول أخرى

الخامس؛ اكتساب هذه الشريحة العمرية، وخاصة طلائعهم، وعيا كاملا بضرورة الارتباط بالمشروع التحرري الوطني الفلسطيني. لا ينطلي على طلائع هذا الجيل ادعاء خصوصية واقع فلسطينيي 48، كمسرب انتهازي للهروب من الواجب الوطني. لدى هذه الطلائع الوعي بهذه الخصوصية، ولكنها تتعامل معها كرافعة تعزز هوية هذا الجزء من شعبنا، وتُمكِّنه من مقاومة النهب والتهويد والتهميش، وفي الوقت ذاته توظفها في إطار إستراتيجية التحرر الشاملة.

وعودة إلى ذاك السؤال؛ لماذا يستمر التعثر الخطير في عملية التقدم الجمعي الذي تحقق في السابق، سواء على مستوى التنظيم أو الرؤية الوطنية، أو الخطاب السياسي، رغم وجود هذا الكم من الكوادر الشبابية الواعية، ورغم الدور الميداني الذي اضطلعت به طلائعهم، والوعي الذي تمتلكه. لماذا لم يتمكن الشباب من تأطير أنفسهم في أطر وطنية جامعة، حديثة ذات بعد تحرري، تكون ترجمة لما يحملونه من فكر جديد ومتقدم، ومستمد من الجمع بين القراءة العميقة والإبداع الذاتي. لماذا غادر العديد منهم أحزابهم، ولماذا يستنكف آخرون عن النشاط، رغم الاحتفاظ بعضويتهم الحزبية. لماذا لا تجد أعداد واسعة من طلائع ونشطاء هذا الجيل فضاءً في هذه الأحزاب لممارسة عطائها؟ هل بسبب نزقها؟ أو لحداثة تجربتها؟ أم بسبب انتهازية القيادات التاريخية وجمودها الفكري أو لقصور بنيتها الذهنية التقليدية، لتفهم حاجات وقدرات ورغبات هذا الجيل؟ أم لشعور هذه القيادات بالنقص أمام تفوق بعض طلائع الشباب، ليس فكريا فحسب، بل أخلاقيا أيضًا؟

والجزء الأخطر من السؤال؛ كيف ولماذا، عندما وصل بعض الشباب إلى مقدمة دفة القيادة في أحزابهم السياسية، وأصبح منهم أعضاء كنيست، تسارع انحطاط الخطاب السياسي وازداد الفقر المعرفي لديهم؟ بل كم هو مذهل وصادم أن يقود هؤلاء عملية الانحطاط، مستغلين ضائقة الناس. وكم هو مذهل وصادم، أيضًا، أن يلتحق بعض هذا الجيل من أحزاب أخرى، بنفس المدرسة الانتهازية متنصلين من تقاليد أحزابهم الوطنية. ولماذا تصبح عضوية الكنيست إغواءً لهذه الدرجة؟

كل هذا الانهيار الأخلاقي السياسي، يستحق التوقف مليًا أمامه والانشغال في تقديم المزيد من المساهمات التحليلية، من أجل تحديد العلاج الشافي، وإنقاذ الناس من عملية نزع السياسة والتجهيل.

نعم، لدى أبناء وبنات الجيل الجديد العديد من الهموم الشخصية الشرعية، فاقمتها ثقافة العولمة وتحدياتها، ولا بد من التفرغ لها، لكن كل ذلك لا يعفي طلائع الجيل الجديد، الذي يقول إنه مجروح وإنه يرغب في الانخراط الفاعل في عملية التغيير، من المسؤولية عن القصور في التصدي لهذا التدهور. ليس اللجوء إلى العمل الفردي مهما كان مبدعًا ومميزًا أن يحل مكان العمل الجماعي والعمل السياسي المباشر، ليُجنّد ويُنظّم الناس تحت سقف رؤية وطنية جامعة، تكون ندًا للقوى التقليدية ولاعبًا مركزيًا في تشكيل خطاب سياسي وطني، تحمله حركة وطنية ديمقراطية جامعة، وبرنامج عمل يومي يتواصل مع هموم الناس المباشرة، في كل تجمع فلسطيني، داخل فلسطين التاريخية وفي الشتات والمهجر.

تلك مهمة أخلاقية تستحق الجهد والتضحية، يتطلع إليها الكثيرون من أبنائنا وبناتنا...

التعليقات