19/02/2020 - 15:54

العرب وهزيمة الهزيمة

المعنى والدلالة للخبرِ الوارد من الغرب، أن بعضَ دُولِهِ تبحثُ إمكانيةِ اعترافٍ مشتركٍ بدولةٍ فلسطينيةِ إلى جوارِ "الدولةِ الإسرائيلية"؟ لا يصبُ إلا باتجاهِ فقدانِنا لكلِ مظاهرِ الفعلِ العربيّ والفلسطينيّ على حدٍ سواء.

العرب وهزيمة الهزيمة

أحمد زكارنة

المعنى والدلالة للخبرِ الوارد من الغرب، أن بعضَ دُولِهِ تبحثُ إمكانيةِ اعترافٍ مشتركٍ بدولةٍ فلسطينيةِ إلى جوارِ "الدولةِ الإسرائيلية"؟ لا يصبُ إلا باتجاهِ فقدانِنا لكلِ مظاهرِ الفعلِ العربيّ والفلسطينيّ على حدٍ سواء.

ومحاولةُ فهمِ صيغِ الأخبارِ الواردةِ من شارعِ النبيّ دانيال بوسطِ الإسكندرية، منذُ إعادةِ افتتاحِ أقدمِ معبدٍ لليهودِ بالمدينة، إنما تُشيرُ إلى سياقِ التملق المذلِ للشخصيةِ المصريةِ والعربية بالرغمِ من غزارةِ الدمِ العربي، في كافةِ الحروبِ العربيةِ الإسرائيلية منذُ منتصفِ القرنِ الماضي.

كما لا تعني مشاركةُ ثلاثةِ سفراءٍ عربٍ خليجيين في مؤتمرِ إعلانِ "ترامب–نتنياهو" لصفقةِ القرن، سوى التسليمِ بالهيمنةِ الإسرائيليةِ على كاملِ المنطقةِ العربية، دونَ تحريكِ ولو جنديٍ إسرائيليٍ أو أميركي واحدٍ باتجاهِ أيّ من هذه الدول.

إن الرابطَ الأساس في النماذجِ المذكورةِ أعلاه بأبعادها الجغرافية، إنما يَكمنُ في العلاقةِ المفترضةِ بين السياقِ والمعنى، أما السياقُ، فلا حاجةَ لنا للتوقفِ أمامهُ كثيراً، كونهُ سياقًا أُنشئ وتأصلَ مع أولِ توقيعٍ لسلامٍ مفترضٍ بين العربِ وإسرائيل في "كامب ديفيد"، ولكن المعنى هو الأهمُ والأجدى للتفكيرِ في الحالِ الجيو–سياسي، وأبعادهِ الثقافيةِ والاجتماعية.

فدائمًا ما كنتُ أكررُ: في رحيلِ المعنى، هل ما زلنَا أحياء؟ والسؤالُ هنا ليس سؤالًا تشكيكيًا، بقدرِ ما يُشيرُ إلى خلاصةٍ استنكاريةٍ، تحملُ بذورَ التشظّي الفردي كنتاجٍ طبيعيٍ لتشظٍ جمعي فقدَ أدنى مُبرراتِ البقاءِ في حلقاتِ الفراغ.

هل فعلًا انتحرتِ الأوطانُ في أعيننِا؟ أم نحنُ من هوى من أعينِها؟ أيمكنُ أن نفقدَ معناها فرادى وجماعة، قيمةً وقامة؟ أم إن مبرراتِ الهمِ الفردي تشكلت على حسابِ الهمِ الجماعي؟ وماذا لو فقدنا الأولَ تمامًا، كما حدثَ مع الثاني، فبتنا عراةً بلا ورقةِ توت؟

لمحاولةِ الإجابةِ على هذه الأسئلةِ أو مقاربتها، علينا أولاً أن نتوقفَ أمامَ مفهومِ أو نظريةِ معنى المعنى، ذلك لأن لهذه النظرية الأدبية آثارًا بالغةَ الأهميةَ على الفكرِ والممارسة، وهو ما أشارَ إليه الكاتبُ والناقدُ الإنجليزي "آيفر أرمسترونغ رِتشاردز" في دراستهِ المهمةِ في أثرِ اللغةِ على الفكر.

فإن المعنى، ومعنى المعنى، عندَ عالِم البلاغةِ واللغةِ عبد القاهر الجرجاني يتمثلُ في ضربينِ أساسيين: "ضربٌ أنت تصلُ من خلالهِ إلى الغرضِ بدلالةِ اللفظ، وضربٌ يدلكَ اللفظُ على معناه الذي يقتضيهِ موضوعَهُ في اللغة"، ما يطرحُ علينا سؤالَ المعنى الموضوعي للأحداثِ التي تمرُ بنا في الواقعِ السياسي لدى العرب، هل من ضربٍ نصلُ منتهاهُ وأساليبَ تعاطينا معه من خلالِ ما يُطرحُ علينا من مشاريعٍ، أم هي مشاريعٌ تدلنُا على معناها؟!

فإن توقفنا أمامَ الأولى "ما يُطرحُ علينا من مشاريع" فالعربُ ومنذُ خمسينَ عامًا ويزيد، لم يحركوا ساكنًا على مستوى الفكرِ السياسي أو التطورِ العلمي ما يُمكنهم من اتخاذِ مواقفَ تحسمُ الصراعَ لصالحهِم، بل إنهم استوطنوا دائرةَ إصدارِ بياناتِ الشجبِ والإدانةِ والاستنكار، وما إعلانُ مشروعِ "صفقة القرن" ومِنْ قبلهِ "إعلانُ القدسِ عاصمةً لدولةِ الاحتلال" إلا خيرُ دليلٍ على ذلك.

وأما المشاريعُ التي تدلنا على معناها، فكلُ تلك النتائجِ النموذجيةِ التي أشرنا إليها في مقدمةِ المقال، وغيرها، إنما تدلُ على أمرٍ واحدٍ ووحيدٍ، يقولُ بشكلٍ واضح وصريح: إن إسرائيلَ الكبرى من النيلِ إلى الفرات، إنما باتت تعبيراتُها أمرًا واقعًا، أنكرنا ذلك أم لم ننكره.

وبما أننا نتحدثُ عن المعنى، لو أخذنا بعينِ الاعتبار، أن البشرَ هم من يصنعونَ تاريخهُم، كما تقولُ أحداثُ التاريخِ البشري، ويؤكدهُ فكريًا فوكوياما، فسنجدُ أن العربَ ومنذُ ما قبلَ ظهورِ الدولةِ الحديثة، فشلوا في صناعةِ تاريخٍ يُذكرُ لأسبابٍ عدةٍ منها على سبيلِ المثالِ لا الحصر، أن مفهومَ الدولةِ الحديثةِ لدى النخبِ العربية، لم يكن مفهومًا متأصلًا في وعيهمِ الجمعيّ منذُ محاولاتِ ثورةِ الصحوةِ والإصلاح التي قادها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، مرورًا بطموحاتِ مصر محمد علي وعرابي وسعد زغلول، وصولًا إلى المشروعِ القومي الناصري. ذلك لأن النخبةَ العربيةَ لم تعِ تمامًا، ماذا تعني المؤهلاتِ الاجتماعيةِ التي يجبُ توفرُها لتحقيقِ الحريةِ والمساواةِ والعدالة، والرفعِ من شأنِ القيمِ الإنسانيةِ والوطنية، والربطِ الحيوي بين السلوكِ الفردي والجمعي، ما أدى إلى تشوهِ منظومةِ القيم التي تُعدُّ من أهمِ الركائزِ التي تُبنى عليها المجتمعات. فانتشرت بين نخبها ما عُرفَت لاحقًا بثقافةِ الهزيمة.

من هنا علينا الانتباهَ لكوننِا حينما فقدْنا المعنى، لم نعدْ أحياءً إلا بالمعنى البيولوجي فقط، ما يعني أننا بحاجةٍ ماسةٍ ربما لصواعقَ كهربائيةٍ تُنبهُنا للتحولاتِ الكبرى التي مرت علينا ولا تزالُ، وبكلامٍ آخر على نحوٍ دقيق، نحنُ بحاجةٍ إلى ثورةٍ حقيقيةٍ تُحددُ لنا نقاطَ التحولِ ما بين المفهومِ والتوجه، الإدارةِ والإرادة، القوةِ الممكنةِ والكامنة.

هكذا فقط يُمكنُنا أنْ نخلقَ ثقافةَ هزيمة الهزيمةِ لنواجهَ صفقةَ القرنِ وتعبيراتِها الإسرائيلية ما بين النيلِ والفرات.


* أحمد زكارنة: كاتب وإعلامي وشاعر.

التعليقات