15/02/2020 - 14:08

عصابات الإجرام بين الصحافة والسلطة المحلية

لا بد من التفكير بعملية تنظيم تقودها هذه الطلائع المفكرة والمجددة، من خلال إبداع أساليب جديدة في التواصل مع الناس، الذين يتعرضون يوميًا لقصف من التضليل والتشويه، ما يعيق عملية تبلور وعي جديد واستعادة القيم الأخلاقية وفي مقدمتها التضامن الداخلي.

عصابات الإجرام بين الصحافة والسلطة المحلية

من المفترض أن تكون التحقيقات الصحافية التي أجرتها المخرجة والصحافية، سهى عرّاف، عن سيطرة الإجرام المنظم على العديد من السلطات المحلية الفلسطينية داخل الخط الأخضر، قد أحرجت بل صدمت الفاعلين في حقلين مهنيين هاميّن، لهما التأثير المباشر واليومي في حياة الناس اليومية، وفي تشكيل الرأي العام؛ هما السلطات المحلية والصحافة. وتستحق كاتبة ومعدة هذه التحقيقيات ثناءً وتقديرًا كبيرين، وذلك للمستوى المهني العالي، والجرأة في تناول مسألة خطيرة باتت تهدد أمننا الجماعي والفردي، وتمزق نسيجنا الاجتماعي، لم يتناولها أحد من الصحافيين العرب السابقين.

وأقول حكمي هذا استنادًا إلى خبرة شخصية طويلة نسبيًا في التحقيقات الصحافية، تعلمتها على يد ثلاثة صحافيين أميركيين وبريطانيين من ذوي التوجهات اليسارية، شاركوا في إطلاق صحيفة فلسطينية باللغة الإنجليزية هي "الفجر إنغليش" ("الفجر" بالإنجليزية) في العام عام 1980 في مدينة القدس، حيث عملت فيها تسع سنوات. ولا شك أن هذا المستوى من التحقيقات التي أجرتها سهى عرّاف، قد أحرج الكثيرين من الصحافيين العرب لافتقارهم لهذه الخبرة والجدية وروح الرسالة الأخلاقية والمهنية، التي يجب أن تُميّز الصحافي، خصوصًا المنتمي لشعب يتعرض لمخطط استعماري، ولتدمير اجتماعي منهجي.

يبقى هذا الموضوع الخاضع للتحقيق والبحث، أي سيطرة الإجرام المنظم على السلطات المحلية العربية، هو الأهم والأخطر والذي كان يتوقع بعد النشر الموثق، أن يثير عاصفة حقيقية في الداخل الفلسطيني، ولكن للأسف لم نلاحظ ردود فعل بحجم المصيبة. هي ظاهرة جديدة ربما لا تزيد عن ست أو سبع سنوات، ولكنها مرتبطة عضويا بمسارين: مسار الاستعمار، الذي يتحكم بالسلطات المحلية العربية، ويصوغ مسار تطورنا الطبيعي، من خلال تجريد البلدات العربية من الأرض وحصارها بالمستوطنات، واحتجاز التطور الصناعي وخنق إنتاج حياتنا الاقتصادية، مما يعمق التبعية الاقتصادية للمستعمر، والتي بدورها تفرز سلوكيات هجينة لدى رؤساء السلطات المحلية.

والمسار الآخر، هو البنية التقليدية لمجتمعنا، أي تركيبته القبلية، والتي مرت تحت حكم الاستعمار بتشوهات وبتحولات وتقلبات عميقة، أدت إلى فقدان القيمة الإيجابية الوحيدة لهذه البنية، ألا وهي قيمة التكافل الاجتماعي. ففي حين كان طموح الحمولة يتمثل في إيصال ابنها (البنت مستثناة) لرئاسة السلطة المحلية تعزيزًا لمكانتها بين الحمائل الأخرى في البلدة، أصبح اليوم وسيلة لتحقيق المنافع الشخصية لأفراد الحمولة. وبات يتعرض رئيس السلطة لابتزاز أفراد حمولته، الذين يمارسون ضغطًا عليه، حتى يخضع لهذه الابتزازات، وقلة قليلة جدًا من الرؤساء الذين صمدوا، وربما لم يصمد أحد منهم.

تشكل الانتخابات للسلطات المحلية ساحة تناحر طاحن بين المرشحين وأنصارهم، بحيث يغيب المُستعمر وجرائمه كليًا من حملاتهم وبرامجهم الانتخابية، باستثناء برامج بعض الحزبيين. ويتنافس مرشحون على تقديم الرشى للمصوتين والوعود بالوظائف، من دون أي حرج. والخاسرون يضطرون إلى الاستدانة من الأصدقاء والبنوك لسداد تكاليف الحملات الانتخابية، مما يفتح المجال لازمات مالية جديدة، وانحرافات اجتماعية وأخلاقية.

لقد حاول بعض المرشحين تقديم صورة مختلفة عن هذه الصورة القاتمة في العقدين الأخيرين، وتعهدوا بقائمة طويلة من العهود؛ مثل عدم الخضوع للابتزاز، وعدم توظيف أبناء وبنات عائلاتهم فقط لكونهم أقرباء، وإقامة مجالس استشارية شعبية، والالتزام بالموقف الوطني وغيرها من الأهداف الاجتماعية والمهنية والأخلاقية. وقدمت أحزابنا دعمًا لهؤلاء، غير أن خيبة الأمل كانت كبيرة.

لم يصمد غالبية هؤلاء بل ربما وجد جميعهم أمام دينامية ممارسة السلطة ومتطلباتها، وأمام نشوء الرغبة الإنسانية في البقاء في السلطة. هنا يبدأ مسلسل التنازل والتدهور، ويصبح الرئيس غير الرئيس الذي خاض الانتخابات في المرة الأولى. ومن أجل البقاء في السلطة، يرفع الرئيس الجديد الغطاء كليًا عن القواعد الأخلاقية فيستجيب للمبتزين، ويصبح فاسدا متمسكًا بالرئاسة، بأي ثمن.

وأصاب أحزابنا ما أصاب الرؤساء، حيث الرغبة في التأثير وفي عدم الانعزال عن المجتمع، دفعتها للاصطفاف إلى جانب هذا الرئيس أو ذاك؛ غير أنها مع الوقت تكيفت هذه الأحزاب مع الواقع الاجتماعي المتحول بسرعة، ووجدت نفسها أمام واقع وكأن لا رجعة عنه سوى بالإيغال في المسار نفسه، وإلا ستكون خارج عملية التأثير والتوجيه، وخارج الكنيست.

يمكن فهم خلفيات الاصطفاف إلى جانب هذا الرئيس أو ذاك، إذ لا يستطيع الحزب السياسي الوقوف جانبًا في معركة الانتخابات المحلية، حيث يجري زجّ أكثر من تسعين في المئة من سكان القرية في الانتخابات بسبب التحشيد الحمائلي، هذا بالإضافة إلى كون السلطة المحلية هي عنوان هموم المواطن اليومية. ويرى عديد المراقبين أن الأحزاب تتحمل المسؤولية الكبرى عن تهميشها، وتحولها إلى تابعة للحمولة أو للتحالف مع عائلات.

في هذا السياق الاستعماري والإفسادي، تتوغل عصابات الإجرام إلى السلطات المحلية، فتحظى بمناقصات وعطاءات بأساليب التفافية، ويصبح رئيس السلطة حليفا لها ومساهمًا بعملية التخريب المجتمعي. إننا في مرحلة في غاية الخطورة ومهددة لنسيجنا الاجتماعي ولمناعتنا، ولقدرتنا على مجابهة مخططات المستعمر. ولا يمكن فهم تدهور حالة السلطات المحلية إلى هذا المستوى، سوى من خلال السياق الذي أتينا على ذكره.

وإذا كان ممكنًا تفهم دوافع الأحزاب في دعم ائتلافات انتخابية ذات صبغة عائلية بسبب حاجتها للتأثير، لا يمكن تفهم غياب المراجعة النقدية لهذه التجربة، بحلوها ومرها، أي عملية إدارة الحياة اليومية للناس بطريقة مختلفة، واستحداث مقاربة جديدة عصرية لمجمل العمل البلدي. وهذا لن يأتي من رؤساء السلطات المحلية بسبب انشغالهم بإعادة انتخابهم بأي ثمن في الدورات القادمة، ولا من خلال سياسيين تقليديين، أدمنوا على التشبث بمواقعهم وتوقفوا عن التفكير. إنها لا بد أن تأتي من مفكرين جدد، كبار وشباب، تزخر الساحة بهم، وتنتظر مبادراتهم وانطلاقهم نحو أفق جديد.

لا بد من التفكير بعملية تنظيم تقودها هذه الطلائع المفكرة والمجددة، من خلال إبداع أساليب جديدة في التواصل مع الناس، الذين يتعرضون يوميًا لقصف من التضليل والتشويه، ما يعيق عملية تبلور وعي جديد واستعادة القيم الأخلاقية وفي مقدمتها التضامن الداخلي.

ليست المعركة سهلة، ولن تكون قصيرة، فالتخريب الحاصل واسع وعميق، ويحتاج إلى تفكير برؤية إستراتيجية وإرادة صلبة ونفس طويل، والبدء في عملية بناء البديل خارج البنى الحالية المتآكلة، والتي باتت عصية على التغيير من الداخل.

التعليقات