01/02/2020 - 17:25

منطقة المثلث وخطاب التأسرل

هذا هو الخطاب، التحرري الإنساني الكفاحي الآخذ في التشكل، وإن استمرار تجاهله هو أخطر من كونه تبديد للوقت والموارد، بل إراقة المزيد من الدماء والمعاناة من بدون جدوى.

منطقة المثلث وخطاب التأسرل

الصحافي الإسرائيلي في التلفزيون الإسرائيلي الرسمي يلحُّ على رئيس البلدية العربي الغاضب بسبب شمل خطة ترامب ضم منطقة المثلث إلى السلطة الفلسطينية: "هل أستطيع أن أسمع منك بشكل واضح أنّك تعتز بكونك إسرائيليا؟". رئيس البلدية يتهرب من الإجابة بنعم قاطعة، ولكن الصحافي المستعمر يُعيد السؤال مرة أخرى دون جدوى، فيجيب الأوّل بالإيجاب بكلمات غير مباشرة. أي أنه يَظهر للمشاهد والمستمع متشبثًا بالعيش في ظل دولة إسرائيل وليس فقط في أرضه.

كان رئيس البلدية ذاته قد تعرض لنوع الأسئلة والخطاب، الاستعماري ذاته في مقابلة في إذاعة إسرائيلة، نهار اليوم ذاته. كان يغلي غضبًا، ولا أشكُّ في صدق غضبه، معبرًا أولا عن عدوانية الدولة ككل ضد مواطنيها العرب، وعن خيبة أمله الشديدة من موقف ممن سماهم العقلاء الإسرائيليين بسبب تأييدهم للخطة، مستنتجًا أنه ليس الحكومة التي تعادي العرب فقط، بل الدولة ككل، لأن كل ألأحزاب الصهيونية أيدت الخطة (باستثناء ما تبقى من حزب ميرتس).

وتعرض رؤساء بلديات أخرى من منطقة المثلث، بالإضافة لممثلي جمهور، لقصفٍ مشابه من الأسئلة الاستعلائية التي تهدف إلى وضعهم في موقع الدفاع، وامتحان للولاء لـ"دولتهم" اليهودية الصهيونية، عدوة شعبهم.

يُخفق ممثلو الجمهور الفلسطيني داخل الخط الـخضر في تقديم إجابة سياسية شافية، إذ ينطلقون من أنهم مواطنون إسرائيليون فقط، حتى لو أدخل بعضهم في إجاباته "أننا ننتمي إلى الشعب الفلسطيني"، وبذلك تترك إجاباتهم، ونوعية خطابهم انطباعًا لدى الرأي العام الإسرائيلي، أنهم يحبون نعمة إسرائيل ويفضلونها على العيش مع إخوتهم الفلسطينيين في ظل كيان فلسطيني. وبالطبع يوجد عرب من هذا الصنف.

والحقيقة، إنّ لجوء وسائل الإعلام الصهيونية إلى تحويل مقابلاتها مع المواطنين العرب وممثليهم، إلى طلب إعلان الولاء في منطقة المثلث، بدأ منذ أن بدأت تتسرب توجهات إسرائيلية رسمية لضمّ المثلث إلى السلطة الفلسطينية، بعيد الانتفاضة الثانية، وازداد بعد أن تحوّل مخطط الضم إلى جزء من البرنامج الرسمي لحزب "يسرائيل بيتينو" بقيادة أفيغدور ليبرمان.

إنّ فهم خلفية خطاب غالبية ممثلي الجمهور الفلسطيني، من رؤساء بلديات أو أعضاء كنيست أو أطر تمثيلية، مهنية واجتماعية داخل الخط الأخضر، فهمًا صحيحًا لا يتحقق بمعزل عن النكبة، آثارها وتفاعلاتها، وعن مسار تطور علاقة الفلسطينيين بإسرائيل حتى اليوم. وقد خضعت هذه العلاقة المركبة لدراسات وأبحاث، فككت عناصرها وفسّرت أسبابها، وسعى بعضها إلى إيجاد معادلة توازن معقولة بين هذا الواقع ومتطلباته، وبين الانتماء الوطني ومتطلباته، وظهرت أحزاب وطنية سعت إلى ممارسة هذه المعادلة في بحر من التناقضات. غير أننا نشهد مؤخرًا ردةً خطيرة بسبب بؤس القيادات الحالية التي تجنح إلى تغليب الجانب المدني على حساب الوطني، ومن تجليات ذلك التوصية على مجرم حرب، يميني، لرئاسة الحكومة الإسرائيلية. لقد أوقعت حملة التحريض والملاحقة السياسية والأمنية والقانونية للتيار الرافض للاندماج، الرعب في أوساط بعض ممثلي الجمهور الفلسطيني، ممن أفقدهم توازنهم وحولهم إلى وكلاء لتمرير خطة السلام الاقتصادي كممر لترويضهم سياسيًا، وتقويض الخطاب الوطني. وهي وكالة، بدأ اعتمادها عبر سلطة أوسلو في الشق الثاني من الوطن، منذ أكثر من عشرة أعوام لإسكات المقاومة.

إذًا كيف نردُّ على إمكانية ضمّ المثلث إلى السلطة الفلسطينية، الواردة في مخطط ترامب وفريقه الصهيوني؟

أولا، كفلسطينيين يحملون المواطنة الإسرائيلية، لا يجوز أن يتركز غضبنا على بند واحد من الخطة. إن الخطة تستهدف كل شعبنا الفلسطيني، من يسكن في فلسطين ومن طُرد منها. وفي أثناء توجيه الأسئلة لنا، يجب أن نصبُّ جامَ غضبنا على الخطة ككل، أولا لتأكيد فلسطينيتنا فعلا لا قولا؛ وثانيًا، لتأكيد إنسانيتنا، أي أننا لسنا أنانيين نغفل مآسي أناس آخرين في سبيل فتات الخدمات. وبالمناسبة، في هذه الحالة هم أبناء شعبنا، وأن نحول السؤال إلى هجوم على طبيعة دولة إسرائيل، ككيان عنصري عرقي، يواصل عملية التطهير العرقي.

ثالثًا؛ نقل مواطنة الفلسطينيين إلى السلطة الفلسطينية، معناه أن نعيش أسوة ببقية شعبنا تحت حكم عسكري قمعي ومتوحش، وتحت حكم المستوطنين وفي واقع من الحواجز ونقاط التفتيش، وفي ظل قيود شديدة على الحركة والتنقل، في حين أن المطلوب هو إنهاء نظام الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنهاء نظام التمييز العنصري وإعادة اللاجئين.

لا يذكر غالبية المتحدثين العرب في معرض الإجابة عن سؤال مصير المثلث، أن السلطة الفلسطينية ليست دولة مستقلة كاملة السيادة، بل هي كيان محتل وملحق بنظام الأبرتهايد العنصري الكولونيالي، بل تم تحويلها وبتخطيط إسرائيلي - أميركي، خصوصًا بعد قمع الانتفاضة الثانية، إلى وكيل ثانوي لحماية الاستعمار من المقاومة.

رابعًا؛ ليست المواطنة الإسرائيلية منةً من دولة إسرائيل، بل كانت شرطًا من شروط منظمة الأمم المتحدة لقبول الاعتراف بها كدولة. ولم تفرض إسرائيل المواطنة على من نجا من التطهير العرقي، وتسمح بحق التصويت إلا بعد أن ضمنت اقتلاع ذويهم وطردهم، حتى تصمن إسرائيل غالبية يهودية، أي ديمقراطية استعمارية عرقية. ومع ذلك، فإن إسرائيل واصلت تجريدهم من مقومات حياتهم كالأرض والموارد، ومن هويتهم الوطنية، وخططت أكثر من مرة لطردهم دون جدوى. هكذا حوّلت إسرائيل المواطنين العرب إلى خطر أمني ومواطنين من الدرجة الثانية، ليتم إخضاعهم بين الحين والآخر إلى امتحان في الولاء.

خامسًا؛ يجب أن يوضح ممثلو الجمهور العربي، أن ما حققه الفلسطينيون، داخل الخط الأخضر من إنجازات تعليمية وثقافية وسياسية كبيرة، وتشكيل حركاتهم السياسية، هو بفضل جهودهم ونضالهم وليس لكونهم يعيشون تحت حكم إسرائيل، وأنه لو لم يتم غزو فلسطين، ولو لم يتم اعتماد السياسات العنصرية والاستعمارية لتمكنوا من بناء كيانهم الثقافي المستقل، حكم ذاتي، جامعات عربية، ومدارس مستقلة، واقتصاد مستقل. ولولا غزوهم لبلادنا، لكنا جزءًا من دولة فلسطينية من البحر إلى النهر، ونعيش مع شعبنا تحت نظام ديمقراطي غير استعماري وغير عنصري، يعامل الجميع بمساواة.

سادسًا؛ إن إسرائيل أو أي كيان سياسي قائم في البلاد، شرعي أو غير شرعي، مُجبرٌ على تقديم الخدمات لمن يقعون تحت إدارته بمساواة تامة ودون تمييز، وإلاّ فليترك هذه المسؤولية لغيره، وفي هذه الحالة تترك لأصحاب الوطن الأصليين.

وإذا تجاوزنا هذا النقاش بعد واقع ما بعد "قانون القومية"، وما بعد استكمال ترسيخ المشروع الاستعماري الاستيطاني في كل فلسطين التاريخية، والقضاء على وهم حل الدولتين، فإنه بات منطقيا وأخلاقيا تغيير مجمل التعامل مع إسرائيل باعتبارها مشروعًا كولونياليًا متوحشًا، لا بديل عنه سوى العدالة المتمثلة في استبدال هذا المشروع بدولة ديمقراطية مساواتية، يجري تجنيد كل القوى والموارد والفكر التحرري لتحقيقه.

هذا هو الخطاب، التحرري الإنساني الكفاحي الآخذ في التشكل، وإن استمرار تجاهله هو أخطر من كونه تبديد للوقت والموارد، بل إراقة المزيد من الدماء والمعاناة من دون جدوى.

التعليقات