12/02/2020 - 16:37

نحن والعرب: الحسابات المعياريّة بما لا يتجاوز وعي الهويةِ

يُؤكدُ مجازُ الفجيعةِ: أنَّ الخللَ الفادحَ في عبارةِ "أكلتُ يومَ أكل الثور الأبيض"، إنما يكمنُ في حركةِ الثورِ يومَ تخلى طوعا عن قطيعِهِ، وهو ما وقعَ فيهِ الفلسطينيّ خلالَ بحثِهِ الدؤوبِ عنْ استقلاليّةِ قرارِهِ الوطنيّ، فاستمرَّ في سيْرهِ عكسَ ما

نحن والعرب: الحسابات المعياريّة بما لا يتجاوز وعي الهويةِ

يُؤكدُ مجازُ الفجيعةِ: أنَّ الخللَ الفادحَ في عبارةِ "أكلتُ يومَ أكل الثور الأبيض"، إنما يكمنُ في حركةِ الثورِ يومَ تخلى طوعا عن قطيعِهِ، وهو ما وقعَ فيهِ الفلسطينيّ خلالَ بحثِهِ الدؤوبِ عنْ استقلاليّةِ قرارِهِ الوطنيّ، فاستمرَّ في سيْرهِ عكسَ ما نبَّهَ إليهِ محمود درويش في معرضِ رثائِهِ لـ"نبيّ التيهِ الفلسطينيّ" ياسر عرفات حينَ قال: "لنْ نكونَ فلسطينيين إلّا إذا كنّا عربًا، ولنْ نكونَ عربًا إلّا إذا كنّا فلسطينيين".

وبلاغةُ الفجيعةِ هنا، أنّنا منْ حيثُ ندري أوْ لا ندري، رفعنا عنْ كاهِلِ العربِ، مسؤوليةَ تحريرِ فلسطين، بوصفِها جزءا لا يتجزأ منَ الجسدِ العربيّ المكلومِ، تمامًا كما فعلتْ اتفاقيّةُ "أوسلو" حينَما غضّتْ الطرْفَ عنْ عمقِها الديمغرافيّ، يومَ قَبِلَ الموقّعونَ عليها رفعَ مسؤوليّتهم عنْ فلسطينيي عام 1948. "ويا ويلنا منْ فجيعةٍ أنْ بتنا أرقامًا، ها هنا فلسطينيو الـ67، وعلى بُعد وهلةٍ فلسطينيي الـ48".

أما العربُ، فلا جُناحَ عليهِمْ إنْ وقعوا فيما وقعنا، طالما كانَ السقوطُ، سقوطًا حرًا في أحضانِ مغولِ العصرِ، علمًا بأنَّ الإمبراطوريّةِ المغوليّةِ كانتْ أضخمَ إمبراطوريّةٍ ككتلةٍ واحدةٍ في التاريخِ البشريّ، فيما مغوليّ اليومِ فهوَ بطلٌ منْ ورقٍ أوْ "فتوّة" في أفضل أحوالهِ، وهوَ منْ وصمَ نفسَه بذلكَ دونَ أنْ يرِفَّ لهُ جفنٌ، حينَ جاهرَ بأنَّهُ يتقاضى نظيرَ حمايتِهِ لبعضِ أنظمةِ الحكمِ والممالكِ هنا وهناك.

وأمّا عمقنا الوطنيّ؛ فلسطينيو حيفا، ويافا، والناصرة، والمثلث، واللد والرملة إلى آخرِ سطرِ فلسطينَ الطويلِ، ليسَ ثمّةَ ترفٌ في القولِ: إنّنا كتلةٌ واحدةٌ كنّا ويجبُ أنْ نعودَ، فلا يصحُّ ولا يستقيمُ، أنْ يجابِهَ كلٌّ منا ذاتَ العدوّ، فيما المأساةُ واحدةٌ، يجبُ أن تكونَ مُوحّدةً، بعيدًا عن فوضى الشعارِ، قريبًا منْ شرطِ المصير.

فلعلَّ من فضائلِ ما طرحهُ سيّدُ البيتِ الأبيضِ "الفتوة" دونالد ترامب، إنْ كانَ لما طُرحَ منْ فضائلَ، أنْ ذكّرنا بأنّنا جميعًا منْ فصيلةِ دمٍ واحدةٍ كانتْ تسمى فلسطينْ، وأصبحتْ تسمى فلسطينْ، ذلكَ حينما وردَ في مشروعِهِ الاستسلاميّ، ضمّ منطقةِ المثلثِ بأهلِها إلى السيادةِ الفلسطينيّةِ، وكأنَّ المقاربَةَ المكانيَّةَ المنزوعةَ منْ سياقِها، هيَ أصلُ الصراعِ وأساسهِ. إلّا أنَّهُ ذكّرنا أيضًا بما كادَتْ "أوسلو" أنْ تُنسينا ولوْ إلى حين، وها هو الحينُ قدْ أتى لنواجِهَ مصيرَنا، وجهًا لوجهٍ، فهلْ سننجو معا، أم سيبحثُ كلّ منا عنْ مصيرهِ بعيدا عن الآخر؟

ولأنَّ الوعيَ الفلسطينيّ الحيّ لا يجبُ أنْ يخطئَ الهدفَ، ولا يصحُّ أنْ يرتبِكَ في اللحظةِ الحاسمةِ، كونَ "فلسطينَ التي هيَ أكثرُ منْ ذاكرةٍ" على حدّ تعبيرِ غسّان كنفاني، هيَ ذاكَ الجسدُ الذي لا ينسى أوْ يتناسى روحَهُ بينَ فكّي الجلّادِ، وحيدةً بلا أذرعٍ أو أعضاءٍ تتداعى إنْ شعرتْ ولوْ بعوارضِ الحمى، فما بالَنا وهيَ تشعرُ بالضّياعِ، والأمرُ ينطبقُ على الكلِّ الفلسطينيّ أينما نصبَ خيامَ نكبتِهِ.

ذلكَ كونَ ما يمكنُ أنْ يُعرّفَ بالاستدلالِ الضمنيّ، يقولُ إنَّ "الأنا" شكل منْ أشكالِ الـ"نحن" بالمعنى الموازي -كما يفسرُ بعضُ الفلاسفةِ أمرَ الهويةِ والذاتِ- لمْ يتمظهَرْ في تعاطي "الإسرائيليّ المُحتلّ وحليفِهِ الأميركيّ" معَنا باعتبارِنا كتلةً واحدةً، على سبيلِ المصادفةِ، مُسقِطا كلّ ما توهمنا أنَّهُ سيكونُ تنازلًا مؤلمًا على هوامشِ "السّلام". ما يدعو لتقريعِ الذاتِ، أنَّ "الآخرَ النقيضَ" مَنْ فَعَلَ، ولسْنا منْ تقدَّمَ بممارسَةِ الفِعلِ.

وبالعودةِ لما نبَّهَ إليهِ درويش حولَ علاقتِنا الطبيعيَّةِ معَ ظهيرِنا العربيّ، وعلاقتِهِ معنا، والإشارةُ هنا، إلى الشعوبِ قبلَ الأنظمةِ، فعلينا وإياهُمْ الإدراكُ، أنَّ أبعادَ الحيّزِ الجغرافيّ والتاريخيّ والعقائديّ للمنطقةِ، لا يمكنُ لها أنْ تسقِطَ الفضاءَ الفلسطينيّ منْ حساباتِها المعياريّةِ، لأسبابٍ عدَّةٍ، تلعبُ قدسيّةُ المكانِ فيها دورَ البطولةِ، كما لا يمكنُ للفلسطينيّ أنْ يتجاهلَ ما أسماهُ درويش في نفسِ الكلمةِ المشارِ إليها سابقًا، "وعيَ هويةٍ لا تعاني منْ قلقِ التعريفِ". بهذا المعنى، جديرٌ بنا أنْ نمتلكَ المهارةَ الكافيَّةَ، لإعادةِ صياغةِ العلاقةِ في كلا الاتجاهين، "الداخلِ الفلسطينيّ والظهيرِ العربيّ" على أُسُسٍ، لا تمسّ بالحساباتِ المعياريّةِ، ولا تتجاوزُ وعيَ الهويّةِ.


* أحمد زكارنة: كاتب وإعلامي وشاعر.

التعليقات