18/01/2020 - 19:24

بين اليسار الصهيوني والقائمة المشتركة

إزاء هذه الحالة السياسية والاجتماعية المزرية، تتصاعد حالة الإحباط والقلق عند المعارضين والساخطين، سواء مجموعات أو أفراد، من إمكانية وقف تسونامي تخريب الوعي والسياسة معًا. وهذا الإحباط نابع من عدة عوامل:

بين اليسار الصهيوني والقائمة المشتركة

لفظ اليسار الصهيوني دور المهرج العربي من صفوفه، وذلك على مذبح الصراع الصهيوني الداخلي. فقد فضل هذا اليسار وحدته، القائمة أساسًا على جوهر الصهيونية - يهودية الدولة، على شعار التعاون اليهودي العربي الزائف، كما فعلت "ميرتس" في تحالفها مع حزب العمل. وهكذا تكون هذه الخرافة قد انتهت إلى سلة المهملات، ولكن سيحاول اليسار الصهيوني إحياء هذا الشعار مرة أخرى، لأنه قد لا يحتمل الظهور بلا قناع.

من المحزن أن هذا الفلسطيني انتظر كل هذا الوقت، مُغيّبًا عن الوعي، دون أن يصحو ويكون هو المبادر في رفس هذا اليسار الصهيوني الكولونيالي، إذ إن الانخراط في صفوف حزب صهيوني هو أمر غير أخلاقي وغير وطني.

كانت خطوة زهير بهلول بأن يختار اللحاق بحزب العمل الصهيوني، بالتزامن مع تأسيس القائمة المشتركة لأول مرة في 2015، خطوة خارجة عن كل منطق والأخلاق، وقد غفر له البعض بعد انسحابه من الحزب، والتخلي عن عضوية الكنيست، بعد صدور "قانون القومية" في صيف عام 2017.

ولكن الأكثر سريالية وخطورة، ليس تآكل خرافة العمل من داخل الأحزاب الصهيونية، التي ساهمت فيها حركة الوعي الوطني منذ يوم الأرض وبعد هبة فلسطينيي الداخل العارمة عام 2000، بل هو انتقال التهريج إلى الـ"مينستريم" (التيار المركزي)، إلى أحزاب المشتركة. فقد بدأت خرافة التأثير من داخل الأحزاب الصهيونية، تأخذ أشكالًا جديدة، سماتها الهشاشة، والفهلوية، والسطحية، في إطار هذا الجسم العربي البرلماني، الذي بات يضبط إيقاعه إعلاميًا شابٌ لا يملك خلفية عقائدية ولا رؤية سياسية مستقبلية. والمذهل أن ممثلي الأحزاب الأخرى، وإن أبدى بعضهم ممانعة (لفظية في الأساس)، تكيّفوا عمليا مع هذه الصيرورة المنزوعة عن التاريخ والسياسة، فغابت الفروق والتمايزات، والأخطر أنهم فرضوا هذا التكيف على المكاتب السياسية للأحزاب، وعلى جزء من قواعدها، ما أدى إلى قتل السياسة والمعرفة، ومن ثم الدفع إلى الانخراط البنيوي في البنية الاستعمارية المتشكلة على مدار عشرات السنين.

لقد بلعت الكنيست الأحزاب كلها، وبلعت معها قيم هذه الأحزاب والحركات إلى حد كبير، ولم يعد هذا المنبر الاستعماري خيارًا من بين خيارات، بل حلم لجيل كامل من السياسيين.

إزاء هذه الحالة السياسية والاجتماعية المزرية، تتصاعد حالة الإحباط والقلق عند المعارضين والساخطين، سواء مجموعات أو أفراد، من إمكانية وقف تسونامي تخريب الوعي والسياسة معًا. وهذا الإحباط نابع من عدة عوامل:

الأول: تشويه جاذبية فكرة الوحدة لدى الناس؛ إذ تتمثل هذه الجاذبية في عودة وحدة القائمة المشتركة في مواجهة ائتلاف يميني استيطاني حاكم، معادٍ صراحة للوجود الفلسطيني داخل الخط الأخضر وخارجه.

ثانيا: انتشار، أو بالأحرى نشر، الوهم بأن القائمة المشتركة قادرة على إحداث تغيير جذري في السياسة الإسرائيلية من خلال التوصية على رئيس الحزب الصهيوني اليميني المعارض لبنيامين نتنياهو، أي بيني غانتس. وهذا بحد ذاته يلغي الاجتهاد والانفتاح على المعرفة العميقة لواقع إسرائيل وواقع الفلسطينيين، وتحديدًا ما يصدر تباعًا من إنتاج معرفي عن مراكز الدراسات الكولونيالية والمقارنات التي تجريها بين التجربة الصهيونية والجنوب أفريقية وغيرها، باعتبارها تجربة استعمارية استيطانية إحلالية لا يمكن إصلاحها من الداخل.

ثالثا: الماكنة الإعلامية التي تمتلكها أو المتوفرة للقائمة المشتركة، وخاصة لرئيسها، ولمن سبقه في هذه المدرسة المتأسرلة، سواء المتمثّلة في وسائل التواصل الاجتماعي أو الإعلام الإسرائيلي المركزي، واعتماد هذه الوسائل، ليس لنشر المعرفة والحشد الوطني، بل لنشر التضليل والتجهيل السياسي.

رابعا: أزمة البديل؛ وهي أزمة لا تقل عن أزمة الموجود حاليا، ذلك أن الناقدين وهم كثر، إما صامتون، أو فاعلون في مبادرات منفردة، ثقافية أدبية مهنية، أو أفراد يكتبون نقدا لا يصل إلى الجمهور العام، بل إلى جزءٍ من النخبة فقط. أي أن هؤلاء أيضًا يعيشون أزمة تتمثل في عدم القدرة على التصدي الفعلي والشامل لمسار التردي.

ولنبدأ بالنقطة الأولى؛ يتأثر الناس عاطفيا بفكرة الوحدة، لأن الوحدة مصدر قوة في مواجهة الخصم، ولما تنطوي عليه من عناصر التضامن والألفة. ومن الطبيعي، بل من الضروري أن تتوفر وحدة لدى جماعة وطنية تعيش حالة استعمارية قهرية. تكون هذه الجماعة محظوظة عندما تؤسس هذه الوحدة، وتقودها قيادة مؤهلة معرفيا، مسيسة ذات بوصلة، وذات قيم أخلاقية، ومستعدة للمراجعة الذاتية. وتكون سيّئة الحظ عندما يغيب هذا الصنف هذه القيادة. والمقصود بالقيم الأخلاقية، قيم التضحية والعطاء بدل الأنانية والإفراط في الذاتية والانغماس بالذات، هذا من ناحية؛ ومن ناحية ثانية، الابتعاد عن الشعبوية وتضليل الناس واستغلال ضائقتهم الاقتصادية أو ضعفهم في الظروف العصيبة. ومن ناحية ثالثة، التمسك بجوهر الصراع مع نظام فصل عنصري كولونيالي، لا يريدك ندًّا ولا مساويا، بل عبدًا، تقبل بالفتات على حساب قضيتك الوطنية.

النقطة الثانية؛ لقد نجحت قيادة المشتركة بالترويج لهذا الوهم، لأشهر قليلة، قبل أن يُوجه حزب "كحول لافان"، بقيادة مجرم الحرب الجنرال بني غانتس، مؤخرًا ضربة لهذا الوهم، وقبل أن يعترف رئيس القائمة المشتركة بذلك في صحيفة "هآرتس". المشكلة أنه رغم هذه الضربة، التي قد لا تكون قاضية، لا يزال من خطفوا المشتركة يصّرون على "عنزة ولو طارت"، ولكن هذه الضربة تساهم في تقويض خرافة التأثير من الداخل، وفي تنبيه الطيّبين من الناس الذين خدعوا.

النقطة الثالثة؛ لا يعرف معظم الناس الدعم المادي الكبير الذي يأتي من جمعيات أميركية (صهيونية ليبرالية معارضة لسياسة نتنياهو، وتريد إعادة القناع "الديمقراطي" الزائف والمضلل المتآكل إلى وجه إسرائيل)، بهدف رفع نسبة المصوتين العرب في الانتخابات لهذا الغرض الصهيوني بالذات، أي حماية سمعة إسرائيل من سياسات نتنياهو. وهذا بالطبع تدعمه سلطة أوسلو، وتُقحم نفسها مباشرة في عملية ترسيخ هذا النهج البائد. إنّ الحملة الإعلامية التضليلية التي تديرها ماكنة إعلامية مدعومة بمصادر تمويل كبيرة ستواجه تحديات جدية بعد انكشاف هذه الحقائق.

النقطة الرابعة؛ لا يواجه هذا النهج معارضة منظمة حقيقية ومتحدية، لا من داخل المشتركة، ولا من خارجها. هناك بعض التحفظ الخجول الذي لا تأثير له، بل حتى تلك الأصوات الخجولة باتت غطاءً لهذا النهج غير الوطني، ومتكيفة وربما سعيدة، لاعتقادها بأنها حصلت على شرعية من المتأسرلين، وبذلك تخلت عن شرعيتها الوطنية ورسالتها التاريخية.
هذا التحول - الانحراف السياسي، الذي بات مسنودًا من رؤساء سلطات محلية، وأوساط واسعة من الجمهور، فضلا عن اليسار والوسط الصهيوني، يربك ويضع تحديًا أمام العديد من المعارضين والساخطين من هذا الانحدار، ويجعل الكثير منهم في حالة شعور بعدم القدرة أو العجز عن فرملة هذا النهج، لأنه مدعوم بقوة ليصبح نهجًا أو تيارًا جارفًا. وبما أن ليس كل ظاهرة جارفة سواء في الطبيعة أو في المجتمع إيجابية، بل في أحيانٍ عديدة تكون تدميرية، فإن ما هو مطلوب هو الصمود والتماسك، وعدم التخلي عن الموقف السياسي السليم، والأخلاقي القويم، لأنه في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح، ولكن ذلك يحتاج أيضًا إلى فعل منظم حقيقي، جماعي وشامل.

التعليقات